لا شك أنه منذ تولى الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد في المملكة العربية السعودية عام 2017، أو بالأحرى، منذ أن آلت مقادير المُلك إلى والده الملك سلمان بن عبد العزيز عام 2015، وضع على رأس سلم أولوياته التخفيف من وطأة المدرسة الوهابية على المجتمع السعودي، ورسم سياساته الاستراتيجية المستقبلية، لا سيما رؤيته المعروفة ب 2030 وإقامة مدينة نيوم الموعودة (أكبر وأحدث مدينة نموذجية في العالم على شواطئ البحر الأحمر، والتي يُراد لها أن تضاهي أو تتجاوز مدينة دبي)، على نحوٍ لا يراعي بشكل أو بآخر الكثير من القيم والعقائد والتقاليد المعهودة والموروثة في المجتمع السعودي المحافظ والمُتدين.
وقد استجاب بن سلمان، سواء كنت معه أو ضده، إلى تطلعات الشباب السعودي التوّاق للتغيير. لذا، تدحرجت الخطوات؛ السماح للمرأة بقيادة السيارة ودخول الملاعب الرياضية وممارسة الأعمال التجارية واستخراج جواز سفرها دون موافقة ولي الأمر. مشاركة المرأة في الانتخابات البلدية كناخبة ومرشحة. إقامة الحفلات الموسيقية التي لم يعهدها المجتمع السعودي في تاريخه. والمفارقة هنا، أن من يتولى إقامة تلك الحفلات، من ألفها إلى يائها، أحد أبناء آل الشيخ تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه، أي إبن أسرة من نسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
كل هذه الخطوات الإنفتاحية التي تتخذها السلطات السعودية كانت وما زالت تقع في خانة المُحرمات لدى المذهب الوهابي، وهو المذهب الرسمي للمملكة.
وبالأمس القريب، وإثر وفاة الفتاة الإيرانية مهسا أميني في طهران في مخفر لشرطة الأخلاق لعدم تقيّدها بالحجاب، أُشيع عن صدور تعميم من وزارة الداخلية السعودية يقضي بالتوقف عن ملاحقة الشرطة السعودية للنساء اللواتي لا ترتدين الحجاب، ليظهر لاحقاً عدم صحة الخبر، لكن دون أن يستحوذ على ردود أو رفض واسع من السلطات السعودية، حتى بدت المملكة مع بن سلمان في طريقها إلى إتخاذ هكذا قرار أو تعميم يُستثنى منه عدد من الماكن مثل مكة والمدينة المنورة لاعتبارات دينية معروفة.
يبقى النظام الإيراني قاصراً عن إصدار قرار يلغي فيه فرض الحجاب، والأمر نفسه يسري على كثير من الأمور التي تدخل في خانة “أيديولوجية التحريم”، وإلا سوف تضع “الجمهورية” نفسها في مواجهة فقهية، وربما عقائدية، مع الحوزات الدينية الشيعية، قد تنال من مبادئ وأسس الثورة الإسلامية بمفهومها التقليدي الذي بات حتماً يحتاج إلى المراجع
أما في إيران، ربما الأمر أكثر تعقيداً، كون الحكم والسلطة الدينية مجتمعين بشخصٍ واحد هو “الولي الفقيه”، وأي مس بالقيم والعقائد له محاذيره في بلدٍ أخذ على عاتقه قيام “جمهورية إسلامية” تعتمد القرآن والمذهب الجعفري في روح ونص دستورها، وثمة استحالة من تخفيف قبضة رجال الدين على المجتمع الإيراني. وحادثة وفاة أميني سلّطت الضوء على أبرز المعضلات التي تعتري النظام الإسلامي في إيران، وأبرزها إستعصاء خروج النظام عن نصوص القرآن والشريعة الإسلامية والاستجابة إلى المطالب المرفوعة بشأن الحجاب ومختلف الأمور التي تتعارض مع الدين الإسلامي.
وبرغم محاولات النظام الإيراني مؤخراً استيعاب الاضطرابات التي تخطت حادثة مقتل أميني وقضية الحجاب، عن طريق فتح حوار مع الإصلاحيين، إلا أن الأمر لا يبدو سهلاً. صحيح أن شرطة الأخلاق سوف تغض النظر في موضوع الحجاب عن الكثير من التجاوزات، لكن يبقى النظام قاصراً عن إصدار قرار يلغي فيه فرض الحجاب، والأمر نفسه يسري على كثير من الأمور التي تدخل في خانة “أيديولوجية التحريم”، وإلا سوف تضع “الجمهورية” نفسها في مواجهة فقهية، وربما عقائدية، مع الحوزات الدينية الشيعية، قد تنال من مبادئ وأسس الثورة الإسلامية بمفهومها التقليدي الذي بات حتماً يحتاج إلى المراجعة. فيما الأمر مغاير في السعودية، فسلطات الأخيرة (الزمنية غير الدينية) تستطيع التملص أو الالتفاف على ما ينص عليه الشرع الإسلامي وتتجاوز علماء الوهابية، ولم يعد خافياً على أحد بأن بن سلمان في طريقه إلى تعرية الوهابية والقضاء على موقعها ودورها التاريخي، برغم أن هكذا خطوة قد يكون لها من الإرتدادات ما يجعل العديد من المراقبين يتحفظون إزاء المستقبل في ضوء المخاوف المتعاظمة من خطوة ما غير محسوبة في الداخل السعودي.
وعليه، سوف يكون النظام السياسي السعودي أكثر استعداداً من النظام السياسي الإيراني في التماهي مع التغيرات التي تطرأ بصورة مستمرة على منظومة القيم والعقائد، والمواجهة هنا تكون ثقافية كما يُردد دائما الكاتب اللبناني المخضرم الفضل شلق، ذلك أن طغيان الهوية الدينية على كل الهويات الأخرى في كل دين “لا ينتج عنه إلا مجتمعات مغلقة. يقود التنافس بينها الى حروب أهلية داخل البلد الواحد، وداخل المذهب الواحد”، على حد تعبير شلق.
يحيلنا هذا الموضوع إلى ما أثاره الدكتور محمد السعيد إدريس في مقال له بجريدة “الأهرام” القاهرية بتاريخ 27 أيلول/سبتمبر 2022، حول “وثيقة القيم” التي صدرت في الكويت عشية انتخاباتها البرلمانية الأخيرة، والعلاقة المتبادلة بين تغيرات منظومة القيم والعقائد وبين تطورات النظام السياسي، حيث يرى إدريس أن “التحولات والتطورات التي تحدث في بيئة النظم السياسية، والتحولات التي تحدث في أولوية القضايا المركزية التي تشغل النظام السياسي وتحدد أنماط علاقاته وتفاعلاته مع النظم السياسية الأخرى، تؤثر بقوة على منظومة القيم والعقائد والأفكار السائدة في الدولة التي يقودها هذا النظام”.
وإذا ما قمنا بإسقاط هذا التحليل على حالتي إيران والسعودية، نجد أن القضايا المركزية وسياسات وطموحات كل منهما في الإقليم ترمي بثقلها على نظاميهما الإسلاميين وتفرض تغيرات في القيم والعقائد. والسعودية، بطبيعة الحال، استطاعت تطويع نظامها بمكان ما، ليستجيب لبعض التغيرات القيمية والعقدية، فيما إيران عاجزة عن ذلك طالما أنها متمسكة بنظامها الإسلامي والثوري.
وعليه، سوف تبقى إيران عملياً، وحتى إشعار آخر، وحدها تحت المجهر، وما استغلال حادثة مقتل مهسا أميني إلا نموذجاً عن واقعها المأزوم دولياً، هذا من دون التخفيف من وقع الحادثة على المجتمع الإيراني المولع جزء منه بالثقافة الغربية ولا سيما الأميركية.