لبنان يا “كعك الهوا”!

"خجلتُ من نفسي عندما أدركتُ أنّ الحياة حفلة تنكّريّة.. وأنا حضرتُها بوجهي الحقيقي!"، هذا ما يُقِرّ به الكاتب التشيكي الأصل فرانز كافكا في إحدى رواياته. لكن، ما عساه كان سيكتب ويقول، لو قرّر معظم المتنكّرين أن يكشفوا عن وجوههم الحقيقيّة؟ وماذا لو خرجت من تحت أقنعتهم تلك الوحوش الكامنة والنائمة فيهم؟  

تحضرني كتابات كافكا كثيراً هذه الأيّام. أتذكّره، هو المسمّى بـ”رائد الكتابة الكابوسيّة”، وهو يتحدّث عن ذروة آلام وعذابات الكائن البشري: “لا ألم يوازي شعور المرء بأنّه يُحكَم بناءً على قوانين لا يعرفها”! ولكن، ماذا عن ألم ذاك الذي “يُحكَم من دون أيّ قوانين؟”، أسأل نفسي والألم يعتصر قلبي على الحال الذي وصلنا إليه في هذا الوطن. فلبنان بات، يا أصدقاء، مرتعاً للوحوش. وما نشهده، حاليّاً، على مستوى السلطة السياسيّة وسائر السلطات، ليس سوى تفلّتٍ لهذه الوحوش من عقالها. فها هي تطاردنا أينما كان. هي فوق. وهي تحت. وهي تطوّقنا من كلّ الجهات. ما يفعله حُكّامنا هو “إدارة التوحّش”، ليس إلاّ. بلى، هو عنوان الكتاب الذي ظهر، للمرّة الأولى، في 2004. إنّما مُنِع تسويقه في معظم البلدان الإسلاميّة. وأسباب المنع يطول شرحها، وليس هنا مجال سردها.

المهمّ أنّ “إدارة التوحّش” هذا، نقل العمل الإرهابي من الّلامعقول إلى الوحشيّة والفوضى العارمة. كان “الدستور” الذي رفع منسوب الدماء المُراقة حيثما وصلت يد التنظيمات الإسلاميّة المتطرّفة. واستخدم الكاتب كلمة التوحّش، ليُدلّل إلى حالة الفوضى التي ستدبّ في أوصال دولةٍ ما، عندما تزول عنها قبضة السلطات الحاكمة. ولن تكون تلك الفوضى فوضى عاديّة، للإشارة. بل تتحوّل الدولة التي “ستحتضنها” إلى مكانٍ يخضع لشريعة الغاب. بكامل صورتها البدائيّة. ويعتقد المؤلّف (وهو أحد قادة تنظيم “القاعدة” لكنّه موّه اسمه الحقيقي)، أنّ السكّان المحليّين سيعانون إذّاك. وسيتعطّشون لوجود سلطةٍ تحلّ محلّ السلطات الحاكمة. كي تدير التوحّش الموعود الذي سوف لن يأتي إلاّ بالقتل والذبح والسحل وقلع عيون، و…إلخ.

لكن، أين ذكاء “جماعات التطرّف الإسلامي” من عبقريّة “مافيات الحكم اللبناني”؟ تعالوا ومتّعوا أنظاركم بـ”إدارة التوحّش” في بلاد الزمن المهدور. حيث أضحى كلّ رأسٍ في خطر. “ففي ظلمة الليل يُصدِر الطاغوت أمراً كالقدر” (يقول الشاعر العراقي أحمد مطر). فلبناننا صار أشبه بحقول ألغام. كلّ مَن فيه مهدَّدٌ بالتمزّق إلى أشلاء. وبعدما خاض أهلوه كلّ أشكال المعارك، ها هم يخوضون اليوم معركة “كسر الإرادات”. هكذا سمّيناها، نحن المنادين بإشعال ثورةٍ ساحقة ماحقة ضدّهم. أي، ضدّ مدراء التوحّش عندنا. فلم يتبقَّ في جعبتهم سوى هذا السلاح ليقضوا على أرواحنا. بعدما قضوا على كلّ شيء ينبض فينا. يا أيّها المجرمون، من أي طينةٍ جُبِلتم؟ أصرخُ وجعاً بكلماتٍ لا تلبث أن تتكسّر على حيطان بيتي. نعم أصرخ، كلّما أطلّ وجه وحشٍ من وحوش هذا البلد على الشاشة الصغيرة!

استبداد حُكّامنا وديكتاتوريّتهم، لا يمكن أن يخطرا على بال عاقلٍ ولا حتّى على بال مجنون. تخيّلوا، على سبيل المثال لا الحصر، أنّهم محوا بلداً عن بكرة أبيه عن خارطة العالم! وأكثر. لقد فجّروا كلّ سلطات الدولة وقطاعاتها ومؤسّساتها، وسط صمتٍ مطبق. إذْ لم يسمع أيّ لبناني صوت انفجارٍ واحد

سألني أحد طلاّبي مرّةً، “ما الفارق بين النظام في لبنان وبين النظام في أيّ دولةٍ ديكتاتوريّة أخرى؟”. تردّدتُ كثيراً قبل أن أحاول الإجابة. في الحقيقة، لم يحصل أن فكّرتُ بهذا الموضوع من قبل. ولا قاربته من هذه الزاوية، أيضاً. لكن، ما هي الديكتاتوريّة أصلاً؟ سألتُ نفسي وأنا أسأله. وهل ما يحصل عندنا في لبنان له نظيرٌ في كلّ المعمورة؟ وتذكّرتُ، فجأةً، ما قرأته قبل فترة عن النموذج الديكتاتوري الجديد. فابتسمتُ وأجبته بثقة. يا عزيزي، الديكتاتوريّة مقامات! فمثلاً، لا يشبه النظام الإسلامي التوتاليتاري في إيران، النظام الإسلامي الديكتاتوري في السعوديّة. ولا يستوي النظام السلطوي في الصين، مع نظيره في كوريا الشماليّة. وديكتاتوريّة فلاديمير بوتين في روسيا، لها مقامٌ مختلف عن ديكتاتوريّة روبرت موغابي في زيمبابوي. وأيضاً، ديكتاتوريّة صدام حسين، كانت مختلفة عن ديكتاتوريّة حسني مبارك.. وهكذا.

وأكملت. لكنّنا اجترحنا، هنا في لبنان، شكلاً جديداً للديكتاتوريّة. في الواقع، هو منهجٌ جديد في الإدارة والحُكم، توحي ديناميّاته للمحكومين بأنّهم يعيشون في نفقٍ مغلق. أي أُفُقه مسدود. بالطبع، هذا ليس انطباعاً. إنّها “إدارة التوحّش” (إيّاها) تمارسها “الديكتاتوريّة الناعمة” المُطبِقة على أنفاس اللبنانيّين. فهي تقمع حريّتهم وإرادتهم بـ”قبضةٍ مخمليّة”. أجل. إنّه آخر “صرعات” التطوّر للحُكم الاستبدادي. حُكم يتكيّف، بشكلٍ أفضل، مع عصر الاتصال الرقمي وتكنولوجيا المعلومات. وعصر العولمة والترابط الاقتصادي. وهكذا زمن، لا يحتمل وجود طغاةٍ كأمثال هتلر وموسوليني وستالين وماو تسي تونغ. ولا حتّى أركان فرقة طغاتنا العربيّة.

لقد اختلفت عدّة الشغل لدى الطغاة “الناعمين”. أي، مَن كان على شاكلة طغاتنا في لبنان. إذْ يكمن سرّ “نعومتهم”، في قدرتهم الاستثنائيّة على احتكار السلطة. عبر أساليب استثنائيّة، أيضاً، بشيطانيّتها. هي لا تضطرّ، إلاّ نادراً، لاستخدام العنف الكلاسيكي. فاستبداد حُكّامنا وديكتاتوريّتهم، لا يمكن أن يخطرا على بال عاقلٍ ولا حتّى على بال مجنون. تخيّلوا، على سبيل المثال لا الحصر، أنّهم محوا بلداً عن بكرة أبيه عن خارطة العالم! وأكثر. لقد فجّروا كلّ سلطات الدولة وقطاعاتها ومؤسّساتها، وسط صمتٍ مطبق. إذْ لم يسمع أيّ لبناني صوت انفجارٍ واحد. لا هنا ولا هناك ولا هنالك. حتّى الموجودون في مواقع التفجير! ولكن، ما هو سرّ نعومة بطشهم؟ إنّها النكاية. نعم، فنحن نجني كلّ يومٍ في لبنان محاصيل ثقافة نكاياتهم.

فثمّة حياة سياسيّة لبنانيّة قائمة، برمّتها، على النكايات. ويصعب تحديد مَن هو الأقوى في هذه اللعبة. فالنكايات تبدأ ولا تنتهي. تُمارَس على كلّ المستويات. صعوداً وهبوطاً. بالطول والعرض. يمنة ويسرة. فالنكاية تصنع الرؤساء. على رأس الجمهورية والحكومة والبرلمان. وتفبرك نواباً ووزراء. وتخلق اتفاقاتٍ وتحالفات. وتنقض اتفاقاتٍ وتحالفات. تحمي حصانات وتحجب حصانات. تعطّل انتخابات وتسيّر انتخابات. تنصّب أعداء. وتجترح أصدقاء. تخالف قرارات وتسنّ تشريعات. تولّي مرتكبين وتسجن أبرياء. و…تفعل كلّللللللل شيء. وعند التدقيق، يتّضح أنّ “إدارة التوحّش” في لبنان لا تسيّرها الأحلاف الدوليّة. أو المحاور الإقليميّة. أو حتّى الحسابات المحليّة. ولا علاقة لها، كذلك الأمر، بما يسمّيه البعض ثوابت ومبادئ وقيم. مرحبا ثوابت ومبادئ وقيم. وحدها النكايات دعامة “الحياة السياسيّة” التي يعيشها وحوش العصر في بلاد الأرز.

كلمة أخيرة. ذات يوم، نادى الرحابنة لبنان بـ”يا قطعة سما”. فالسماء بيت الله. وللبنان “مكانته” المباركة في هذا البيت. حتّى اسمه صار صلاةً. صحيح. إنّها صورة شعريّة ولا أروع. فيها بعدٌ روحاني لا يُمارى فيه. لكنّ هذه الأوصاف لم تعد تليق ببلادنا الغائرة تحت الأرض. في الدائرة التاسعة من جحيم دانتي. صار لبنان بلداً تافهاً. يشبه أكثر ما يكون قطعة من “كعك الهوا”. ذاك الكعك الإسفنجي الرغوي الذي يحتبس الهواء في عجينته. كم كنّا نستمتع بسهولة أكل “كعك الهوا”، ونحن صغار. بماذا يمكن أن نستمتع بعد كلبنانيّين، ونحن كبار! إقتضى السؤال.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  تفسير النص الدستوري بالمواءمة أم بالمعاني المتناقضة؟
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  فلْتبلَعْكم الأرض.. أمس قبل اليوم!