حاشيةٌ على مقال “كسر الاستعصاء المكسيكي في سوريا”

كتب الزميلان زيدون الزعبي وسمير عيطة مقالاً في 180post  بعنوان: "كسر الاستعصاء المكسيكي في سوريا" بتاريخ التاسع من كانون الثاني/يناير 2023، أثارا فيه جملة من القضايا الإشكالية بطريقة صريحة تصف الواقع كما هو دون رتوشٍ أو زينة تجمّله.

لخّص المقالُ، من وجهة نظر الزميلين الزعبي وعيطة، أغلب أسباب الجمودِ في الملف السوري، فقد ذهبا إلى أنّ جميع الأطراف المنخرطة في هذا الملف قد تعبت، واستنفدت طرق الحلّ التي نهجتها سابقاً، وبرغم ذلك فهي جميعاً تخشى المبادرة، “لأنّ من يجرؤ على المبادرة قد يكون في النهاية هو الخاسر الأكبر”، وأنّ التقارب التركي مع نظام الأسد قد يكون بداية لفتح ثغرة في جبل البازلت الهائل القابع على صدور السوريين قبل غيرهم.

واللافت للإنتباه في المقال إشارة الزميلين إلى أنّ مسار أستانا كان أكثر جدوى من مسار جنيف، وقد شرحا ذلك من خلال النتائج المتحققة على الأرض من جهة أولى، ومن خلال شمول المسار الأطراف الثلاثة الفاعلة من غير السوريين، أي تركيا وإيران وروسيا من جهة ثانية. كما كان الطرح الأكثر جرأة، حسب رأي كاتب هذه السطور، أنّ على جميع السوريين، نظاماً ومعارضة وثواراً وشعباً، التفكير بطريقة جديدة للخروج من عنق الزجاجة، ويتمثّل هذا الطرح بالنسبة للنظام بأنّه لم يعد بإمكانه العودة إلى ما قبل 2011، أي إلى المركزيّة الشديدة المتجسّدة بالحكم من خلال أجهزة الأمن بحيث يعود قادراً على إحصاء أنفاس السوريين وترهيبهم بعصاها الغليظة، وبالنسبة للسوريين على المقلب الآخر، أنّه ما من إمكانيّة لإسقاط هذا النظام، وأنّ التطبيق الفعلي للقرارات الدولية التي يتمسّكون بها، تعني بالضرورة التفاوض معه والقبول به أمراً واقعاً، وهو الذي طالما رفضوه بشدّة.

لا شكّ بأنّ أسباب استدامة الصراع السوري كثيرة جداً، وبعضها متجذّر أساساً في بنية المجتمع والدولة السورية، فكلاهما لم يأخذ حقّه من النضج بعيداً عن تأثيراتِ التدخلات الخارجية تارةً، وعن تأثيرات الأيديولوجيا والتاريخ والجغرافيا تارة ثانية. ولا شكّ بأنّ أكبر مسؤولية تقع في ما وصلنا إليه من تشرّد وتذرّرٍ وتفتت هو النظام، لكنّ ذلك لا يمنع من إلقاء اللوم على كلّ واحد فينا نحن السوريين المسؤولين عمّا آلت إليه الأمور، سواءٌ بالفعل أم بالقول، في الداخل أم في الخارج، موالين وثواراً ومعارضة ورماديين، فكلّ منا ساهم بطريقته وبحجم ما في هذه المأساة.

الطرف الوحيد المعني بإنهاء هذا الاستعصاء هو الشعب السوري، وهو الوحيد الذي لا يملك مع الأسف كثير أوراق تسنده. أما بقية الأطراف فهي تريد ترسيم حدود الصراع فقط، وكل طرف منها يريد قضم أكبر حصّة ممكنة من هذه الرقعة الجغرافية، أو على الأقل تثبيت مناطق نفوذه وعناصرها الداخلية التي استقوت به مع مرور الوقت

وانطلاقاً مما خلص إليه الزميلان، ومع التسليم جدلاً بفرضيّتهما القابلة للإثبات كما للدحض، سأحاول أن أستكمل بعض النقاط التي يحتاجها هذا الخرق ليتّسع أكثر وليتمّ البناء على هذا التأسيس، علّه يؤتي ثماره إن صحّ التعبير. سيكون ذلك عبر طرح النقاط التالية تباعاً، وهي أسئلة تحتاج إلى عميقِ تفكير من خارج الصندوق أيضاً.

المجموعة الأولى من الأسئلة هي: هل يمكننا إدماج الجهود السياسية التي تمثل مصالح السوريين بالانتقال السياسي، وهل يمكن ضمان حصول انتقال تدريجي في السلطة ولو بعد حين، وما هي ضمانات عدم إعادة تدوير نظام الاستبداد، وهل من مصلحة الأطراف المنخرطة في الصراع استقرار سوريا، وهل يمكن التعويل على الدور الروسي في ضبطِ سلوك النظام، خاصّة وأنّ المسار الأخير استبعد الإيرانيين من المشاركة رغم ما لهم من دورٍ كبير على الأرض؟

الحقيقة أنّ هذه القضايا كلها تصبّ في النهاية في صحراء لا ترتوي، أو في محيطٍ لا يمكن تحلية مياهه. يعود السبب الرئيس في ذلك كلّه إلى أنّ الطرف الوحيد المعني بإنهاء هذا الاستعصاء هو الشعب السوري، وهو الوحيد الذي لا يملك مع الأسف كثير أوراق تسنده. أما بقية الأطراف فهي تريد ترسيم حدود الصراع فقط، وكل طرف منها يريد قضم أكبر حصّة ممكنة من هذه الرقعة الجغرافية، أو على الأقل تثبيت مناطق نفوذه وعناصرها الداخلية التي استقوت به مع مرور الوقت. يقول الواقع أنّه لا النظام بحاجة لتغيير بنيته، لأنّه إن فعل فلن يعود هو ذاته وسينهار بالضرورة، ولا الروس بقادرين على فرض ذلك عليه، وقد حاولوا دون جدوى، ولا الإيرانيين سيسمحون به أساساً، لأنّ ذلك يعني بكل بساطة خسارتهم لاستثماراتهم بعيدة المدى ليس في سوريا فحسب، بل وفي لبنان وفي القضيّة الفلسطينية وربّما في العراق أيضاً. أما الإسرائيليون فلا يحبذون هذا التغيير على الإطلاق، وهل من عاقل يعتقدُ أنّه يمكن أن تأتي فرصةٌ مثل هذه لتفتيت سوريا أبشع تفتيت ويتركها الإسرائيليون؟ أما الأتراك فليس بمقدورهم الدفع باتجاه هذا التغيير نظراً لأزماتهم التي شرحها الزميلان جيداً.

إقرأ على موقع 180  لبنان من وهم التعافي إلى ذل الإعاشة

المجموعة الثانية من الأسئلة هي: هل يمكن إدماج البعد العربي، المصري السعودي بالدرجة الأولى في هذا الحل، بحيث يمكن حفظ الأمن القومي السوري والعربي بضمان عدم ترك سوريا نهباً للمشاريع التركية والإيرانية والإسرائيلية من جهة، وتمكين خطوات هذا المسار عبر دعمه مالياً من جهة ثانية؟ وهل يمكن التوفيق بين المصلحة الإسرائيلية في بقاء الحال على ما هو عليه، بل وبتكريس التقسيم الواقعي الحاصل راهناً، وبين مصلحة بقيّة الأطراف بما فيهم العرب والشعب السوري بالطّبع باستعادة الوحدة السياسية للجغرافيا السورية الممزّقة؟ وهل سيغامر العرب بإعادة فتح شرايين الحياة أمام النظام وهم يعلمون مدى ارتباطه العضوي بنظام الحكم الإيراني؟ ثمّ ما هو دورُ الفاعلين الأمريكيين في هذا المسار، وهل سيتخلون عن شمال شرق سوريا بهذه البساطة، وهل سيتركون حلفاءهم من الأكراد، وهل يقبل الأكراد على اختلاف تحزّباتهم وانقساماتهم أيضاً العودة إلى ما قبل 2011؟

لعلّ هذه الأسئلة وردت بشكل أو بآخر في الطرح الأولي ذاته، الذي أوضح فيه الزميلان سمير العيطة وزيدون الزعبي أنّ الأوهام التي يعيشها السوريون على مقلبي الصراع لا تُحلّ بأوهامٍ من شاكلتها، بل بخطوات عمليّة حتى وإن كانت حارقة ومؤلمة جداً. من سيقبل هذا الطرح الداعي إلى البدء بخطوات الحل الاجتماعي والاقتصادي، وإعادة توحيد مناطق النفوذ الخمسة من هذين البابين؟ وهل يمكن إيجادُ ضمانات لتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة في ظلّ أجواء التخوين السائدة عند جماعة السوريين، وفي ظلّ انعدام الرغبة عند جميع الأطراف بما فيهم أمراء الحرب بإيجاد حلول جذرية، وفي ظل توازن قوى صفري جعل الأزمة تراوح مكانها منذ عام 2018 على الأقل؟ هل يمكن مثلاً تأكيد تخلّي بشار الأسد عن السلطة في عام 2028 إذا تمّ التوافق على دستورٍ جديدٍ وإنشاء هيئة حكم انتقالية كما ينص القرار 2254؟ هل يتجرّأ السوريون جميعاً على تجرّع كأس السمّ، أم سينتظرون إلى أن تفنى سوريا نهائياً وتصبح من الماضي؟

الشعب السوري، صاحب المصلحة الأكبر، وربّما الأوحد بالخلاص، فماذا بيده من أوراق يقدّمها؟ وهل يكفي كما أوضح الزميلان في المقال “استجداء تركيا كي تعود عن المصالحة”، أم عليه أن يتقبّل مرارة قبول التدرّج في الحلّ كما تقبّل مرارة ومآسي التدرّج في الاستعصاء

وبالعودة إلى النظام، نجد أنّه لديه هدف وحيد لا غير، البقاء، وباستثناء الشعب السوري، تشاركه أغلب الأطراف الفاعلة والمتأثرة بالوضع ذلك الهدف بشكل أو بآخر. لا سلعة يقدّمها النظام داخلياً سوى القمع، أمّا الخدمات الخارجيّة فحدّث ولا حرج. فلماذا سيُقدمُ النظامُ على خطواتٍ قد تؤدّي إلى زواله ولو على المدى البعيد؟ أمّا الشعب السوري، صاحب المصلحة الأكبر، وربّما الأوحد بالخلاص، فماذا بيده من أوراق يقدّمها؟ وهل يكفي كما أوضح الزميلان في المقال “استجداء تركيا كي تعود عن المصالحة”، أم عليه أن يتقبّل مرارة قبول التدرّج في الحلّ كما تقبّل مرارة ومآسي التدرّج في الاستعصاء؟ وبالمقابل، هل يقبل مجلس سوريا الديمقراطية فك عرى الارتباط بحزب العمال الكردستاني، وهل يقبل بالعودة إلى “الدولة السورية” ضمن هذه الأطر والتعقيدات الكثيرة الشائكة، وهل لدى قيادات المعارضة التقليدية وهيئاتها من ائتلاف وهيئة تفاوض قدرة على التأثير في هذا الطرح، سلباً أو إيجاباً؟

إنّ الذهاب بما خلُص إليه الصديقان العيطة والزعبي يفترض، حسب وجهة نظر كاتب هذه السطور، بالحدّ الأدنى توفّر ما يلي: توافق أمريكي روسي على تمكين هذه المصالحة بين الأتراك والأسد، وأن يضعا ثقليهما لمنع إيران من تخريب ذلك، وأن يقدّما ضمانة لجميع السوريين المتضررين من الوضع الراهن باستعادة كرامتهم، وأن يضمنا تمكين التمويل العربي من السير في القنوات الصحيحة لإعادة الإعمار، وأن يضمنا إخراج جميع الميليشيات الأجنبية والإرهابية أو تفكيكها. فهل هذا ممكن فعلاً، وهل تسمح ظروف العالم الراهنة بهذا؟ الجواب ما نراه غداً لا ما نفكر به الآن.

(*) راجع مقالة سمير العيطة وزيدون الزعبي بعنوان “كسر “الإستعصاء المكسيكي” في سوريا!

Print Friendly, PDF & Email
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إيران ما بعد التخصيب بنسبة 60%.. إنها مسألة وقت!