الأنبياء في القرآن.. موسى وهارون وأمهما وأختهما وآل عِمران (5)

تتكرّر قصّة النبي موسى والنبي هارون في أكثر من سورة في القرآن (الأعراف، يونس، طه، المؤمنون، القصص.. إلخ)، والمُلفت للإنتباه في ذلك أنّ القرآن يؤكّد على أنّهما قاما معاً بواجب رسالة واحدة. وتطلّب هذا الأمر أن يشملهما القرآن والأنبياء من نسل هارون في ما بعد بعبارة "آل عِمران".

لنبدأ بما يقوله لنا القرآن في سورة آل عِمران (الآيتان 33-34):

“إنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ. وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”.

هناك إعتقاد خاطئ في الفكر الإسلامي عامّةً أنّ عِمران المذكور في سورة آل عِمران هو والد مريم (والدة عيسى المسيح). الصحيح أنّ هذا الـ “عِمران” هو والد النبي موسى والنبي هارون. يذكره لنا القرآن لعوامل تطلّبت ذلك، تحديداً لأنّ عبارة “آل عِمران” تشمل موسى وهارون وأمّهما وأختهما، وتشمل أيضاً الأنبياء من نسل هارون الذين جاؤوا بعد ذلك.

وقد عالجت في مقالة سابقة بعنوان “الأنبياء في القرآن.. مريم ابنت عمران وإشكاليّة نسبها” (1)، أنّ استخدام القرآن لعبارات – مثل “وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ” (سورة التحريم 12) و”إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ..” (سورة آل عِمران 35) – لا يهدف إلى تسمية والد مريم بعِمران، بل هدفه التأكيد على أنّ مريم هي من نسله، عبر ابنه هارون.

لا أريد أن أزعم أنّ القرآن، في ذكره لعِمران، يُعطي أهميّة لشخصه. فنحن لا نجد في النصّ القرآني أي معلومة عنه تعرّفنا به. القصد من عبارة “آل عِمران”، إذاً، هو للإشارة إلى الأنبياء والنبيّات من نسله، وكأنّ هناك خصوصيّة في ذلك. من هنا، إذا عدنا إلى الآيتين (32 و33) أعلاه، نجد أنّ آدم ونوح يذكرهما النصّ كفردين، بينما إبراهيم وعِمران يذكرهما كجمع (آلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ) لأنّ هدف القرآن هنا هو في تجاوز الفرد ليشمل الجمع، لأّن النبوّة تخصّصت في نسلهما.

تستعرض لنا قصّة موسى القرآنيّة الدور الكبير الذي لعبه أخوه هارون، ودور أمّه (واسمها يوخابيل أو يوخابد) وأخته ميريام أيضاً (والتي تُعرف أيضاً في التراث الإسلامي بـ”كُلثوم”). هذا هو البعد الأوّل الذي حتّم استخدام  القرآن لعبارة “آل عِمران” لكي يشملهم كلّهم. مثلاً، في المقطع التالي من سورة طه (الآيات 37-40)، نجد ذكراً لهذا الدور لأمّ موسى وأخته:

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ”.

 وتعيد سورة القصص (الآيات 7-13) سرد هذه القصّة بشكل أطول:

وَأوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أنْ أرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً، إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ. وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ، لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ. وَأصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لأُخْتِهِ: قُصِّيهِ. فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ. وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ، فَقَالَتْ: هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ؟ فَرَدَدْنَاهُ إلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلَكِنَّ أكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ”.

في هذين المقطعين، يروي لنا القرآن عن الدور الذي لعبته أمّ موسى وأخته في الخطّة الإلهيّة المؤسّسة لنبوّة موسى. يعلمهما الله أنّ موسى سيكون نبياً، ويأمرهما بطرحه في النيل (والذي يسمّى عادةً في مصر بـ”البحر”) لكي يلتقطه ويربّيه فرعون مصر وامرأته، ومن ثمّ تذهب ميريام إلى قصر فرعون لتقترح له ولإمرأته أن يسـتأجرا أمّها لتكون المرضّعة لموسى.

تركّز لنا الرواية القرآنيّة أنّ النبي موسى والنبي هارون أدّيا رسالة مشتركة، شهدت أيضاً دوراً لأمّهما وأختهما. استلما معاً الوحي، وأدّيا الرسالة سويّاً. وفي خصوص عبارة “آل عِمران”، استخدمها القرآن لأنّها شاملة ليس فقط لموسى وهارون، بل لأمّهما وأختهما ولنسل هارون، وهي ساعدت أيضاً على تجنّب تفاصيل يمكن أن تخلق إشكالات كثيرة

وفي أماكن أخرى، يُخبرنا القرآن عن الدور الذي لعبه هارون، وهنا نتفاجأ بأنّ نبوّة موسى هي مشتركة مع أخيه هارون كما يشير المقطعان أدناه:

“وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى، إنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً. وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً. وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً”. (سورة مريم، الآيات 51-53)

“اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. قَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً، إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً؟ قَالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى. … اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي. اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. قَالاَ: رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى. قَالَ: لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى. فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ، قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى”. (سورة طه، الآيات 24-47)

إقرأ على موقع 180  القدس.. ومهالك الخرافات الدينية الحديثة

الواضح من هذه الآيات أنّ هارون ليس فقط نبياً، بل أشركه الله بنبوّة موسى، وكلّفهما سويّاً بإيصال آياته ورسالته إلى فرعون وإلى بني إسرائيل. وفي الآية أعلاه (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي)، يقول لنا القرآن تحديداً إنّ موسى سأل الله أن يشرك هارون معه في النبوّة لأنّ موسى كانت عنده إعاقة في الكلام. ونجد ذلك في صيغة أوضح في سورة القصص (الآيتان 34-35):

وَأخِي هَارُونُ، هُوَ أفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً، فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إنِّي أخَافُ أنْ يُكَذِّبُونِ. قَالَ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا، أنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُون”.

موضوع الإعاقة في الكلام عند موسى وأنّ الله اختار هارون ليكون معه ويؤدّيا سويّاً النبوّة تؤكّده لنا أيضاً الرواية التوراتيّة في سفر الخروج (الإصحاح 4، الآية 10-16):

“وَقَالَ مُوسَى للهِ: “اسْمَعْنِي أيُّهَا الرَّبُّ، أنَا خَادِمَكَ لَا أُحسِنُ الكَلَامَ، لَا فِي المَاضِي وَلَا مُنْذُ تَكَلَّمْتَ إلَيَّ. فَأنَا بَطِيءُ الكَلَامِ وَثَقِيلُ اللِّسَانِ.” فَقَالَ اللهُ لَهُ: مَنِ الَّذِي يُعْطِي لِلإنْسَانِ فَهْماً، أوْ يَجْعَلُ الإنْسَانَ أخرَسَ أوْ أصَمَّ أوْ أعرَجَ أوْ أعْمَى؟ ألَيسَ أنَا، اللهَ؟ وَالْآنَ اذْهَبْ. سَأكُونُ مَعَ فَمِكَ وَسَأُعَلِّمُكَ مَاذَا تَقُولُ. وَلَكِنَّ مُوسَى قَالَ: أرْجُوكَ يَا رَبُّ أنْ تُرْسِلَ شَخْصاً آخَرَ. حِينَئِذٍ، غَضِبَ اللهُ مِنْ مُوسَى، وَقَالَ لَهُ: ألَيسَ هَارُونُ اللَّاوِيُّ أخَاكَ؟ أعْلَمُ أنَّهُ يُحْسِنُ الكَلَامَ، وَهُوَ سَيَأْتِي لِلِقَائِكَ، وَحِينَ يَرَاكَ سَيَفْرَحُ مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ. تَسْتَطِيعُ أنْ تَتَكَلَّمَ إلَيْهِ بِكُلِّ مَا تُرِيدُهُ أنْ يَقُولَ. سَأكُونُ مَعَ فَمِكَ وَفَمِهِ، وَسَأُعَلِّمُكَ مَاذَا تَفْعَلُ. هُوَ سَيَتَكَلَّمُ إلَى النَّاسِ نِيَابَةً عَنْكَ. فَكَأنَّهُ فَمُكَ، وَكَأنَّكَ إلَهُه”.

إذاً، هناك تلاقٍ كامل بين القرآن والتوراة في موضوع ثنائيّة موسى-هارون في أداء مهام النبوّة. ويذهب القرآن أبعد من ذلك في تأكيده أنّ التوراة أوحيت لموسى وهارون معاً، كما يدلّ المقطعان أدناه:

“وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ. وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ. وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ. وَآتَيْنَاهُمَا الكِتَابَ المُسْتَبِينَ. وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآْخِرِينَ. سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ. إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ. إنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِين”. (سورة الصّافّات، الآيات 114-122).

ثُمَّ أرْسَلْنَا مُوسَى وَأخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ. فَقَالُوا: أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ؟ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ المُهْلَكِينَ”. (سورة المؤمنون، الآيات 45-48)

إذاً، موسى وهارون وُكِّلا معاً ليس فقط في إيصال رسالة النبوّة، بل في استلام الوحي أيضاً.

هناك عامل آخر له علاقة باستخدام القرآن لعبارة “آل عِمران” يتعلّق بحقيقة أنّ نسل موسى لم يكن له أي دور في ما بعد في الديانة اليهوديّة القديمة، بل ذهب الدور إلى نسل هارون. لذلك عبارة “آل موسى” ليست بمجدية. هذا الجانب لا يناقشه القرآن، ويتغاضى أيضاً عن العقاب الإلهي لموسى ومنعه من دخول الأرض المقدّسة، والذي نجده مُفصّلاً في التوراة في سفر الخروج. هذا التغاضي حتّمته مقاربة القرآن لموضوع الأنبياء وأنّهم لم يخالفوا تعاليم الله ولم يرتكبوا أخطاء تتطلّب العقاب. لذلك، أي قصّة تبرز نبياً في صورة مخالفة لهذا الأمر إمّا يجب إعادة صياغتها أو التغاضي عنها.

في الخلاصة، تركّز لنا الرواية القرآنيّة أنّ النبي موسى والنبي هارون أدّيا رسالة مشتركة، شهدت أيضاً دوراً لأمّهما وأختهما. استلما معاً الوحي، وأدّيا الرسالة سويّاً. وفي خصوص عبارة “آل عِمران”، استخدمها القرآن لأنّها شاملة ليس فقط لموسى وهارون، بل لأمّهما وأختهما ولنسل هارون، وهي ساعدت أيضاً على تجنّب تفاصيل يمكن أن تخلق إشكالات كثيرة.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  القدس.. ومهالك الخرافات الدينية الحديثة