الأنبياء في القرآن.. “مريم ابنت عمران” وإشكاليّة نسبها (1)

لمريم بنت عمران منزلة خاصة في القرآن والتراث الإسلامي الكلاسيكي، تتوافق في بعض جوانبها مع ما نجده عنها في التراث المسيحي قبل ظهور الإسلام، خصوصاً عند مسيحيّي الشرق الأدنى.

يتشارك المسلمون والمسيحيّون في تقديس شخصية مريم بنت عمران. لكن تختلف السردية الإسلامية في أمر نسب مريم عمّا نجده في المدوّنات المسيحيّة، والسبب هو تعريف القرآن لها باسم “مريم ابنت عمران” والذي يأخذه المسلمون على أنّ والدها اسمه عمران.

في هذا السياق، يمكن القول إنّ تبجيل القرآن لمريم لا يوازيه أي تبجيل لامرأة أخرى، وما يلفت الإنتباه أكثر هو أنّها المرأة الوحيدة التي يذكرها القرآن بالإسم، بينما يذكر القرآن باقي النساء بلقبهن أو صفتهن. مثلاً، “وَقُلْنَا: يَا آدَمُ، اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ…” (سورة البقرة 35)، لا يُعطي القرآن مطلقاً اسم زوجة آدم (أي حوّاء) بل يعرّفها كزوجة آدم. وكذلك الأمر مع كل النساء الأخريات. بلقيس ملكة سبأ يذكرها القرآن كالتالي: “إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ” (سورة النمل 23)، وآسيّة التي أنقذت النبي موسى من النيل وربّته، يعرّفها القرآن كـ”اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ” (سورة التحريم 11)، وزوجتا النبي نوح والنبيّ لوط: “اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ” (سورة التحريم 10)، إلخ…

علاوة على هذا، نجد أنّ القرآن يركّز في سورة آل عمران على طريقة ولادة مريم وطهارتها:

-“إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ: رَبِّ، إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ: رَبِّ، إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى – وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ – وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا. كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً، قَالَ: يَا مَرْيَمُ، أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ، إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ” (سورة آل عمران 35-37).

-“وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ: يَا مَرْيَمُ، إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ، وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (سورة آل عمران 42).

يمكن وصف ما نجده في هذه الآيات بأنّه يندرج في خانة الأدلّة على عقيدة “الحَبْل بِلا دَنَس” أو (immaculate conception) والتي تنصّ على ولادة مريم طاهرة من الخطيئة الأصليّة، وهذا موضوع شيق وشائك يُعبّر عن مكانة مريم التي تشابه كبار الأنبياء.

وكما ذكرت أعلاه، هناك إختلاف، ظاهريّ على الأقلّ، بين تعريف القرآن لنسب مريم وما نجده في التراث المسيحي. لنأخذ الأمثلة الثلاثة أدناه:

-“إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ: رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم” (سورة آل عمران 33).

-“وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ” (سورة التحريم 12).

-“فَأَتَتْ بِه قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، قَالُوا: يَا مَرْيَمُ، لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً. يَا أُخْتَ هَارُونَ، مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً” (سورة مريم 27-28).

ظاهر الكلام يقود إلى الاستنتاج أنّ الآيات أعلاه تسمّي والد مريم بـ”عمران” (“امْرَأَةُ عِمْرَانَ” كإشارة إلى أمّ مريم؛ و”مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ” كإشارة لها)، وأنّه كان لها شقيق اسمه هارون (“يَا أُخْتَ هَارُونَ”).

هل هناك خطأ في القرآن في نسب مريم، أم الخطأ في التراث المسيحي؟ الجواب أنّ ما يذكره القرآن ليس فيه خطأ. بل الخطأ هو في القراءة الحرفيّة لكلام القرآن. بعبارة أخرى، استخدام القرآن لعبارات “بنت” و”أخت” و”امرأة” في ما يختصّ مريم له هدفه ولا يجب أخذه بمعنى البنت المباشرة أو الشقيقة المباشرة أو الزوجة المباشرة، بل يدخل في ما نسمّيه بـ”البلاغة القرآنيّة”

إذا عدنا إلى التراث المسيحي عن مريم، نجد اسم والدها يواكيم، وأنّه لم يكن لها أخ. وفي هذا الإطار، بعض ما يذكره المفسّرون المسلمون عن نسب مريم لا أساس علمياً أو تاريخياً له، بل معظمه يندرج في خانة الشطحات التي اعتاد عليها بعض علماء المسلمين الأوائل، إن في تكذيب الروايات المسيحيّة لأولويّات عقائديّة وجدليّات تكفيريّة، أو في إعطاء تفسيرات خنفشاريّة لآيات وكلمات قرآنيّة من دون إلمام بالموضوع.

مثلاً، لا أساس بتاتاً لمقولة أنّ أبا مريم كان اسمه عمران، أو أنّه كان لها شقيق يدعى هارون. ويحاول بعض المفسّرين معالجة هذه الإشكاليّة باقتراح خرافة أنّ هارون – وهو ما نجده مثلاً في تفسير “جامع البيان” للطبري (ت. 923) – “كان رجلاً صالحاً في بني إسرائيل يُسمّى هارون، فشبّهوها به فقالوا: يا شبيهة هارون في الصلاح”.

ونجد أخطاء أخرى مثل ربط نسب مريم بالنبي داود، وهو ما يذكره الطبري – نقلاً عن ابن إسحاق (ت. 767) – وغيره والذي لا أساس له أيضاً.

السؤال الذي أمامنا: هل هناك خطأ في القرآن في نسب مريم، أم الخطأ في التراث المسيحي؟ الجواب أنّ ما يذكره القرآن ليس فيه خطأ. بل الخطأ هو في القراءة الحرفيّة لكلام القرآن. بعبارة أخرى، استخدام القرآن لعبارات “بنت” و”أخت” و”امرأة” في ما يختصّ مريم له هدفه ولا يجب أخذه بمعنى البنت المباشرة أو الشقيقة المباشرة أو الزوجة المباشرة، بل يدخل في ما نسمّيه بـ”البلاغة القرآنيّة”. لنأخذ مثلاً كلمة “أخت”، فنجد لها استخدامات أخرى في القرآن، مثلاً:

إقرأ على موقع 180  الراديكالية في المحاسبة.. أساس الملك

-“قَالَ: ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ، كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً” (سورة الأعراف 38).

-“وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (سورة الزخرف 48).

في هاتين الآيتين أعلاه، نجد معانٍ إضافيّة لكلمة “أخت”. “كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا” تعني أمّة لعنت أمّة أخرى كانت قبلها، وليس لذلك أي علاقة بتاتاً بالأخوّة من نفس الأب أو الأم. وفي سورة الزخرف، عبارة “أُخْتِهَا” تشير إلى آية شبيهة سبقت الآية التالية، لا إلى الأخوّة. إذاً، يمكن أن نقول أنّ عبارة “يَا أُخْتَ هَارُون” هو ربط لمريم بالنبي هارون الذي كان قبلها بقرون، وليس هو بشقيقها.

وإذا أخذنا أيضاً بحقيقة أنّ القرآن لا يسمّي من الرجال إلاّ الأنبياء، بينما يذكر الآخرين بألقابهم فقط (مثلاً، فرعون والعزيز للتعريف بحكّام مصر في زمن النبي موسى والنبي يوسف، وهذه ليست بأسماء لهم بل ألقاب)، يفضي ذلك إلى أنّ هارون في عبارة “يَا أُخْتَ هَارُونَ” هو النبّي هارون والإستخدام هدفه تعريف أنّ مريم من نسله (وهو ما يتوافق مع ما نجده في التراث المسيحي المكتوب عن نسل مريم). وهذا الاستخدام لكلمة “أخ” و”أخت” شائع أيضاً في التراث العربي ويشير إلى الإنتماء إلى الشيء، كما في عبارة “أخا العرب” وتعني من نسبه عربي، لا من هو شقيق لكلّ عربي.

ويمكن أن نضيف هنا أنّ القرآن لم يخلط بين مَرْيَم أم المسيح والنبيّة مِيرْيَم، شقيقة النبي موسى والنبي هارون.

أما عبارتا “ابن” أو “ابنت”، فيستخدمهما القرآن أيضاً بمعنى غير الأبوّة المباشرة. مثلاً، عبارة “اِبْن السَبِيْل” في كثير من الآيات لا تعني بتاتاً أنّ السبيل له أولاد، بل هي مجاز يعني المسافر أو المجتاز في بلد غريب عنه. وهناك أيضاً عبارة “بني” – في “بَنَي آدَم” و”بَنِي إسْرَائيل” – والتي تعني من هو من نسل النبي آدم أو من نسل النبي يعقوب (وفقاً للخرافة الدينيّة)، وليس أولاد آدم أو أولاد يعقوب المباشرين. ونجد أيضاّ أمثلة كثيرة في التراث العربي، مثل عبارة “ابن آدم” والتي تعني من هو بشري.

أضيف إلى ذلك أنّ هناك حالتين استثنائيّتين يستخدم القرآن فيهما النسب بشكل لا يستخدمه في غير ذلك: حالة عيسى ابن مريم وحالة مريم ابنت عمران. في حالة عيسى، الأكيد أن القرآن يرفض فكرة وجود أب بشري له، لذلك الإستثناء ونسبه لأمّه، كون عبارة عيسى المسيح كافية للدلالة عليه. إذاً، طبيعة النسب تتعلّق بالبعد العقائدي الذي يحتّم استخداماً معيّناً. الإستثناء الثاني في مريم له أيضاً بعد عقائدي للتعريف بأنّها من نسل عمران، إي من بيت نبوّة. ويمكن أن أضيف أنّه إذا كان الهدف هو فقط التعريف بمريم، هنا أيضاً اسمها وحده كان ليكفي إذ لا يوجد التباس أو ضبابيّة حولها لكي يستدعي استثناء لما يستخدمه القرآن عامّةً وتحديد اسم أبيها لنعرف من هي.

ويمكن أن نقول أيضاً أنّ عبارة “امْرَأَةُ عِمْرَانَ” تشير إلى كون والدة مريم متزوّجة من رجل من آل عمران، لا من رجل اسمه عمران، وهذا يتوافق مع أهميّة عمران في القرآن كما تقول الآية 33 من السورة المعروفة بـ”آل عمران”: “إنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِين”.

الخلاصة هي أنّ طريقة نسب مريم في القرآن تهدف إلى تأكيد أنّها من آل عمران (الذي هو والد النبي موسى والنبي هارون والنبيّة مِيرْيَم، ومن نسله أيضاً أنبياء مثل زكريّا ويحيى)، وأنّها من نسل هارون. وفي هذا الأمر، هناك توافق كامل بين القرآن والتراث المسيحي حول نسبها.. أما من يريد للنص الديني أن يُصبح مشجباً لتعميق الخلاف بين الأديان، فله أن يقرأ النص على موّاله!

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  آليات الدعم الجديدة في سوريا.. ألا تحتاج إلى حوار اجتماعي؟