إسرائيل تحسم أهدافها: “جبهة التشدد”.. وبرنامج إيران النووي (117)

يدخل الكاتب رونين بيرغمان في هذا الفصل من كتابه "انهض واقتل اولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية" في عمق عملية التغيير التي شهدها جهاز "الموساد"، بدءاً من رئيسه إلى كل تفصيل صغير في تركيبته وطبيعة المهام التي باتت توكل الى عملائه، ويقع في صلبها وقف برنامج إيران النووي منذ العام 2003.

يقول رونين بيرغمان إن رئيس الوزراء أرييل شارون “إعتمد في ملء الفراغ الناجم عن عقم جهاز الموساد على رئيس جهاز أمان زئيفي فاركاش الذي كان، بحسب رؤية شارون، قد نفذ عدداً من عمليات الاغتيال والقتل المتعمد في لبنان ضد من كان يعتبرهم مسؤولين في حزب الله عن تمويل الفلسطينيين ودعمهم وتوفير التدريب والتجهيزات العسكرية المتطورة لهم في نضالهم ضد إسرائيل. وقد قدّر شارون عالياً الجهود التي بذلها زئيفي في هذا المجال ولكنه كان يرى أن ما هو مطلوب لمواجهة “جبهة التشدد” (سوريا وإيران وحزب الله وحماس وحركة الجهاد الإسلامي) كان أكثر من ذلك بكثير وأنه بات من الضروري إجراء تغييرات جذرية في جهاز الموساد، فأراد تغيير رئيس الجهاز أفراييم هالفي. قُدّمت إلى شارون العديد من الأسماء وبينها أسماء جنرالات مخضرمين في الجيش “الإسرائيلي” ولكن شارون كان في باله شخص واحد بالتحديد: مائير داغان، صديقه المقرب الذي خدم تحت إمرته في الجيش، وقد كان داغان شخصاً قاسياً وعدوانياً، تماماً من النوع الذي كان شارون يحتاجه لمواجهة جبهة التشدد”.

كان داغان قد غادر صفوف الجيش في العام 1995 ليصبح لاحقاً رئيس مكتب مكافحة الارهاب في مكتب رئيس الوزراء، وبهذه الصفة وضع الحجر الاساس لهيكل تنظيمي أسماه “الرمح” بهدف اعتراض الموارد المالية للعدو، وينقل بيرغمان عنه قوله “لقد أوليت أهمية خاصة للحرب الاقتصادية التي كان يجب أن تكون جزءاً لا يتجزأ من حملتنا ضد أعدائنا الرئيسيين”.

مصرف زيوريخ.. لنحرقه

يضيف بيرغمان “أن التحقيقات التي أجراها “الرمح” قادت “إسرائيل” إلى تجريم المنظمات التي كانت تمتلك صناديق مالية لصالح حركة حماس، والبعض من تمويل هذه الصناديق كان يأتي من مسلمين اثرياء في الخارج. (وكان “الرمح” يحث جهاز “اف بي اي” الأمريكي ونظرائه الأوروبيين لفعل الأمر نفسه في بلدانهم. ولكن ذلك كان يجري قبل هجمات 11/9 في أمريكا، فلاقت كل تحذيراته آذاناً غير صاغية). وخلال إجتماع واحد، ظهر الأمر جلياً في اختلاف الأسلوب بين داغان وسلفه هالفي. فقد قدّم الموساد معلومات تشير الى ان بعض الاموال التي كانت إيران تقدمها لحركة حماس كانت تحول عبر مصرف اوروبي مقره زيوريخ فقال داغان لمجلس مستشاريه:

  • “هذا الأمر ليس مشكلة، فلنحرقه”.
  • “نحرق ماذا”، أجابه أحدهم.
  • ردّ داغان “نحرق المصرف، لدينا عنوانه، أليس كذلك”؟ فكان الجواب عليه أن التحويلات “تجري عبر نظام سويفت الذي يشكل دعماً لداتا المعلومات في مكان آخر غير المصرف (المكان المركزي لنظام سويفت هو في مدينة نيويورك الامريكية)”.

في النهاية، قبل داغان برأي مجلس المستشارين لديه ولم يحرق المصرف. ولكن على اي حال هذه كانت المقاربة التي يريدها شارون، وبحسب ما ينقل عنه احد مساعديه فإنه كان يريد “رئيساً للموساد مع خنجر بين اسنانه”. لكن ذلك لم يكن يعني ان داغان كان تواقاً للانخراط في حرب واسعة النطاق مع العدو بل على العكس، كان دائماً يقول ان على “إسرائيل” ان تفعل كل شيء لتجنب صراع مسلح واسع مع كل دول المنطقة، لان في هكذا صراع سيكون من المستحيل تحقيق انتصار حاسم. وكان داغان عادة ما يحاضر بمساعديه الجدد في الموساد قائلاً “انه عمل مؤسسة الدفاع العسكرية ان تبقي اي حرب مستقبلية ابعد ما يمكن، وان تستخدم الاعمال السرية لضرب العدو بطريقة مركزة”.

تغيير الجهاز

يواصل بيرغمان روايته قائلاً إن داغان “تولى منصبه الجديد في سبتمبر/ايلول عام 2002. بعد ذلك بوقت قصير كلفه شارون بالجهود السرية لاحباط برنامج إيران النووي. فمنذ اواخر التسعينيات (من القرن الماضي) ضخت إيران موارد ضخمة لامتلاك القدرة على تصنيع سلاح نووي باسرع ما يمكن، فكانت تشتري المعدات والخبراء. وقد رأى الرجلان (شارون وداغان) ان إيران النووية تشكل خطراً وجودياً على “إسرائيل”. واخبر داغان انه سيحصل على كل ما يريد – اموال، وجهاز بشري، وموارد لا تنضب – طالما انه سيمنع آيات الله من بناء قنبلة نووية”.

وهنا ينقل بيرغمان عن ويسغلاس المساعد العسكري لشارون قوله “اخذ داغان كل ما قدموه له وانطلق. وما ان تولى مهامه حتى بدأ بصناعة العجائب”. انتقل داغان الى مكتبه في المقر الرئيسي للموساد وعلق فيه صورة لجده راكعاً وهو يُحدّق بذعر شديد بالجنود الالمان حوله قبل دقائق من قتله. وكان يقول لعملائه في الموساد “انظروا الى هذه الصورة، أنا هنا – نحن، رجال ونساء الموساد هنا – للتأكد ان ذلك لن يحصل ثانية”.

كان داغان دائماً يقول ان على “إسرائيل” ان تفعل كل شيء لتجنب صراع مسلح واسع مع كل دول المنطقة، لان في هكذا صراع سيكون من المستحيل تحقيق انتصار حاسم. وكان داغان عادة ما يحاضر بمساعديه الجدد في الموساد قائلاً انه عمل مؤسسة الدفاع العسكرية ان تبقي اي حرب مستقبلية ابعد ما يمكن، وان تستخدم الاعمال السرية لضرب العدو بطريقة مركزة

قرر داغان ان يفكك الموساد ويعيد تركيبه بالطريقة التي تناسبه، يقول بيرغمان، وكان أول شيء فعله هو أنه حدّد بصورة قاطعة هدف جمع المعلومات الاستخبارية – فالمعلومات لا تجمع لأجل جمعها وتصنيفها وارشفتها في ملفات في مكتبة مهمة – فقد أراد داغان ان يصار الى وضع المعلومات الاستخبارية مباشرة في عمليات ضد العدو، وأن تقود مباشرة الى عمليات الاحتواء والاستباق والتخريب ونصب الكمائن والقتل المتعمد والاغتيال، أراد ان يكون الموساد بقيادة المدير الجديد وكالة محاربة.

وينقل بيرغمان عن داغان قوله “لقد قلت لاريك (شارون) انه لا بد من اجراء تغيير عميق في الجهاز، ولكن عليك أن تقرر: هل انت جاهز لدفع الثمن؟ فالصحافيون سيطاردونني ويطاردونك ويطاردون الموساد، ولن يكون الامر سهلاً، هل انت جاهز لدفع الثمن؟ فأجابه انه جاهز. فاريك يعرف جيدا كيف يدعم شخصاً ما”.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": الترسيم البحري غير مضمون قبل الإنتخابات الإسرائيلية

قسم المفصل

وكان داغان يلتقي بصورة منتظمة بشارون للحصول منه على الموافقة على عمليات سرية، يقول بيرغمان نقلاً عن كبار ضباط الموساد عن الاجواء في تلك الايام “كانت تلك ايام هستيرية فقد كان داغان يصل الى مكتبه في الصباح الباكر ويبقى فيه حتى وقت متأخر من الليل من دون ان يتوقف عن الصراخ على الجميع قائلاً انهم لا يقومون بعملهم في الوقت المناسب وانهم كانوا غير كفوئين”. وبالنسبة لداغان كان من المهم بصورة خاصة تصويب عمل فريق قسم “المفصل” ووفقا لرؤيته فان هذا القسم كان يشكل “القلب الحقيقي للموساد، كل مهمة كانت اساسية، وبجمعها كلها مع بعضها البعض تتكون الاستخبارات البشرية”.

وكان الطاقم البشري لقسم “المفصل” يتألف من “ضباط جمع” المعلومات، ضباط الحالات الذين يجندون العملاء ويديرونهم. لقد كانوا محترفين ومتطورين وموهوبين بالتلاعب. ووفقاً لداغان فان ضباط الجمع تلاعبوا ايضاً بجهاز الموساد نفسه. وقد وصف داغان قسم “المفصل” الذي كان عليه من موقعه مواجهته على انه “نظام كامل من الدجل، يغش نفسه ويغذي نفسه بالاكاذيب” من اجل ان يقنع نفسه ويقنع الموساد بنجاحاته.

ويضيف داغان “على مدى سنوات، كانوا يفعلون ما يحلو لهم، يجندون شخصاً يقدم الشاي في مكتب ما قرب منشأة نووية ويقولون ان لديهم شخصا ما داخل البرنامج النووي الإيراني. لقد كانوا بحاجة لمن يمسك بهم من ياقاتهم ويركل مؤخراتهم بحذائه”. لذلك فقد غيّر داغان آلية عمل قسم “المفصل” وامر بان يصار الى اخضاع كل عملائه لجهاز كشف الكذب ليثبتوا انهم مصادر موثوقة، فاحتج “ضباط الجمع” في “المفصل” بشدة على اخضاع عملائهم لامتحان كشف الكذب بذريعة “انها تعكس عدم الثقة وسيشعرون بالاهانة ولن يرغبوا بالعمل معنا مرة ثانية”. فرفض مدير الموساد هذه الاعتراضات وسأل احد المعترضين “هل انت غبي؟ هذا الشخص يخون بلده وكل ما هو عزيز عليه وتعتقد انه لن يكون راغباً بالخضوع لجهاز كشف الكذب مقابل المال”؟.

وينقل بيرغمان عن داغان قوله انه من الناحية الفعلية فان مقاومة الخضوع لامتحان كشف الكذب كانت محاولة من طاقم عمل قسم “المفصل” لتجنب “كشف كذبهم” لانهم جندوا عملاء لا يعتد بهم، وبذل داغان جهودا كبيرة كي يلتقي افرادياً المئات من عملاء ضباط الحالة في الموساد في كل انحاء العالم وبصورة منتظمة. ويضيف داغان “الضابط الذي يتولى ادارة عميل والذي لم يسبق له ان التقى اي مدير للموساد وجد نفسه فجأة يلتقي بمدير الموساد شخصياً، مرة كل ثلاثة اشهر”.

مجمع إستخباري

وما ان وضع داغان الموساد على السكة الفعالة لخوض الحرب فقد ضيّق نطاق المهمات، اذ اعلن ان الجهاز سيكون لديه هدفان كبيران. الاول هو اي بلد معاد يحاول الحصول على سلاح نووي وبالاخص برنامج إيران النووي. وسيتم اعتراض عمليات استيراد التجهيزات والمواد الاولية وايقافها ومنعها، وسيتم تخريب المنشآت التي باتت جاهزة وتعمل وستتم مضايقة العلماء النوويين ومحاولة تجنيدهم وعند الضرورة قتلهم. اما الهدف الثاني فهو “جبهة التشدد”، لم يكن هناك مخططات للدخول في حرب شاملة مع سوريا وإيران ولكن الموساد سوف يقطع خطوط الامداد التي تؤمن السلاح لحزب الله وحماس وحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين، كما ستتم مطاردة “الارهابيين” فرداً فرداً ويتم قتل كبار المسؤولين في “جبهة التشدد” حتى وان كانوا من كبار الجنرالات السوريين.

وبأمر من شارون نفسه وافق رئيس جهاز امان زئيفي فاركاش ان يجعل استخبارات عملياته العسكرية تتعاون كليا مع الموساد ما خلق “مجمعاً استخبارياً” يتشارك كل المعلومات الاستخبارية. كما عيّن داغان تامير باردو رئيساً لوحدة العمليات في الجهاز التي اسميت “قوس قزح”. وكان باردو يعمل سابقاً ضابطاً في “سريات ميتكال” كما كان الى جانب الملازم يوناتان نتنياهو عندما قتل برصاصة خلال عملية انقاذ رهائن في مطار عنتيبي (في اوغندا عام 1976، والقتيل كان شقيق بنيامين نتنياهو الذي اصبح لاحقاً رئيساً للوزراء). وكان باردو رجل عمليات شجاع وصاحب رؤية استراتيجية وقائداً لا يستغنى عنه. هذا الرجل عينه داغان نائباً له.

خطة إيران

في مايو/ايار عام 2003 وامام اجتماع موسع لكبار القادة في الموساد عرض باردو خطة سرية للغاية – هي حصيلة اربعة اشهر من الجهود – لوقف برنامج إيران النووي، فبدأ باردو بالقول “ان التقدير الاولي هو ان دولة متقدمة تكنولوجياً وتملك ثروة كبيرة من الموارد مثل إيران التي تعمل على امتلاك قنبلة ذرية سوف تنجح في تحقيق ذلك في نهاية الامر. وبكلمات اخرى ان الوقف الفوري للبرنامج يمكن ان يتحقق فقط كنتيجة لتغيير العقلية او تغيير القيادة السياسية في إيران”. فبدأ الهمز واللمز في القاعة ولكن باردو واصل القول “في هذه الحالة فان لدى إسرائيل ثلاثة خيارات. الاول هو غزو إيران. والثاني هو تغيير النظام في إيران. والثالث هو اقناع القيادة السياسية الإيرانية أن الثمن الذي ستدفعه لمواصلة البرنامج النووي اكبر بكثير مما يمكن ان تكسبه من وقف البرنامج”.

وبما ان الخيارين، الاول والثاني، غير واقعيين لا يتبقى الا الخيار الثالث – للقيام باعمال سرية وعلنية من شأنها ان تضع آيات الله تحت الضغط الى ان يقرروا ببساطة الاستسلام. ولخص داغان الموقف قائلاً “الى ان يصلوا الى الاستنتاج بان الامرلا يستحق يجب علينا استخدام عدد من الوسائل لتأخير محاولاتهم الحصول على القنبلة بحيث انهم يصلون الى نقطة عدم التسلح بهذا السلاح”.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  واشنطن والرياض.. التطبيع مع إسرائيل ليس ثالثهما!