كتاب الدكتور حبيب فياض، “فلسفة التدين”.. “الطريق الى الله في عالم متحول”، جديد وصعب ورائد. جِدّتهُ، تدل على أن تناول النص ممكن خارج طقوسه ومذاهبه. والنص ليس ممارسة حجرية وطقوسية. يحتاج الدين، بكل صدق وانفتاح، إلى شفافية ورؤية وأدوات معرفية لفك الرموز. المعرفة الدينية محفوفة بكثير من الموروثات والتمذهبات. الأديان التوحيدية، باتت فتاةً، ولكل هوى مذهب.. لعل الطقوس، صارت أهم من النفوس.
أما بعد، سأصف الكتاب بما فيه. أولاً، هو ليس سهلاً، كما أنه ليس عويصاً أبداً. يحتاج إلى روية وعمق وتفكير. الجديد في الكتاب كثير. بعضه سهل وكثيره صعب، ومثير للجدل. حرص فياض على تأكيد إيمانه، من دون أن يعلنه. ولكنه تجرأ على اتهام “مسلمين”، او “المسلمين”، بابتعادهم عن دينهم، واعتناق البعض الآخر له بنحو مسيء. نسخوا تعاليمه بأسلوب مشوه، بات المعتقد حجرياً راسخا وطقوساً جوفاء مدمرة.
أنا لا أجرؤ على هذه الكتابة. هذه اتهامات تطال مجموع الأديان. لأن الدين في أصله بريء، وفي صيرورته إيماناً وعقيدة وممارسة، يصير خطيراً جداً. الإسلام قليل، الإسلامات متعددة.
ليس هذا، أو بعض هذا، هو مضمون الكتاب.
نبدأ، بنص موجز، يُتوّج فصل “الدين والفلسفة”. يتشكل الفكر الديني من عنصرين: “داخل- ديني، جاء به الدين، والثاني، خارج- ديني، يتعلق بمواقف غير الدينيين”. لا مشكلة في النص. المشكلة، بل المشاكل في تعدد القراءات والايمانات في النص. النص الواحد والوحيد يتحول الى فتاتٍ من أفكار واجتهادات. يصير الوحي في قبضة الفقه والفقهاء، وعلماء الكلام، وجماعة الحديث، ومتتبعي السيرة. لا يعود الدين معرفة وهداية. يصير سلاحاً، ضد سلاح، يدعيان الدفاع عن بكارة الدين. عندها، يصبح الإسلام محصوراً بالتدين المتعدد. الديني والبشري لا يتوحدان. يلتقيان، ثم يفترقان.
يحاول حبيب فياض، استنفار العقل الفلسفي بإزاء الوضع الديني. ثم النظر الى الدين كدين، وليس كممارسة على مستويات الاجتماع الإنساني. وهذا، في ظني، من المستحيل. الدين واحد من جهة النزول، ومتعدد، بل ومتشلع، عندما يتوجب عليه ان يصير ممارسة. ولا شك عندي، ان الدين النصي، وحيد، بل يتيم. لأن التدين، متعدد ومختلف ومنازع ومحرض. التدين الشعبي أقوى من الدين الذي هو الأصل. النص الديني مقدس. الممارسة تتأرجح بين النص المقدس، والنص المساجل.
الجاهلية أكثر رحمة بكثير، من التدين التكفيري. لا جحيم يوازي إطلاق أحكام التكفير، على الناس. لا عصبية تفوق عصبية التدين التكفيري. هنا وهناك. التدين التكفيري في أوروبا صار مقصلة تحاسب “المؤمنين” بقطع الرؤوس، وسلخ جلد الانسان، وتفسيخه
أنتقل الى فصل هام جداً. له علاقة بالتدين. الدين شيء. القرآن شيء. التدين وليد الناس. هو موجب نصي، وهو في الواقع انفلات وتوسع وتشرذم ومنازلة.
يُميّز فياض، بين أنواع شتى من التدين. فهناك التدين الفردي والتدين الجماعي. التدين الفردي اصيل. ولكن التدين الجماعي قابل للانحراف والتشوه. وهذا طبيعي جداً. الفرد متوحد. الجمع متعدد. فلا دين موحداً وتوحيدياً، على صعيد الجماعة. الفرد حاضن للدين. الجماعات مشتتة للتدين. “خروج التدين من الحيز الفردي الى الحيز الجمعي” (حزب. جماعة. مجتمع. دولة) يزيد من التعقيدات وتزداد احتمالات السقوط. ويدل على ذلك، ايمان الصفوة الأولى، عندما عاش المؤمنون في كنف محمد، وحالتهم بعد ذلك، عبر حروب وانقسامات وصراعات ومؤامرات، من داخل التدين ذاته. ما جاء في النبوة “كنتم خير أمة أخرجت للناس”، لم يرَ النور. الأمة، كانت في أسوأ حال، إبان انتشار أنماط متعددة من التدين. انما، لا بد من القول، إن الوقائع أقوى من النص الديني. النص الديني، دليل، وليس مساراً.
من طبيعة الأديان، أن تتشظى. لم يثبت في التاريخ أن ديناً، ظل واحداً.
من آفات التدين الفرقة والخلاف والنفاق، وصولاً الى المنازلة والعراك والاقتتال. دين واحد أحد، بحروب لم تتوقف، وعداء لم يصل مرة الى مصالحة. تاريخ المسلمين، لا يشبه نص الإسلام. التوحيد الأصلي انتقل الى تدين سياسي، وتدين مصلحي. كأن الانسان مضاد للتوحيد. بل، انه كذلك، قبل الدين والتدين، وبعده، وسيكون كذلك دائماً. لذلك، يلجأ فياض الى ضرورة الفصل بين الدين والتدين، بهدف إعادة بلورة الدين على نحو نظري خالص، ثم، من أجل “انتاج التدين عملياً، من خلال تظهير الالتزام الديني، بنحوٍ يخلو من الشطح والانحراف”.
انما، لا بد من الإشارة، الى ان التدين الإسلامي، منشطر، منذ البدايات.
لا مرجعية موحدة. الإسلام انشطر بعمق وعنف وقتل وانقسام. قُضيَ على التوحد.
التدين الشيعي، مختلف عن التدين السني. النص غريب على الاثنين. الاجتهاد والاضافات، وفق المصالح. لقد أدى التدين السياسي، الى إعلاء الشقاق والفرقة والقتل والسفك. فالتشيع ليس حلاً. والتسنن ليس حلاً. الواقع اصدق انباء من الكتب، ومن الآيات. ذلك ان التدين المصلحي يتفوق على التدين النظري. التدين النظري غائب ومغيب. التدين المصلحي، هو السائد. القديسون- قلة مجهولة. ومع ذلك – يبقى التدين أفضل من عدمه.
نصل الى جوهر المشكلة الوجودية: التلاقي بين الدين والمصالح، شائع ومرغوب و.. مخرب. يميل الإنسان الى اختيار التدين على قاعدة المصلحة. الروح ثانياً والمال اولاً الله اخيراً والمنافع أولاً. إله رأس المال، يختلف كثيراً عن إله الفقراء، ولو كان النص واحداً أحداً.
وعليه، فالتدين المصلحي هو السائد والدائم. هو ماضٍ وحاضر ومستقبل. لا فكاك بين استقواء الانسان بالنص. هو نفاق ودجل وشيطاني. يستشهد فياض، بمقارنة واضحة وحاسمة. فالذين آمنوا قبل الفتح، لا يستوون مع الذين آمنوا بعد الفتح. التدين المصلحي سيء خلقياً. ولكنه مفيد ومتبوع واقعياً. الناس ليسوا ملائكة. والذين تدينوا وآمنوا وصدقوا، قلة نادرة جداً، والذين تدينوا، بإيمان سلعي (أي سلعة) فازوا في الدنيا، ولا يهمهم قصاص الآخرة.
من علامات التدين المصلحي، ما يمكن التقاطه في لبنان، والدول العربية، وغيرها من الدول “المؤمنة”. انه تدين المصالح، الفردية او العائلية او القومية او الدولتية. انه تدين الجبان، التطبيعي والخلعي. انه تدين البخيل، فيجعل من الاقتصاد دينا، ومن المال كهنوتاً. وهناك التدين الواشي، ونجده في التدين الأمني والدكتاتوري. وهناك التدين الجنسي والتدين اللئيم.. الخ.. ماذا بقي للنص الديني، في جحيم التدينات على مر التاريخ؟ وهناك التدين التكفيري المجرم والإلغائي. (مسلمين ومسيحيين. داعشيين وصليبيين..) الجاهلية أكثر رحمة بكثير، من التدين التكفيري. لا جحيم يوازي إطلاق أحكام التكفير، على الناس. لا عصبية تفوق عصبية التدين التكفيري. هنا وهناك. التدين التكفيري في أوروبا صار مقصلة تحاسب “المؤمنين” بقطع الرؤوس، وسلخ جلد الانسان، وتفسيخه!
يا إلهي. الأديان في الدنيا خطر وبائي. وإلا كيف تفسر الدين الحالي، الذي جعل العالم جحيماً ابدياً.
متعب جداً أن نتابع مآسي التدين، وعليه يطرح حبيب فياض، يوتوبيا جديدة، بعنوان التداين.
وفاعلية التداين تتأتى من تحويل و”تحقيق الأنا التدينية الخاصة الى تدينية عامة، تتولد من التبادل والتكامل والتشارك بين المتدينين من جهة، وبينهم وبين الآخرين من غير المتدينين من جهة ثانية”.
رائع هذا الحلم. فاشل هذا المسار. التدين المضاعف مستحيل.
أخيراً، لا بد من الانحياز الى الواقع، ماضياً وحاضراً. الفكر مُسكِر عقلي. الفعل هو القول الفصل. والفعل، ليس املاء من قبل، ديني او عقدي او تراثي او عصبي. الفعل، تجربة خصبة جداً. الفعل، هو الفكرة المجسدة، والفكرة هذه، شديدة الاتصال، بالإنسان كفاعل أوحد. كمنتج أول. كمصلحة أولى.
لا إمكانية بتاتاً للكمال، كشأن ديني وشأن تديني.
الإنسانية دين باهت جداً. الإنسانية ضحية الانسان. والتدين ضحية الانسان.. الله ليس مشكلة. الانسان هو المشكلة ولا علاج لها.
والدليل هذه البشرية البائسة والتاعسة والمأساوية.
لا تفاؤل أبداً.
لنستعد لمعاقرة المأساة.