لا يثور اللبنانيّون لأنّهم.. تروّضوا!

في مثل هذه الأيّام، قبل 803 سنوات، سقطت مدينة بخارى، إحدى أهمّ مدن أوزبكستان حاليّاً، أمام قوّات المغول. وعلى الرغم من تسليم الأهالي مفاتيح مدينتهم للغزاة من دون قتال، لكنّ ذلك لم يمنع قائدهم جنكيز خان من ارتكاب المجازر وإحراق بخارى التي لُقِّبَت، ذات يوم، بـ"مدينة الصالحين".

اعتُبِر جنكيز خان، واسمه الأصلي “تيموجين”، من أقسى الغزاة الذين ابتُليَت بهم البشريّة. وُلِد، كما يقول كتاب “التاريخ السرّي للمغول”، وفي قبضته قطعة من الدم. الأمر الذي يعني، بحسب تقاليد المغول، أنّ هذا الوليد سيكون قائداً ذا شأنٍ عظيم.

أسّس جنكيز خان أكبر إمبراطوريّة في التاريخ، بعد أن سحق قادة شمال شرق آسيا ووحّد قبائلها. وعندما غزا بخارى، مدينة العالِم الشهير ابن سينا، خاطب أهلها قائلاً: “أنا عقاب الله المُرسَل. ولم يكن الربّ ليُرسِل إليكم هذا العذاب، لو لم تكونوا قد ارتكبتم ذنوباً جسيمة”!

لا داعي، طبعاً، للاسترسال في دواعي القيام بـ”عمليّة إسقاط” مقولة جنكيز خان على أحوالنا، نحن اللبنانيّين، الذين توالت علينا سلالات الجنكيز خانات في لبناننا التاعس. لقد فعلنا مثلما فعل أهل بخارى. فحلّ بنا ما حلّ بهم. إذْ استسلمنا إلى الأوغاد، قبل أن يقذفوا بنا إلى الجحيم. صحيحٌ أنّنا بتنا اليوم أشباه بشرٍ متعَبين ومنهَكين. لكنّنا لم نكن على هذي الحال قبل أن نقترف فعل الاستسلام. ونأتمنهم على قدرنا. وبعد ارتكابنا الخطيئة، انطلقنا في احتفاليّة النقّ والشكوى. نندب حظّنا. ونلطم على صدورنا. ونناشد العالم بأنْ خلّصونا من أولاد الأفاعي! نعم، هكذا هو “اللبناني”.

لا ندرك من وقتنا المهدور إلاّ حجم الإنهاك الذي ننفقه في رحلة البحث اليومي عن أساسيّات الحياة. لنعود بعدها إلى بيوتنا المظلمة وننتظر. لكن، ماذا ننتظر؟ ننتظر الانفجار العظيم الساحق الماحق. أيُعقَل؟ نعم

كأنّما ينتظر من الخنوع التامّ، الذي ارتضى العيش فيه، أن يستعيد واقعيّة الأمور وبداهتها. ومن دون أن يبذل جهداً، ولو بالحدّ الأدنى، لكي يتمرّد على العبثيّة والّلاجدوى اللتيْن اكتسحتا وجوده. يحبّ اللبناني أن يختلق قصصاً عجيبة غريبة عن صموده. وصبره. وبأسه. وأسطورة طائر الفينيق الممجوجة! إنّه يشبه كثيراً “سيزيف” الذي جعلته الميثولوجيا الإغريقيّة رمزاً للعذاب الأبدي. فـ”سيزيف” هذا، تمكّن من خداع إله الموت “ثاناتوس”. بحيث كبّله بالأصفاد مُعتقِداً أنّه، بفعلته، يستطيع إنقاذ البشر من الموت! ماذا حصل؟ غضِب منه كبير الآلهة “زيوس”. فعاقبه بأنْ جعله يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه. وعندما يصل إلى القمّة تتدحرج الصخرة إلى الوادي. فيعود “سيزيف” المسكين ويرفعها إلى القمّة. وبين صعودٍ وهبوطٍ أمضى “سيزيف” حياته.

هكذا حالنا، نحن اللبنانيّين. فبعدما حاولنا التمرّد على آلهة موتنا القابعين في أوكار الحُكم والسلطة. عوقبنا بالعيش في دوّامة العبثيّة والّلاجدوى. مثل “سيزيف”. نرفع الصخر يوميّاً. لا نكلّ ولا نملّ. فقط نشكو ونتذمّر ونُحمّل حُكّامنا (الذين أوصلناهم إلى حيث هم) مسؤوليّة ما نكابد. أجل. نمضي أوقاتنا بهدرها. فبات الوقت، بالنسبة إلينا، شيئاً هلاميّاً. أشلاؤه متناثرة هنا وهناك وهنالك. صار كالموجات الارتداديّة التي خلّفها الخراب والانهيارات المتلاحقة. لا ندرك من وقتنا المهدور إلاّ حجم الإنهاك الذي ننفقه في رحلة البحث اليومي عن أساسيّات الحياة. لنعود بعدها إلى بيوتنا المظلمة وننتظر. لكن، ماذا ننتظر؟ ننتظر الانفجار العظيم الساحق الماحق. أيُعقَل؟ نعم.

صار الانفجار الاجتماعي مُرتجانا. أملنا. رهيب هذا الواقع! إذْ لم يحدث في التاريخ، على حدِّ علمي، أنْ انتظر شعبٌ انفجاره، كما ينتظر اللبنانيّون انفجارهم! تحليلاتٌ من كلّ حدبٍ وصوب تؤكّد لهم أنْ لا مهرب من هذا الانفجار. وأكثر. يُحدّدون لقدومه الميمون التواريخ: “لن يطول أكثر من أسبوعيْن على أبعد تقدير”. “سيأتي بعد شهرٍ أو أكثر بقليل وساعتها تخبزوا بالأفراح”. “سينفجر الناس قبل انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان”. “كلا! بعد انتخاب رئيس الجمهوريّة”. “لسنا بحاجة لخبراء استراتيجيّين لنعرف أنّ الانفجار آتٍ لا محالة. فهو يدلّ على نفسه بنفسه”.

توقّعات ليست كالتوقّعات. وكأنّنا بانتظار “بابا نويل” ليحمل إلينا الهدايا. هدايا على غرار؛ اغتيال هذا الزعيم. سَجْن هذا المسؤول. شَنْق ذلك الوزير. مصادرة أموال هذا القائد الحزبي.. وهكذا. نفرح ونُهلّل حين يزفّ “المنجّمون” إلينا بشائر من هذا النوع. ولكنّ السؤال الذي لا أنفكّ أطرحه على نفسي هو: ما إذا كان مهزومو التاريخ والمنسيّون في لبنان وكلّ الذين أفلت منهم مصير الوطن، لا تراودهم الرغبة في أن يتحرّكوا؟ أن يثوروا؟ لماذا لا يتحرّكون؟ ولماذا لا يثورون؟

– لا يثور اللبنانيّون لأنّهم خائفون. فلقد نالت ضغوط الحياة من تفكيرهم ومن نومهم ونظام طعامهم وقدرتهم على الاستمرار. فهم، أصلاً، ترعرعوا في سجنٍ من الخوف. فاقمته حروبٌ متوالدة لم تُنتِج لهم لا إصلاحاً ولا تغييراً ولا تطويراً لنظام بلدهم. لم تُنتِج لهم سوى الخسارات.

– لا يثور اللبنانيّون لأنّهم يائسون. فلقد فعل قمْعُ احتجاجاتهم وانتفاضاتهم السابقة فعلَه في النفوس. صار كلّ لبنانيٍّ يسأل نفسه، وبإلحاح، عن جدوى التمرّد والانتفاضة والثورة؟ وعمّا إذا كان هناك من قضايا تستحقّ التضحية والنضال وبذل الأرواح؟ إنّها، في الحقيقة، معضلة لا تفارق أذهان الكثير من اللبنانيّين ومناقشاتهم.

إقرأ على موقع 180  الانتخابات النيابية اللبنانية.. معركة تقطيع الوقت

لا يثور اللبنانيّون لأنّهم ما زالوا يتلقّون المساعدات “بالعملة الصعبة” من أولادهم وأقاربهم في الخارج. نعم. ما يجعلني، أحياناً، أتمنّى أن يحصل شيءٌ ما يقطع هذه التحويلات الماليّة من الوصول إلى أصحابها. فلعلّ وعسى، إذّاك، يفيض الغضب فيجرف سيلُه القَتَلة، مرّةً لكلّ المرّات.

لا يثور اللبنانيّون لأنّهم ما زالوا يعتبرون أنّ صمّام الأمان الأساسي في حياتهم هو “الطائفة وزعيمها”. فهناك ضخّ إعلامي مستمرّ وفيّاض لبثّ “الوعي” الطائفي والمذهبي لدى الناس. ولزرْع بذور الشقاق والاختلاف والانفصال بين أبناء الوطن الواحد. وعليه، يصبح المال والجاه والسطوة مُلكاً لـ”زعيمنا” وحده. ولمَن لفّ لفّه من أفراد قبيلته وعشيرته الأصليّين أو المتشبّهين. أمّا الآخرون، فلهم الذلّة والفقر والهوان. هم وزعماؤهم.

– لا يثور اللبنانيّون لأنّهم عاجزون، حتّى اللحظة، عن التمرّد على زعمائهم (الطائفيّين) الذين حوّلوهم إلى حشودٍ قطيعيّة. وإلى رعيّة جاهلة. وإلى مجموعة من الرعاع قاصرة وعاجزة عن الحركة والتأثير في الواقع وفي التاريخ. فلقد تحوّلت شرائح واسعة من اللبنانيّين إلى ما يصفه المؤرّخ والطبيب النفسي الفرنسي غوستاف لوبون بـ”الكتلة غير العاقلة”. كتلة بشريّة تُقاد راضيةً كالنعاج الذاهبة إلى الذبح.

– لا يثور اللبنانيّون لأنّهم تروّضوا على تحويل “الهمّ الجماعي” إلى “همٍّ فردي”. حصل كيٌّ لوعيهم. لقد انكفأ اللبناني على نفسه، ولم يعد يرى غيره من اللبنانيّين. فهو لا يتظاهر، مثلاً، لكي يدافع عن الضمان الصحّي لكلّ الناس. بل يبحث ويشحذ ويستعطي لنفسه ليلبّي جشع المستشفيات كي تقبل استقباله في ركنٍ صغير في قسم الطوارئ! ومثل هذه الحال حالات.

أتمنّى أن يحصل شيءٌ ما يقطع هذه التحويلات الماليّة بـ”العملة الصعبة” من الوصول إلى أصحابها. فلعلّ وعسى، إذّاك، يفيض الغضب فيجرف سيلُه القَتَلة، مرّةً لكلّ المرّات

كلمة أخيرة. في ذكرى اغتيال الزعيم اللبناني كمال جنبلاط، قبل يومين، كتب صديقٌ عزيزٌ يقول: “في مثل هذا اليوم قتلوا كمال جنبلاط. حَزِن كثيرون. فَرِح كثيرون. انهزم الجميع”. علّقتُ على “بوسته الفايسبوكي” مؤكّدةً أنّ هذه المعادلة تنسحب على معظم مَن قُتِلوا في هذا البلد الذي أتقن أهلوه لعبةً واحدةً لا غير. لعبة “أبطال وحراميّة” التي كنّا نلعبها عندما كنّا أطفالاً. وفي هذه الأيّام الكالحة السواد، يتبادل اللبنانيّون أدوار البطولة واللصوصيّة. فلكلٍّ منهم أبطاله وحراميّته المختلفون عن أبطال وحراميّة الآخرين.

كونوا على قلبٍ واحد حتّى تقهروا أعداءكم وتعيشوا حياةً سعيدةً مديدةً“، قالها القائد المغولي جنكيز خان لأهل بخارى، والذي بدأنا معه هذه السطور. إقتضى التذكير.

 

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  ما بعد "داعش"، ما قبل "داعش"!