الإنسحاب الأمريكي من سوريا.. “بروباغندا” أم حقيقة؟

رعى النائب الجمهوري مات غايتز، في 8 آذار/مارس 2023، قرارًا في مجلس النواب الأمريكي بدعم من كتلة من الحزبين (47 جمهوريًا و56 ديمقراطيًّا) لفرض رقابة الكونغرس على استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، لكن "صقور" البيت الأبيض أجهضوا المشروع.

وعلى الرغم من هذا الفشل، يحظى القرار بتأييد نسبي داخل الكونغرس من كلا الحزبين وبدعم بعض السياسيين المنظّرين في عالم السياسة الخارجية؛ ما يجعل من المشروع “مجرد بداية سلسلة من الجهود لإنهاء العمليات العسكرية الأمريكية في الخارج”، وفقًا لتعبير غايتز. وإذ يُعدُّ السفير الأمريكي السابق إلى سوريا، روبرت فورد، أحد مؤيدي الدعم الموسّع للمعارضة السورية سابقًا، فقد أصبح اليوم من أبرز داعمي قرار انسحاب القوات الأمريكية من سوريا.

والجدير ذكره، أن موقف فورد ليس بجديد بعد استقالته من منصبه في العام 2014، فقد سبق أن سجّل أكثر من انتقاد واعترف باقتراف أخطاء في مقاربة الملف السوري.

خلفيات المشروع ودلالة توقيت الطرح والتبريرات، كلها إجابات تبحث عنها هذه الورقة بغية الاستثمار في تسييل المشروع وتعزيز الرأي تجاه هذه الحركة ومحاولة الخروج بتوصيات بشأن كيفية التعامل معها مستقبلاً.

فورد ومبررات الاستدارة 

عُرِف عن السفير الأمريكي السابق إلى سوريا، روبرت فورد، أنه من أشد الداعمين للمعارضة السورية، كما جاءت استقالته من منصبه في العام 2014، نتيجة الشعور بالإحباط من أن إدارة باراك أوباما لم تقدم “الدعم الكافي للمعارضة السورية”، بعدما سحبت الإدارة تشريع استخدام القوة في سوريا في العام 2013. وقد شهد الكونغرس معارضة للتدخل الأميركي في سوريا من كلا الحزبين منذ الأيام الأولى لأزمة 2013. في العام 2017، أقرّ فورد بأن ما يحصل في سوريا لعبةوانتهت لصالح الرئيس الأسد وحلفائه، بسبب قدرة هؤلاء على تغيير مسار الحرب خاصة بعد معركة القصير. كما دعم قرار الانسحاب الأمريكي في العام 2019، وجادل بأنه يؤمّن نوع المفاوضات اللازمة لتحقيق قدر من الاستقرار في المنطقة، ويدفع الكرد لإجراء محادثات مباشرة مع الحكومة السورية حول تقاسم السلطة.

يرجح أن يصبح خيار تنظيم الحضور الأمريكي في المنطقة، وإعادة الانتشار في قواعد “آمنة” هو الخيار الأكثر جدية على طاولة القرار الأمريكي، أكثر من أي وقت مضى، مع الأخذ بالاعتبار مدى الاستجابة الأمريكية الإسرائيلية للاتفاق الإيراني السعودي في الفترة المقبلة

هكذا، إتّخذ فورد لنفسه مسارًا تصاعديًّا في رفض بقاء الوجود الأمريكي في سوريا. دعم دفعة تشريعية في العام 2021، تتعلّق بقانون تفويض الدفاع الوطني الذي يمنح الولايات المتحدة عامًا واحدًا للخروج من سوريا. وفي مقالته مطلع العام الجاري، في كانون الثاني/يناير 2023،  بعنوان أوهام العملية في سوريا“، يعترف السفير السابق أنه اقترف العديد من الأخطاء في سوريا، وأنّ واشنطن تعلم أنّ المهمة الامريكية فشلت في تسوية مشكلة «داعش» في سوريا، والصراع السوري الداخلي.

اليوم، يناقش فورد دعم قرار الانسحاب في رسالته للكونغرس انطلاقًا من نقطتين: الأذى المحيط بخدمة الجنود الأمريكيين نتيجة التعرّض لهجمات حلفاء سوريا التابعين لإيران؛ التشكيك بنجاعة مهمة هؤلاء، ويقصد بها “هزيمة دائمة لداعش”. لا تستطيع القوات الأمريكية بحسب فورد إنجاز مهمة إيقاف عمليات التجنيد لمصلحة تنظيم “داعش” نتيجة الانقسام السياسي والركود الاقتصادي في سوريا. ويربط فورد المسألة بالجانب المادي والكلفة التي يتوجب على الأمريكي دفعها بالمقابل؛ فيرى أن “المطلوب هو المزيد من الموارد الأمريكية بدون ضمانات نجاح”. يجادل فورد في الرسالة بأن لا هدف واضحًا للمهمة الأمريكية، ويقول: “بعد أكثر من ثماني سنوات من العمليات العسكرية في سوريا، لا يوجد تعريف لما ستبدو عليه الهزيمة الدائمة لداعش”.

كان لافتًا للإنتباه أن مناقشة القرار في الكونغرس تزامنت مع جلسة عقدتها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ حول مسألة ما إذا كان سيتم إنهاء تفويضات القوة العسكرية التي وفّرت الأساس القانوني لعقود من الحرب في العراق. وفي حين عرضت النسخة الأصلية من إجراء غايتز 15 يومًا فقط لمغادرة القوات الأمريكية الأراضي السورية، لكنه عدّلها إلى ستة أشهر على أمل الحصول على “دعم حقيقي ووقت كافٍ للتعبئة على مستوى القاعدة. وقد أكّدت رسالة “التجمع التقدمي” في الكونغرس التي تحث على التصويت بنعم على ضرورة “إزالة الانتشار غير المصرح به للقوات المسلحة الأمريكية في سوريا ما لم يتم سن تفويض قانوني محدد في غضون ستة أشهر يتوافق إلى حد كبير مع الجهود السابقة من الحزبين بقيادة التجمع التقدمي لإنهاء مثل هذا الوجود العسكري غير المصرح به في غضون عام واحد”.

 هناك جدل حقيقي ونقاش متنامٍ داخل الولايات المتحدة حول مشاركة الولايات المتحدة في النزاعات الخارجية. وقد حدّد عضو التجمع التقدمي في الكونغرس، السناتور الديموقراطي رو خانا (كاليفورنيا) وجود نمط تفكير جديد “بشأن قضيتين مركزيتين: أولًا؛ القلق بشأن الحروب والتشابك على مدى العشرين عامًا الماضية التي لم تجعلنا أكثر أمانًا وثانياً؛ القلق بشأن نقل إنتاجنا المحلي إلى الخارج بسبب الصفقات التجارية السيئة التي تركت الطبقة العاملة والمتوسطة أقل فقرًا”.

في الخلفية والتوقيت

لا مبالغة في وصف النائب مات غايتز بأنه “ترامبي الهوى” فهو جمهوري متشدد. أما السفير الأمريكي السابق في سوريا (2011-2014)، روبرت فورد، فهو مخطط سياسي ديموقراطي تقاعد من السلك الدبلوماسي الأمريكي في العام 2014. وما زال يتابع التطورات في بلاد الشام وشمال أفريقيا، منطقة غرب آسيا، من موقع الخبير الاستراتيجي في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.

إن المشروع غير الناضج المعالم حتى الآن، يحتمل أن يُحلّل كخطوة ضمن أجندة دعائية للجمهوريين تستمر حتى موعد انتخابات 2024، وبالتالي يُعبّر عن محاولة تشويش على إدارة بايدن الحالية. بيد أنّ وجود كلا الحزبين ضمن مؤيدي القرار يؤكد وجود مشروعية فكرية وقانونية تسعى للحصول على شرعية التوجّه لضرورة الانسحاب، خاصة وأن المشروع يقوم على حوامل أساسية، أبرزها الحديث عن الخطر المحدق بالقوات الأمريكية وعدم نجاعة المهمة الأمريكية طوال ثماني سنوات لإلحاق الهزيمة بتنظيم “داعش”.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس".. "إيران رئيسي" وتقديرات الإستخبارات الإسرائيلية النووية

يرتبط عامل الخطورة المستجد باستهداف الطائرات المُسيرة للقواعد الأمريكية في الشمال الشرقي السوري، حيث تتمركز القوات في أكثر مناطق سوريا غنى بموارد نفطية.

اليوم، تشهد المنطقة تغيُرات وتحولات ولّدت درجة تهديد أعلى من السابق على الوجود الأمريكي في وقت تحاول واشنطن أن توازن نفوذها وحركتها بعدما كانت تضبط وتدير توازنات الدول الأخرى. فالعلاقة مع الحلفاء ما عادت قيد الهيمنة الأمريكية المطلقة، وما بعد الحرب الروسية الأوكرانية ليس كما قبلها، ومسار الأحادية القطبية يزداد ترنحًا، وآخر الأدلة على هذا الإتجاه هو الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين. وعليه، فإن هاجس القلق الأمريكي واقعي ومنطقي، وللمفارقة هو هاجس مشترك لدى الأمريكي والإسرائيلي مع اختلاف الوجهة؛ ففي حين يشعر الكونغرس بالقلق من استهداف القواعد الأمريكية في الشمال الشرقي السوري، تنتاب الإسرائيلي مخاوف جدية من خيارات أمريكية تقوّض التدخل الأمريكي وتدفع لسحب قواته من سوريا.

من جهة أخرى، فإن تهديد “داعش” المتصاعد، وخاصة في سوريا، يخدم السياسة الأمريكية عبر التحكّم غير المباشر بالجماعة الإرهابية – كما في كل مرة يركب فيها الأمريكي هذه الموجة – وذلك باتجاهين: الأول، استثمار عودة العمليات الإرهابية لمواجهة موجة التساؤل في غرف صناعة القرار الأمريكي حول جدوى البقاء الأمريكي في المنطقة بينما الأهداف كلها مفتوحة ما عدا هزيمة التنظيم، المدّعى الذي تدحض صدقيته التجربة والميدان. والثاني، وهو الأرجح والأهم بالنسبة للأمريكي، التحضير لمسار تصعيدي في المنطقة. تاليًّا، فإن مشروع القرار الذي يرتكز على سلامة الجنود الأمريكيين في المنطقة هو بمثابة كاشف عن نجاعة الضربات على القواعد الأمريكية في خلق حالة من التوتر والإرباك، وعن احتمال وجود خيار عسكري تصعيدي في المنطقة، سيعيد إلى الواجهة ضربات قاعدة عين الأسد.

وبناء عليه، يرجح أن يصبح خيار تنظيم الحضور الأمريكي في المنطقة، وإعادة الانتشار في قواعد “آمنة” هو الخيار الأكثر جدية على طاولة القرار الأمريكي، أكثر من أي وقت مضى، مع الأخذ بالاعتبار مدى الاستجابة الأمريكية الإسرائيلية للاتفاق الإيراني السعودي في الفترة المقبلة.

خلاصة وتوصيات

إنّ المعارضة الأمريكية لبقاء القوات الأمريكية في سوريا تشهد تصاعدًا في السنوات الأخيرة؛ في ظل متغيرات عدة:

أولها؛ الجهات السياسية التي يستقطبها المشروع، فالسفير السابق إلى سوريا، روبرت فورد، مُخطط ومُؤثر في السياسة الأمريكية الخارجية؛

ثانيها؛ ثمة ظروف حالية مختلفة عما سبق؛ فما تشهده المنطقة من تحولات وتسارع في الأحداث في خضم صراع القوى الكبرى والإقليمية يدفع باتجاه الخيارات المفتوحة؛

ثالثها؛ إنتقال عامل الخطر على القوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة إلى داخل الكونغرس وغرف صناعة القرار الأمريكي.

أهمية عودة المكون الكردي للتنسيق والتشاور مع الدولة السورية لتدارك تداعيات مغامرة أمريكية غير محسوبة في سوريا تدفع القضية الكردية خلالها أفدح الأثمان

لذا، قد يلقى المشروع الذي يرعاه النائب مات غايتز دعمًا متزايدًا خلال فترة الستة أشهر القادمة داخل أروقة الكونغرس، وتتّسع قاعدة المؤيدين له، وبالعكس قد يبقى مجرد مشروع كما حصل في العام الماضي. بيد أنّ لحظة اجتماع المتغيّرات مع التوجّه الأمريكي المؤيد لضرورة الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وتحديدًا من سوريا، تدفع لبناء رأي عام محلي وإقليمي داعم لذلك، وبالتالي تقتضي المسؤولية الإضاءة على النقاط الآتية:

  • ضرورة تماسك منطقة غرب آسيا اليوم أكثر من أي وقت مضى في مواجهة تحديات المرحلة المقبلة في حمى سقوط الأحادية القطبية، فالتحديث الذي سيلحق بأنماط الصراع وآلياته يقتضي التماسك ما بين الدول، وما بين الدول ومكوناتها، لأن استثمار الخلافات في هذه المرحلة الحساسة سيكون باهظ الكلفة على أطراف الصراع.
  • ضرورة إعادة مختلف الجهات حساباتها، والأقليّات منها، خاصة الأكراد في الشرق السوري، مع الأخذ بالاعتبار تداعيات التحولات في المنطقة والوضع الإسرائيلي الداخلي واحتمالات وقوع أزمة مالية ونقدية داخلية أمريكية.
  • أهمية عودة المكون الكردي للتنسيق والتشاور مع الدولة السورية لتدارك تداعيات مغامرة أمريكية غير محسوبة في سوريا تدفع القضية الكردية خلالها أفدح الأثمان.
  • إنّ الصراع على الموارد النفطية والغذائية في العالم يبيح معركة البقاء والوجود. وعليه، فإنّ مواجهة الحصار والعقوبات والنهب الأمريكي لموارد الطاقة والقمح من الشرق السوري مسألة تخص كل الشعب السوري.
  • تمرير رسائل الخطر المحدق بالقوات الأمريكية عبر مختلف القنوات الدبلوماسية والعسكرية والشعبية والإعلامية.
  • الإبراز الإعلامي لعمليات استهداف القواعد الأمريكية في سوريا وتسليط الضوء على تأثيراتها النفسية والعسكرية.
  • عدم نجاعة المهمة الامريكية في مدّعى القضاء على “داعش”، وتسليط الضوء على دور الولايات المتحدة المتجدّد في إعادة إستعادة التنظيم حضوره وعملياته، وكشف سياساتها المشبوهة مع المعتقلين من عناصر التنظيم وقادته.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

أستاذة جامعية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الزر الإسرائيلي "الأحمر" لجر حزب الله بيده.. إلى الحرب!