عسكر على مين؟ (*)

تظاهر مئات اللبنانيّين في وسط بيروت هذا الأسبوع. غالبيّتهم من العسكريّين المتقاعدين الذين نزل بعضهم بالزيّ العسكري. كانوا يحتجّون على تدهور أوضاعهم المعيشيّة. وسرعان ما بدأت عمليّات الكرّ والفرّ بينهم وبين قوّات الأمن التي أمطرتهم بقنابل الغاز المسيّل للدموع. فلقد استنفرت لتفريقهم عندما وصلوا إلى تخوم السراي الحكومي. لكنّ المؤلم كان في مشهديّة عسكرٍ وهو يقمع عسكراً.

في جميع الأدبيّات اليساريّة كانت تتردّد فكرة تقول، إنّه في دُولنا المحكومة بأنظمةٍ غير ديموقراطيّة (ولبنان إحداها) يكون لدى المؤسّسة العسكريّة هدفٌ أساسي: الحفاظ على النظام الحاكم. يتربّى العسكر و”يكبر” في تلك الدول على المبادئ والقواعد والأُسس التي تحمي النظام. ويتمّ إعداد عناصره وتعبئتهم على كيفيّة الحفاظ على مؤسّسات وشخصيّات هذا النظام. في التربية اليوميّة. في الأمر اليومي. في الدورات التدريبيّة. في المناورات الوهميّة. وفي كلّ مهمّةٍ توكَل إليهم. وأيّ منصبٍ يتولّونه. لذا، وعندما يتهدّد هذا النظام خطرٌ ما، يستنفر العسكر للتصدّي للتهديد. وفي بلدٍ كبلدنا آليّاتُ التغيير فيه معطّلة. وآليّاتُ التأثير على شاكلتها. يصبح الصدام مع حُماة النظام حتميّاً. لكن، أن يصبح الصدام بين حُماته السابقين وحُماته الحاليّين، فهي المفارقة الفظيعة. والمأساة الأفظع!

انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لعميدٍ متقاعدٍ في الجيش اللبناني شارك في التظاهرة المذكورة. لقد عبّر العسكري المتقاعد عن هذه المفارقة وتلك المأساة بوضوحٍ شديد. ربّما شاهدتموه وهو يتكلّم أمام الكاميرا مع آثار إصابةٍ في عينه اليمنى. بدا مكسوراً وهو يوجّه كلامه إلى “رفاق السلاح” الذين عنّفوا العسكر المتظاهرين. خاطبهم قائلاً:” كنّا مثلكم. وكنّا نقاتل لنحافظ على مؤسّسات الدولة. فعندما كانت دولتي تريدني، كنتُ أُطلق النار كُرمى لعيونها. ولمّا لم تعد تريدني، صارت هي مَن يُطلق النار على عيوني. دولتنا داستنا وسحقتنا. الآن، فقط، صرتُ أشعر بما شعر به مَن فقأ الرصاصُ عيونَهم في الـ 2019″!

تبيّن أنّ بعض الضبّاط الذين كانوا يشاركون في دوراتٍ خارج لبنان، أرسلوا طلبات استقالة من السلك العسكري ليبقوا حيث أُرسلوا. يفتّش عسكر لبنان عن مكانٍ يستطيع أن يستوعب ويُواري خساراتهم

في لبنان، لا خيبة توازي الخيبة التي يشعر بها اليوم “حُماة الأمس للنظام”. هم يعبّرون، وبالفم الملآن، عن هذه الخيبة. في كلّ التصاريح والتعابير والمفردات التي ينطقون بها. وفي كلّ الشعارات واللافتات والبيانات التي يسطّرونها. يقولون ما لا يقوله غيرهم من المحتجّين والمعارضين والغاضبين والناقمين. لا العمّال العاطلين عن العمل. ولا الموظّفين المضربين عن العمل. ولا الأساتذة الذين تسحق رواتبَهم تكاليفُ الوصول إلى العمل. لا أحد مثلهم. ولا خيبة تعلو على خيبتهم. “نِحْنا حمينا الدولة”.. “كِنّا عمْ نِحميهم.. هَيْك بيعملوا فينا؟”..”دافعنا عن شرف الوطن.. وأهانوا شرفنا”.. إلخ.

بات العديد من العناصر العسكريّة والأمنيّة يبحثون عن طريقٍ لخلاصهم من الجحيم الذي يكتوون بناره مع سائر اللبنانيّين. وعليه، أبدت سفاراتٌ ومُلحقون عسكريّون أجانب اهتماماً كبيراً (قبل فترة) بحالات “التسرّب” من الخدمة في القوى الأمنيّة والعسكريّة اللبنانيّة. فالمعلومات تتحدّث عن تخطّي عدد مَن تركوا الخدمة طوعاً الـ 5000 بين ضابطٍ ورتيبٍ وعسكري من كلّ الأجهزة. وتبيّن أنّ بعض الضبّاط الذين كانوا يشاركون في دوراتٍ خارج لبنان، أرسلوا طلبات استقالة من السلك العسكري ليبقوا حيث أُرسلوا. يفتّش عسكر لبنان عن مكانٍ يستطيع أن يستوعب ويُواري خساراتهم. الماديّة والمعنويّة.

فعدا الوضع المعيشي المنهار (المندثر؟)، من الصعب على أيٍّ كان أن يدرك في آخر المطاف أنّه كان يحمي مجرمين وعصابات ومافيات. إذْ يصبح وكأنّه كان مُشاركاً في الجريمة. وضالعاً في ما آلت إليه أحوال البلاد وعبادها. فإحدى مآسينا في لبنان، أنّ جيشه يتعامل مع الواقع من موقع المهزوم. ومن موقع مَن يتظاهر بالحكمة ويحترف التظلّم حيال طغمةٍ حاكمة فقدت شرعيّتها السياسيّة (وكلّ شرعيّةٍ أخرى). ومن موقع مَن يردّ على إملاءات سلطةٍ باغية بـ”واقعيّة”. ومن موقع الالتزام الأخلاقي بطاعة زمرة نصّابين سطت على كلّ مقدّرات البلاد. لماذا لم يضع عسكرُنا حدّاً للمجرمين وهم يقمعوننا ويقلعون عيوننا ويضربوننا ويسحلوننا؟!

لقد برّرت البشريّة اختراع نظام الجنديّة، بحاجة الأوطان (كلّ الأوطان)، في الحالات الاستثنائيّة وأوقات الحروب والأخطار، إلى وجود عسكرٍ نظامي يدافع عنها ويتصدّى لأعدائها ويحمي مصالحها العليا. وفي نظام العسكريّة يعني هذا الأمر أن يصبح “العسكري” إنساناً بلا إرادة. بلا قرار. بل يجب أن يتحوّل إلى آلةٍ صمّاء. وظيفتها الطاعة العمياء وتنفيذ الأوامر من دون نقاش وتجريم حريّة الرأي. والجندي الكامل الأوصاف، هو مَن يمنح حريّته إلى القائد ليتصرّف فيها كما يشاء. في العسكريّة، إذاً، يتساوى أن تقتل شخصاً مُسالماً ذا رأي. أو أن تقتل معتدياً غازياً. لأنّه، وفي جميع الأحوال، ممنوعٌ عليك أن تتساءل عن صوابيّة أو حكمة أوامر القائد. هل هذا التوصيف ينطبق على العسكر في لبنان؟

يُقال إنّ شعب لبنان لا يشبه سوى نفسه. وتأكّد، بالدلائل القاطعة، أنّ حُكّامه لا يشبهون أيّ صنفٍ من حُكّام المعمورة. ويمكن الجزم، كذلك، بأنّ جيشه لا يمكن مقارنته بأيّ جيشٍ في العالم. هناك أسباب عديدة لهذا الإعجاز في المقارنة. أسباب تتوزّع على أكثر من مستوى. إنّما قد يكون أخطرها أنّه ممنوعٌ على جيشنا أن يكون جيشاً كسائر الجيوش. ويجب أن يبقى دوره مثلما هو اليوم. أي، قوّة محرَّم عليها أن تقوم بما يجب أن تقوم به. ومؤسّسة يُمارَس بحقّها نهجٌ متعمَّد لتطويقها. ولإضعافها. ولضرب معنويّات عناصرها. ومنعهم من الحصول على أبسط حقوقهم. وجعل مطالبتهم بهذه الحقوق مِنّة.

في جميع الأحوال، ممنوعٌ عليك أن تتساءل عن صوابيّة أو حكمة أوامر القائد. هل هذا التوصيف ينطبق على العسكر في لبنان؟

السياسة المتّبعة مع الجيش اللبناني تعبّر عن اتجاهٍ “أصيل” في بلاد الأرز. إنّه تكثيفٌ استثنائي لـ”استراتيجيّةٍ دفاعيّة” يرفع لواءها معظمُ سياسيّي البلد. ممانعجيّين وسياديّين، على حدٍّ سواء. قوام هذه الاستراتيجيّة الآتي: القوى العسكريّة النظاميّة هي دفاعٌ مدني. وسلاحها غير قابل للاستخدام. أمّا المواجهات المسموح أن تخوضها، فمحصورة في زواريب الطوائف. هناك، حيث تعصف نزاعاتٌ لا تشبه سوى الغزوات في ما بين القبائل والعشائر. كيْلا نقول، بين عصابات الزعران المختلفة. نعم. هذا هو الخيار الموصى به (في لبناننا)، كما يقول مصمّمو البرمجيّات المعلوماتيّة.

إقرأ على موقع 180  عندما يلعب أردوغان مع بوتين على حافة الهاوية الأوكرانية!

فنحن نعيش في دولةٍ تنذر وقتها لاستغلال آلام الناس. ولتحقيق أهدافها الساديّة. نحن نعيش في دولةٍ، لم تنتظر لحظةً واحدةً كي تشرِّع وظيفة الأجهزة الأمنيّة بـ”تصحيح” ضمائر الناس وأفكارهم. يروي الصحافي الشهيد سمير قصير في أحد مقالاته “عسكر على مين؟”، كيف شاهد في أحد أيّام “ثورة الأرز” عسكريّاً يفتّش كتاب “القانون المدني” لطالب حقوق. كان يفتّشه بنزقٍ شديد. فقط، لأنّ العسكري لم يعجبه أن يرى ذاك الطالب مرّتيْن في اليوم الواحد. وفي الشارع عينه! اليوم، وبعد نحو عشرين عاماً على مقال سمير قصير، تبدو المشكلة نفسها لم تتغيّر: فهي لا تكمن في الضابط المتوتّر. بل، في مَن عبّأ رأسه من أجهزةٍ ونظامٍ لا يريان في الدولة سوى مساحةٍ لتنفيذ مهمّة الأمن والسلطويّة. مهمّة يتشاركانها، في بعض المناسبات، مع ميليشياتٍ وبلطجيّة من أحزاب السلطة.

كلمة أخيرة. في 14 آذار/مارس، صدر عن منظّمة العفو الدوليّة ومؤسّسة “أوميغا للأبحاث” تقريرٌ (جديد) بعنوان “انفجرت عيني”. أكّد هذا التقرير، الذي يستند إلى بحثٍ أُجري في أكثر من 30 بلداً، أنّ أيّ مساءلةٍ لم تحصل في لبنان، بخصوص حملة القمع التي تشنّها قوى الأمن على المتظاهرين منذ عام 2019. ولم تتمّ، بالتالي، مقاضاة أيٍّ من عناصر القوى الأمنيّة والعسكريّة (الموكلين مهمّة إنفاذ القانون في لبنان) لاستخدامهم غير القانوني والمفرط للقوّة، ضدّ المحتجّين خلال التظاهرات المعارضة للحكومة. إقتضى التذكير.

(*) أستعير عنوان كتاب الصحافي الشهيد سمير قصير الصادر عام 2004 في سياق “سجالات النهار“، وهو عبارة عن مجموعة مقالات عُنوِنَت بـ”عسكر على مين؟”- لبنان الجمهوريّة المفقودة.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  يا حسرتي.. إنها "متلازمة ستوكهولم" اللبنانيّة!