التحرش الخفي من الواقع.. إلى ضفاف الإفتراضي

لا تُظهر محاولة التحرش التي حصلت منذ أيام في منطقة البيال في بيروت بعداً يقتصر على الاعتداء الجسدي على الضحية، بل يثير سيرورة متكاملة قديمة العهد في محاولة الاعتداء على أجساد الضحايا، ولكن ما يثير القلق اليوم هو انتقال معظم حالات التحرش من "حلبة الواقع" إلى "حلبة الافتراضي" وهذا ما يظهر بشكل ملموس في ممارستي العيادية.

لقد وجد الإنسان نفسه محاطًا بتحولات ثورية في عالم الإتصال والتواصل، إنعكست على طبيعة ومآلات علاقاته الإجتماعية، إلا أنه بحسب الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع الفرنسي (Le Breton) “أضحى الإنسان في تجواله الرقمي على المستوى الوجودي، سيرة دون جسد أو روح”.

فبعد أن كان الإنسان يعيش في ما يشبه “المزارع المعزولة”، وجد في “المقاهي الرقمية” وسيلةً لحظويَّة للخروج والتعبير، فكان هذا العالم حقلًا خصبًا لنسج علاقات واضحة أو ملتبسة في عالم حيث المجال يكون مفتوحًا للاستعراضات، ما يؤدي إلى الإنزلاق في علاقات ربما كانت متعذرة في العالم المؤكد.

وما كان بالأمس القريب يُعدّ من الخصوصيَّات أصبح ملكاً عاماً للنشر على خيوط الشبكة، لا بل يكون في أغلب الأحيان موثّقًا بالصوت والصّورة، ما يؤدي إلى إباحة كل شيء كان يُغلّف العلاقات على مستوى الأفراد، وهو مسار لا يكون ثابتًا بل تتخلله طلعات ونزلات وقلق مفتوح نتيجة فقدان الشعور بالأمان والشك وسيطرة مشاعر الاضطهاد والخوف.

واللافت للإنتباه في غرف الدردشة المغلقة بشكل خاص، وجود لغة رقميَّة موحَّدة، يطلقها “الصيادون” الرقميون” الجدد، وكأنها حيكت بفعل فاعل واحد: “سيدتي”، “ملكتي”، “أميرتي”، “منورة” إلخ.. لغة شاعرية أحيانًا، أو كأن المُتحرش يَعرف ضحيته منذ زمن بعيد؛ إنه تحرش خفيّ، لكنه قد يكون مقبولًا بداية للبعض، لكن تتبدى الخطورة في كيفية تطور هذا التحرش والإستدراج بعناوين مختلفة شهدنا الكثير من نماذجها في لبنان في السنوات الأخيرة.. وجلّها يتم التستر عنها، وخاصة لدى فئة الإناث خوفًا من الافتضاح.

واللافت للإنتباه أيضاً أن هناك من يدّعي أنه أمرأة بينما هو رجل، أو يتحدث رجل مُسن مدّعيًا أنه شاب في مقتبل العمر مع فتيات صغيرات أو مراهقات، وذلك لتسهيل عمليات التحرّش.

بعد أن سكنَ كثيرون في هواتفهم الذّكية، وظنّوا أن نوافذَ الدّردشة هي مطية الأحصنة للحصول على شريك العمر، راحت تنتشر العلاقاتُ العاطفيّة الملتبسة التي أنتجَتها التوقعات المتخيّلة أحيانًا

في هذا الصدد، تقول إحداهن بأنه تبيّن لها من خلال تفحص هاتف زوجها، بأنه يتواصل مع فتيات أصغر منه سنًا متخفيًا بصورة أخرى بهدف إيقاعهن في مصيدته، والمفارقة أن زوجها “يُعاني من تشوّه خُلقي”، بحسب وصفها له.

أما الأنثى، ولا سيما التي تنتمي إلى بيئة محافظة لطالما وأدت حاجاتها الوجدانية والبيولوجية، فتراها تبحث عن تعويضات بديلة، بينما هي في مصيدة ذئبٍ بشريٍّ تخفّى في ثوبِ العفة إلى أن تبدأ مرحلة من المعاناة نتيجة عواطف عقيمة.

وقد برزت مؤخرًا عدة ألعاب إلكترونية يشترك فيها لاعبون افتراضيون من كل أنحاء العالم وقد عرفت بأسماء مختلفة مثل البوكر “Holdem poker taxas”، حيث يدخل الرجال والنساء معًا بهدف التسلية والترفيه، ولكنها تستخدم أحيانا كثيرة لأهداف أخرى، كمحاولات استدراج نساء وفتيات نحو روابط وتحرش يبدأ عاطفيا وينتهي بمحاولات وممارسات أخرى.

ولعل غلبة الفضول الكامن والمتعطش للإشباع والحاجات غير المسدّدة جعلت المسائل أكثر تعقيدًا، فبعد أن سكنَ كثيرون في هواتفهم الذّكية، وظنّوا أن نوافذَ الدّردشة هي مطية الأحصنة للحصول على شريك العمر، راحت تنتشر العلاقاتُ العاطفيّة الملتبسة التي أنتجَتها التوقعات المتخيّلة أحيانًا، فتذهب المرأة أو الفتاة باحثة عن تلك الصورة المثالية الافتراضية في عالم فضائي بعيدًا عن الواقع لتستعيد ما خسرته في عالمها الواقعي، أو لتعثر على مفقودات غير موجودة بالأصل إلا في مخيلتها كتعويض نفسي لخسائرها المتوارثة.

من هنا كانت تتكرر تحذيرات المؤسسات سواء أكانت أمنية أو رقابية مجتمعية للتحذير من هذه المنصات وما يمكن أن تولده من صّدمات وأزمات عنيفةٍ لا سيما بالمراهقات؛ بسبب اكتشافهن خداع الطّرف الآخر المحتجب خلف شَاشة هاتفِه الذّكي، من جهة واهتزاز صورتها في بيئتها جراء افتضاح أمرها من جهة أخرى.

قد يبدو لنا أن المراسلات النصيّة اليومية بين المستخدمين للشبكة الاجتماعية الرقميّة لطيفة في بعض الأحيان، إلا أنها قد حلّت مكان العلاقات التي كانت سائدة في عالم الواقع؛ ففي غياب التعبير الكلامي والاهتمام الواقعي يجد أحيانًا بعض المستخدمين – المتلقين – “الضحايا” تعويضًا في هذه العلاقات ولو افتراضيًّا. فهذه الرسائل المحمّلة بالصور والورود المتطايرة، وفناجين القهوة الملقاة على طاولة خيوط الشبكة العنكبوتية مصحوبة بالمعزوفات الموسيقية، تليها مشاعر من خزائن المخيّلة وتمنيات قد أوقعت الكثير في شباكها.

عودٌ على بدء؛ نحن في عالم لم يعد يستطيع إدارة ظهره إلى السوشيل ميديا، لكن ثمة أدوار ووظائف شائكة ومعقدة تتطلب الحذر في مقاربة هذا الموضوع الحيوي والحساس.. وصولاً إلى ضبط وتنظيم وسائل التواصل الإجتماعي.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  لا الصاروخ ولا القنبلة.. إنها المفاتيح يا عزيزي جو!
سلوى الحاج

أخصائية نفسية، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  كورونا وصحتنا النفسية: خلط المخاوف بالأوهام!