حصلت «معركة التوقيت» ونحن فى اللحظات الأخيرة قبل أن نصبح خارج الزمان مع الانسداد السياسى الحاصل بشأن انتخاب رئيس للجمهورية، وتسارع وتيرة الانهيار. من أبرز دلالات هذا الانهيار السقوط المستمر والسريع للعملة الوطنية وما يدل عليه هذا السقوط وما يحمله من تداعيات قاتلة على حياة الشعب اللبنانى.
يريد البعض أن نتحاور حول اختيار الرئيس، وبعدها ننتخبه فى المجلس النيابى. ويريد البعض الآخر أن نتحاور فقط فى الشأن الاقتصادى الضاغط والقاتل الذى برغم أهميته وضرورته بالطبع لكنه بحاجة لحاضنة سياسية تقوم على تفاهم فاعل، الأمر الذى يستدعى أيضا التحاور فى السياسة.
وللتذكير، نحن نتحدث عن دولة مفلسة. وليس عن شركة خاصة مفلسة، برغم أن التعامل مع الدولة اللبنانية من طرف السلطة الممسكة بزمام الأمور، كان دائماً بمنطق تقاسم «الأسهم والحصص والأرباح». دولة تمت خصخصتها بالفعل أو بالممارسة من طرف السلطة ذاتها فى إدارتها للشأن العام. المطلوب إعادة تصويب المسار، مسار طريق المستقبل ونحن على مفترق طرق بين ولوج طريق الإنقاذ أو الاستمرار فى الطريق ذاته الذى نحن فيه منذ زمان حتى الانهيار الكلى، وتحول لبنان إلى ما يعرف بـ«الدولة الفاشلة» والمؤشرات على ذلك كثيرة.
تصويب المسار يفترض ولوج باب الإصلاح الشامل المطلوب ولو التدرجى الذى هو شأن سياسى أساساً يفترض وجود قرار سياسى بهذا الخصوص، قبل أى شىء آخر، الأمر الذى يستدعى توفير «رباعى» قوامه الإرادة والرؤية والبرنامج وخريطة الطريق: إنه الجواب المطلوب لإسقاط الانسداد الحاصل والقاتل والتدهور السريع والمريع على الأرض فى جميع الأوجه والأبعاد. هذه كلها خلقت ظروفا موضوعية ضاغطة لا يمكن التخلص منها مقارنة مع ما كان يحصل فى الماضى بواسطة «المراهم والمسكنات» لشراء الوقت كما يتخوف أو يحذر البعض أو يتمنى ويراهن البعض الآخر. علاقاتنا مع العالم أيضا أو ترميم هذه العلاقات وإعادة التموضع بالفعل فى موقع وسطى أمر أو شرط أكثر من ضرورى لتنجح مسيرة الإصلاح المطلوب. والجدير بالذكر أن الإصلاح غير كافٍ إذا ما ارتبط فقط بالشأن المالى دون تناول الشأن الاقتصادى والشأن السياسى.
نواجه اليوم عمليا تحديات ثلاثة مترابطة ومتكاملة قوامها؛ انتخاب رئيس لا يمثل تحديا لهذا الفريق أو ذاك؛ تشكيل حكومة تكون بمثابة فريق عمل مع رأس الدولة؛ البدء ببلورة البرنامج الإصلاحى الشامل من خلال حوار هادف وعدم الاكتفاء بعناوين دون مضامين. حوار لا يؤخر لا بل يسهل انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة المطلوبة
المسار التغييرى الذى أطلقه الاتفاق السعودى ـ الإيرانى ستكون له تداعيات إيجابية فى المنطقة، ولو أن هذه التداعيات قد تأتى بأوقات مختلفة وستطال لبنان دون شك. ولكن حذارِ التفكير كما جرت العادة فى لبنان أن التفاهم الخارجى بين أصدقاء أو حلفاء المكونات السياسية اللبنانية المتخاصمة والمتقاتلة كفيل وحده بالتغلب على الأزمة المتعددة الأبعاد التى تشل البلد وتهدد وجوده.
إن التفاهم الخارجى يسهل، دون شك، العمل على بلورة التفاهم الداخلى. ولكننا اليوم فى وضع يختلف كليا عن الأمس البعيد والقريب، عندما كان التفاهم الخارجى يخلق هدنة أو تفاهما أو يحدث توازنا جديدا فى الداخل اللبنانى كفيل وحده بقلب الصفحة ومنع الانهيار أو الانفجار. اختلفت الظروف اليوم من حيث حدة وطبيعة ومخاطر الأزمة الحاصلة والمستمرة والذاهبة بلبنان نحو الانهيار المتسارع على جميع الأصعدة.
لا بد بالتالى من التذكير أن بدء عملية الإنقاذ الوطنى هى مسئولية لبنانية أساسا، تستدعى بلورة رؤية إنقاذية شاملة وبرنامج عمل إصلاحى يتناول جميع مجالات الحياة الوطنية من المالى إلى الاقتصادى وكذلك إلى الاجتماعى والسياسى، بشكل تدرجى وعلى أساس جدول زمنى واضح وملزم لأصحاب السلطة لاحترامه. أصدقاء لبنان من منظمات ودول الذين عملوا ويعملون على تسهيل وتعزيز هذا التفاهم يتحملون مسئولية أساسية فى مواكبة رحلة الإنقاذ متى أطلقت وكذلك مسارها وتدرجاتها لتحقق أهدافها المطلوبة والأكثر من ضرورية.
إن تعزيز الاستقرار المجتمعى المبنى على أسس قوية وثابتة مصلحة لبنانية أساسية وشرط ضرورى للتنمية الإنسانية الشاملة للبنان التى تعزز بدورها هذا النوع من الاستقرار المرغوب والمطلوب. هذا الاستقرار يبقى أيضا مصلحة إقليمية ودولية نظرا لموقع لبنان فى الجغرافيا الاستراتيجية فى المنطقة وجاذبيته بسبب هذا الموقع من جهة ولهشاشة الوضع اللبنانى بسبب ارتهان الدولة ومصادرة دورها من طرف منظومة الطائفية السياسية المتحكمة بالسلطة من جهة أخرى.
الإصلاح الشامل يجب أن يكون هدفا استراتيجيا لإعادة تكوين السلطة من خلال الذهاب التدريجى نحو بناء الدولة المدنية على حساب نموذج فيدرالية الأمر الواقع الطائفية الممسكة بالبلاد والعباد. ذلك كله يتطلب بناء دولة المؤسسات وتعزيز ثقافة المواطنة بالفعل وليس بالشعارات، والانتقال من نموذج الاقتصاد الريعى لتبنى نموذج الاقتصاد المنتج وإيلاء الأهمية الضرورية فى عملية التنمية للأطراف الجغرافية المهمشة فى الخريطة الوطنية. الأطراف التى تنتمى إلى الوطن بالفعل فى الجغرافيا وليس فى السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع. كذلك يجب إيلاء الأهمية القصوى للطبقات الفقيرة والتى تزداد توسعا بشكل كبير فى خضم الأزمة الراهنة. ذلك كله يستدعى إقامة شبكة أمان اجتماعى واسعة، الأمر الأكثر من ضرورى لخلق استقرار فعلى وصلب.
المطلوب أن نعمل على بلورة البرنامج الإصلاحى للإنقاذ والذى تشارك فى صياغته جميع المكونات الوطنية. البرنامج الذى يفترض أن يترجم الرؤية لمشروع إعادة بناء السلطة. مشروع يجب أن يعكس كما يعزز مفهوم الدولة الوطنية. دولة المؤسسات والمساءلة وحكم القانون والعدالة الاجتماعية والاقتصاد المنتج وليس الاقتصاد الريعى.
خلاصة الأمر أننا نواجه اليوم عمليا تحديات ثلاثة مترابطة ومتكاملة قوامها؛ انتخاب رئيس لا يمثل تحديا لهذا الفريق أو ذاك؛ تشكيل حكومة تكون بمثابة فريق عمل مع رأس الدولة؛ البدء ببلورة البرنامج الإصلاحى الشامل من خلال حوار هادف وعدم الاكتفاء بعناوين دون مضامين. حوار لا يؤخر لا بل يسهل انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة المطلوبة.
مسار ليس بالمستحيل إذا ما توفرت القناعة، ومن منطلق شديد الواقعية، إن هذا المسار الذى دون شك أمامه صعوبات كثيرة هو الطريق الوحيد لتلافى غرق «المركب اللبنانى» كما حذرنا دائما وللولوج بلبنان إلى بر الأمان.
(*) بالتزامن مع “الشروق“