يُلام الفقير على فقره. يُحترم ذو الثروة على غناه. الغنى طريق الوجاهة والبروز في المجتمع. الفقر لعنة تلاحق صاحبها. يصبح الفقر ملعوناً. الإحسان لا يفك اللعنة. إذ يبقى فقيراً مهما لحقه من إحسان. لوم الفقير على فقره يقود الى عنصرية اجتماعية. بنظرهم هو يستحق ما يصيبه. هذه إرادة الله. وهل يحدث شيء إلا بالإرادة السامية؟ الإحسان ليس لخفض الفقر بل لزيادة علاقات الاستحسان عند المحسن. فالأجر عند الله، والفقراء لا بدّ أن يتذكروا المحسنين في صناديق الاقتراع. طبعاً، بنظرهم الحل الأسهل لإزالة الفقر هو إزالة الفقراء. تُشن الحروب من أجل ذلك. معظم الذين يموتون في الحروب هم من الفقراء. هم الذين تكثر بينهم الجرائم والمخدرات والشذوذ.
مختبرات “اليوجينيكس” أجرت برامج اختبارات في مطلع القرن العشرين، بدعم إثنين من أهم “الفوندايشنز” في الولايات المتحدة. أدخلت بعض النتائج في قوانين بعض الولايات الأميركية ضد الفقراء وأصحاب الشذوذ والسكر وغيره مما يعتبر مشيناً للأخلاق في المجتمع، وذلك في العقود الأولى من القرن العشرين. نتائج الاختبارات نتج عنها برنامج كامل، أخذته النازية الألمانية وطبّقته بمساعدة بعض الخبراء الأميركيين. لا بدّ أن تكون العنصرية ضد الفقراء مبدأ من مبادئ الرأسمالية بجميع فروعها الفاشية والليبرالية.
السياسة يتبارى أهلها، إضافة الى المنظمات الدولية، في الحديث عن مشكلة الفقر واقتراح حلول، وهي طبعاً غير مجدية. وغالباً ما يعرف هؤلاء أن لا حل إلا في اقتلاع الأسباب. ذكرت في المقالة السابقة حول تحوّل المال من وسيلة أو أداة الى غاية كيف صار الاكتناز وتراكم الثروات بأيدي قلة من الناس. إذا أن هذه الثروات هي حصيلة عمل جمهور كبير من الفقراء. وعندما تسأل أحد كبار المرشحين لمناصب سياسية عن أن الفقر هو الوجه الآخر للثروة، لا بل هو السبب، فإنه يستهجن السؤال. وقد حصلت هذه التجربة معي أكثر من مرة. ما لا يريد أرباب السياسة الاعتراف به، إرضاءً لأصحاب الثروات، هو أنه لا يمكن محو الفقر دون محو الغنى. المشكلة بالنسبة لأمثالي (وهذه من نوادر الأحيان التي أتحدث فيها بصفة المتكلم) هي أنه في كل انتخابات نيابية، يقترع الجمهور، ومعظمه من الفقراء، لأغنياء كي يمثلونهم، مع أن هؤلاء المقترعين هم ضحايا المُقترع لهم. وهذه مسألة تتعلّق بالوعي. الوعي الطبقي. هي مشكلة دائمة. ومع دوامها يجب التحدّث عنها باستمرار، فلا يقولن أحد “فلان ذاهب الى المطحنة والناس راجعة”.
الفقر يزداد مع تراكم الثروات بيد القلة من البشر. والفقر ليس أساس أو سبب الجريمة والشذوذ بل الثروات هي السبب.
تحتاج الرأسمالية للفقراء الضعفاء بكثرتهم لأنه لولا قوة عملهم لما كانت الثروات. وهي تسحب الداروينية على المجتمعات لكي تجعل من التنافس طبيعة بشرية. هذا الأمر لا بد من متابعة نقاشه ودحضه. هم يعالجون “مشكلة” الفقر بالإحسان، لكن الحل لا يكون إلا بتغيير النظام الاجتماعي، والتخلي عن الداروينية المجتمعية
من الذي يُحقّق الثروات من صناعة السلاح ثم الحروب لتصريف هذا السلاح؟ ومن انتشار الأمراض وكيفية استفادة شركات الأدوية منها؟ وعلى العموم، ألا يشكل التضخّم وسيلة لسلب الفقراء وتشليحهم ما لديهم، إن بقي لهم شيء منه؟ ومن قال إن التضخّم يحصل تلقائياً كنتيجة طبيعية للأمور إلا البلهاء وأصحاب النوايا؟ ومن قال إن طبيعة البشر هي التنافس كي يسيطر البعض على الشعوب؟ ولماذا لا تكون طبيعة البشر في التعاون والعدل والمساواة في السرّاء والضرّاء؟ تباً لطبيعة افتراضية مثل هذه.
للبشر حق في أن تكون حصتهم مما ينتجونه أكثر مما لا يكاد يكفي لسد الرمق. فهم (أكثريتهم الساحقة) الذين يعملون وينتجون، وما يراكمه غيرهم من ثروات هو مما لم يبذلوا أي جهد في سبيله إلا ما يُسمى “الاستثمار” الذي يديره لهم سماسرة طفيليين من قوادي المال والاستثمار. هم في الحقيقة يستثمرون في حياة البشر، ويستنزفون قواهم ولحمهم ودمهم لجني الأرباح والريوع. هل تراكمت معظم الثروات إلا بالمصادرة والتشليح ونزع ملكية الآخرين؟ ألا نشهد في لبنان واحدة من أكبر جرائم المصادرة ترتكبها المصارف، بينما الطبقة السياسية ساكتة عنها، إن لم تكن دافعة إليها؟ وعلى الأرجح هي كذلك.
الصراع الطبقي فرضه أصحاب الثروات. منذ أن تشكلت الأنظمة السياسية وتأسست على الهيمنة والسيطرة، كان ذلك وسيلة لسلب المحكومين ما لديهم من ممتلكات أو قوة عمل. الهرمية السياسة تنتج تراتبية الفقر والغنى.
يعتبر أهل السياسة أن الفقر مشكلة. والمشكلة تبدأ (بدأت) بهم والطبقة العليا التي تحتاج الى الحماية في سبيل مزيد من استغلال الغير والثروة. يتناقش الناس حول العلاقة بين أهل السياسة وأهل المال، هل المبادر فيها هم أهل السياسة أم أهل المال؟ بالأحرى، يتساءلون عمن هو صاحب القرار في إدارة الآخر، وعمن يتحمّل المسؤولية الأولى؟
المسؤول هو النظام الاجتماعي-السياسي الذي نشأ مع تسلّط البعض على الآخرين، منذ انتقل الناس من المجتمع الأوّل الذي كان التعاون فيه هو العلاقة السائدة بين البشر. الطبيعة الإنسانية الأولى هي التعاون لا التنافس، ولا حتى المقايضة، بل هي المشاركة. مع تعاقب الأنظمة الاجتماعية وانتشار التراتبية السياسية، صارت سيطرة الإنسان الذي في المكان الأعلى اجتماعياً، وفي مراكز الجاه والشرف والنبالة دون الآخرين هي القاعدة، الى أن جاءت الرأسمالية لتجعل من الفقر أو الغنى طبيعة بشرية. علماً بأن هذه الطبيعة تؤخذ من المجتمع الأوّل لا مما لحقه من مجتمعات تراتبية وطبقية. مجتمعات الطبقات هي التي تشوهت فيها الطبيعة البشرية. إذا كان الإنسان يولد على الفطرة، فإن هذه شوهتها جميع المجتمعات اللاحقة الى أن جاءت الرأسمالية، بما هي من تتويج للتشوهات التي لحقت بالطبيعة البشرية التي كانت قائمة على التعاون.
يطغى على البشرية الآن القول إن التنافس طبيعة إنسانية، ويغيب اعتبار التعاون ودوره الذي ألغي في الأنظمة المتعاقبة منذ المجتمع الأول. الى أن جاء داروين “ببراهينه” على أن البقاء للأقوى، أي كما تترجم في النظام الاجتماعي للمسيطر. ما يحدث هو عكس ذلك في المجتمع الرأسمالي، وانتشار اعتبار التنافس طبيعة بشرية. لقد ازدادت أعداد البشرية، خاصة في القرنين الماضيين، مع انتشار الرأسمالية، وازدادت أعداد الفقراء، وهم الأضعف اجتماعياً. فالبقاء هو للأضعف؛ البقاء لمن لحقتهم لعنة الفقر. تستفيد الرأسمالية من الداروينية الاجتماعية لكنها لا تستطيع تفسير البقاء للأضعف.
تحتاج الرأسمالية للفقراء الضعفاء بكثرتهم لأنه لولا قوة عملهم لما كانت الثروات. وهي تسحب الداروينية على المجتمعات لكي تجعل من التنافس طبيعة بشرية. هذا الأمر لا بد من متابعة نقاشه ودحضه. هم يعالجون “مشكلة” الفقر بالإحسان، لكن الحل لا يكون إلا بتغيير النظام الاجتماعي، والتخلي عن الداروينية المجتمعية.