بيير رابحي.. فلاح فيلسوف في مواجهة المدينة

رحل عن حياتنا المفكر والأيكولوجي وعالم الزراعة وداعية الطاقة النظيفة بيير رابحي، تاركاً وراءه إرثاً ثقافياً ومعرفياً واسعاً، يتداخل فيه التنظير بالتجربة والتأليف بالممارسة. لذلك استحقّ هذا البسيط في شكله والعميق في طرحه والزاهد المثقل بالنجوميّة لقبَ: الفلاح الفيلسوف.

كان بيير رابحي (اسمه السابق: رابح رابحي) مخترعاً وعالمَ زراعة وفيلسوفاً ومفكّراً فرنسياً من أصولٍ جزائريّة. ولد سنة 1938 في بلديّة القنادسة التي تبعد عن ولاية/ محافظة بشار (جنوب غرب العاصمة الجزائريّة) بحوالي 20 كم، لعائلة مُزارعة فقيرة تكاد تكون معدمة تماماً، تبنّته عائلة فرنسيّة كاثوليكيّة وهو فوق العاشرة بقليل، رأى والدهُ أنّ وجودهُ فيها قد يكون أحسن لمستقبله من البقاء في كنفٍ عائليّ على موعدٍ مع الفاقة والعوز الدائمين. استقرّ في باريس منذ العام 1954، عمل أثناء ذلك في التمريض، ثم إستُخدمَ تالياً في بنك محلّي.


لم تعجب الحياة الرأسماليّة رابحي ولم تجب على أسئلته الكونيّة حول الأصل والمبتغى من الحياة، فترك المدينة معترضاً على نهجها الاستهلاكي وآثر أن ينتمي إلى الريف حيث يجد ما يصفه بـ”القناعة السعيدة”. كما أنّ الوقت الذي يوفّره الريف لقاطنيه من شأنه أن يُبذل في التفكير والتأمل وإعادة تفحّص العلاقة مع البيئة واستقراء عناصر الطبيعة مجدداً من أجل إقامة روابط صداقة بينها وبين الإنسان، من منطلق أنّها حاضنة له تتّصف بالأمومة والألوهة.

صفّى بيير رابحي علاقته بالدين باكراً، ورأى أنّ الإيمان بالغيب والتفكير فيه قد يؤخّر المرء عن اللحاق بحياته، ذلك أنّ الأدلة التي يوردها الغيب في تفسيره للحياة والموت والطبيعة والكون غير كافيّة لصنعِ نهاية تفسيريّة مُحتملة للعناوين الوجوديّة النهائيّة للحياة.
اخترع رابحي الكثير من الأجهزة المفيدة للمزارعين والفلاحين. ونشط في محاربة التصحّر وتحسين الطرق الزراعيّة، فضلاً عن تأصيله للزراعة العضويّة والبيولوجيّة. وله العديد من المؤلفات والرسائل والبحوث الجامعيّة. وهو عضو دائم في الكثير من مراكز البحث ومعاهد العصف الذهني.
نالَ لقاء كل هذه الإنجازات الكثير من الاعترافات. فلقد كُرم في العديد من دول العالم. وحصل على الكثير من الجوائز والأوسمة من فرنسا وأميركا وكندا والدول الأوروبيّة واليابان نظير نشاطاته واختراعاته. ورُشح إلى جائزة نوبل للسلام في العديد من المرات.

تماسٌ شفيف بالماركسيّة

يعتقد رامان سلدن بأنّ ماركس وإنجلز لم يهتما بالفنون كثيراً، إذ إنّهما يتصوّران الاقتصاد هو المحرّك الأساس للوعي الفردي والجمعي، بلّ إنّهما يتصوّران بشكل صارم ومتّسق بأنّ الصراع الذي يأخذ صوراً عدّة في المجتمع البشري بنمطيّه فكرياً كان أو معيشياً، يُخفي في تضاعيفه القارّة؛ صراعاً طبقياً سببهُ وجود أغنياء موسرين وفقراء مدقعين. يصادق الواقع تماماً على رواية ماركس وإنجلز حول نواة الصراع الأبدي بين أطراف المجتمع، ولكنّهما، كما لاحظ رامان سلدن، قد نظرا إلى الفلسفة والفن كأحد “أشكال الوعي” بوصفهما أنماطاً إنسانيّةً لها “استقلالها الذاتي نسبياً”، ويتّضح ذلك في كونهما يمتلكان مقدرةً ملحوظة على “تغييّر حياة البشر”.


ما يمكن التعقيب عليه هنا، هو أنّ ماركس وإنجلز قد تحفّظا على اكتناهِ أيّ رواية ثقافيّة تتّسم بالأبديّة حول اتّخاذ أشكال المعرفة الإنسانيّة مواثيقَ دائمة لتفسير سلوك البشر. فالحكم بنسبيّة استقلال الفن والفلسفة عن سياق النهايات اللامحدود لأصول الصراع البشري في بعدهِ الاقتصادي، لا تُضمر أيّ نوعٍ من التقليل من قيمةٍ لصالح الرفع من أخرى، من منطلق أساسيّ وثابتٍ يقطع بنسبيّة القيمة في علاقات الحكم وتعليلاته بواقع الحال، هذا المنطلق الحاضر لدى ماركس وإنجلز، بلّ إنّهما يعتقدان بإمكانيّة تغيّر العالم بناءً على قيمٍ بديلة أخرى، ممّا يعني أنّهما على غير وفاقٍ مستديمٍ مع الأحكام النهائيّة والقاطعة. وبالتالي رؤيتهما للفنون باعتبارها نسقاً نسبياً في مقابل النسق النهائي المقترح (الاقتصاد)، لا يعزّزه أيّ دليلٍ كافٍ لثقة رامان في انطباعهِ حول علاقة إنجلز وماركس بالفنون بشكلٍ عام.
جاء جورجي بليخاوف وفي إطار بحثه الدؤوب وقراءاتهِ المتكرّرة لأدبيات ماركس وإنجلز وبلور علم جمالٍ ماركسي، نضج عبرهُ واكتسب كثافته، وانتهى إلى صيغة نهائيّة بالإمكان اعتبارها “استيطقا ماركسيّة”.
على هذا الغرار بدأ بيير رابحي في استدراجِ معالمَ مختلفة حيناً ومتقاطعة أحياناً أخرى، بين ما يمكن أن يكون استيطقا جماليّة تتبدّى معالمها في استدراج الفن والفلسفة إلى جمال الطبيعة و”ديمقراطيّة” البيئة لناحيّة قيامها على التنوّع والتداخل، وبين التفتيش عن صيغٍ صديقة مع أفكارهِ القريبة من الماركسيّة: بين ما يمكن أن نعتبرهُ تحليلي ومعرفي غير جاهز (عالم الأفكار) وبين بيئة واضحة ممّا تُعاني وطبيعة جاهزة للشفاء من أخطاء البشر. كان بيير في هذا؛ على هضبة مقابلة لهضبة رالف دراندروف الذي تفحّص ماركس باحثاً عمّا يمكن اعتبارهُ مدخلاً معاصراً لأفكارٍ قديمة تتراءى مكتملة في التفسير الاجتماعي لنظريّات المجتمع وأشكالهِ من المعارف، وإشكالاتهِ مع النظريّات المجرّدة.

تخلّص بيير رابحي من سموح الحضارة اليوميّة. فأخذَ قسطاً بسيطاً منها واكتفى. فبدت هيئتهُ أكثر قرباً من انسان الريف المنخرط في حياته والمشتبك بها، أكثر ممّا هي عليه من أبّهة المدينة وشروط أهلها المجحفة في حقهِ من “التبسيطيين” للاستهلاك اليومي، والساخرين من الركض المزمن وراءَ مظاهر الحضارة الزائفة

الدعوة إلى الأرض

إقرأ على موقع 180  ميلونشون: غزة هي “غرنيكا” القرن العشرين

تقوم نظرة بيير رابحي إلى الأرض بوصفها أمّاً. قد تبدو هذه النظرة معروفة ودارجة في الخطاب الأدبي الكلاسيكي والمعاصر عموماً، وهي كذلك من دون شك، إلا أنّه توخّى وسائل التعبير عن الأفكار حول طبيعة هذه الأمومة – وهي التي تختلف من كاتب/ مفكر وآخر- شعريّةً وعلميّة/ توثيقيّة في آنٍ معاً.
ذلك أنّ إسباغ الأمومة على الأرض قد يتّخذ بُعداً شعرياً جاهزاً أكثر ممّا يأخذ تفسيراً يلتقي بالفلسفة في مكان ما. لكن اعتبارات بيير رابحي تختلف عن غيرها، فهو إذ يعتبر الأرض أمّاً، يحاول أن يستنطق الذي فينا حيال الذي فيها وليس العكس! وربما هنا يكمن نوع من المفارقة الضديّة بين “شعرنة” العلاقة مع الأرض وفلسفتها. أيّ أنّ تحديد العلاقة من جهتنا حيالها يقودنا إلى الفلسفة على أنّ “تمجيز” العلاقة من جهتها نحونا ينتهي إلى الشعر، فلطالما كان الشعر نوعاً من الفلسفة في حدودٍ ما.


قد يجدر الوقوف بنا على المفارقة اللافتة للإنتباه في أنّ الفلاسفة أكثر استشهاداً بالشعر من الشعراء وهم يدلّلون على معانيهم إزاء الظواهر الكونيّة بعمومها. بلّ إنّ ميلاد الحركة الرومانطيقيّة الألمانيّة جاء من نوفاليس وهولدرلين، وهما مُشبعان تماماً بالفلسفة. ويعتبر باومغارتن هو أوّل من منحَ للجماليّة الشعريّة بعدها الفلسفي في كمالها المنهجيّ. وحتى لدى العرب لا يختلف الأمر كثيراً، لقد رأى الفارابي بأنّ “الشعر أحد سُبل الوصول إلى الغاية الإنسانيّة”. وكان يُطلَق على أبي العلاء المعرّي بـ”شاعر الفلاسفة”. وكان يُقال عن أبي حيان التوحيدي “أديب الفلاسفة”.
في الحالة الفرنسيّة نجد أنّ غاستون باشلار أقامَ طويلاً في شرح الشاعريّة وفسّر لأمدٍ معتبر الخيال الشاعر. في حين اعتبر بول ريكور “الشعرَ أفضل مساعد ومُعين للفيلسوف” في تحليله وتركيبه للظواهر. لكن بيير رابحي توسّل نظرة الشاعرين الإنجليزيين وردزورث وكولريدج، وبخاصة وليام وردزورث في رؤيته بأنّ الامتزاج بالطبيعة يمنحها صوتاً. وهذا الصوت لن يكون في نهاية المطاف إلا شعراً غنائياً.
من هذه الاعتبارات أنّسنَ بيير الأرض وصاغَ الطبيعة في شكلها الإنساني. وربما رقّى الجمال على نحوٍ يجعل العناية به لا تقلّ قيمةً أو أهمية عن الكائنات التي تشغل حيز الإنسان وتشترك معهُ في حياته. فقد انتظمَ في البيئة بوصفه عالماً فيها. وانتقد رأسماليّة المدن باعتبارهِ مفكّراً محايثاً لها. وبالتالي بدا التعبير عن خصائص الدفاع عن الجماد المؤهل لكي يصبح إنساناً بشروطٍ رخوة، لا يتمّ إلا بأدوات الإنسان المعرفيّة ولا يأخذ مداهُ من الغاية إلا إذا كنّا جزءاً من المعنى الطبيعي الذي توفّره البيئة لنا، عندما نندرج فيها كسكّانٍ وأهل.
هذه التداعيات والتشكيلات هي من ساهمت في بناء الأشكال الفلسفيّة لأفكار بيير رابحي، وهي من جعلتهُ يتخلّص من سموح الحضارة اليوميّة. فأخذَ قسطاً بسيطاً منها واكتفى. فبدت هيئتهُ أكثر قرباً من انسان الريف المنخرط في حياته والمشتبك بها، أكثر ممّا هي عليه من أبّهة المدينة وشروط أهلها المجحفة في حقهِ من “التبسيطيين” للاستهلاك اليومي، والساخرين من الركض المزمن وراءَ مظاهر الحضارة الزائفة.

Print Friendly, PDF & Email
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  العالم يتغير، أوزان الكبار تتغير.. الذكريات تتحدث