شهدتُ وعاينت.. من قلب عرين ألبير مخيبر (الحلقة الأخيرة)

هذه السطور هي مقتطف بسيط وملخصّ، لمن شاهد وشارك وعاين من قلب عرين ألبير مخيبر وخاض معه مواجهته الأخيرة إلى دموع النصر واختناق الحلق لحظة الانتصار في عرين مجلسه يوم أصدر باِسم الشعب أمر الخروج السوري وحكم الجلاء.

بدأنا التحضير لمعركة العام 2000 فور سقوط «الحكيم» في انتخابات 1996، ابتعد كثيرون واقترب آخرون، لكن الأهمّ هو أن ألبير مخيبر كلّفني بالمتابعة السياسية والإعلامية والتحضير الكامل لمعركة 2000، بعدما أساءه أن يهزم في العام 1996 لأخطاء ارتكبها سواه. سواء في التحالف وطريقته وسوء تسليم القرار إلى نسيب لحّود في إدارة المعركة، أو في أخذ قرار «لائحة المتن» إلى مكان لا علاقة له بجوهر معركة ألبير مخيبر السياسية. فمخيبر لم يكن يسعى إلى المجلس النيابي لأجل الجاه أو الوجاهة ولا حتى العمل في التشريع، إنما ليصدّح صوته في عمق التاريخ اللبناني ويُسمع في الخارج، أنّ نائبًا لبنانيًا تحت قبّة البرلمان المحكوم من سوريا، طالب بجلاء الجيش السوري عن لبنان، وطالب بسفارةٍ لبنانية في سوريا والعكس، وطلب بانتشار الجيش اللبناني وحده من دون سواه على أرض الجنوب.

لهذه الأسباب والمطالب كان لي شرف خوض معركة ألبير مخيبر النيابية وتسخير كلّ شيء، أي شيء.. لإنجاحها.

فكان التحالف المعارض في العام 1998 لخوض أول معركة بلدية على صعيد لبنان. حين تواصلتُ مع ميشال عون وأمين الجميّل عبر مسعود الأشقر مكلّفًا بتمثيلهما في لجنة المعارضة للانتخابات البلدية، واتّصلت بستريدا جعجع لما يجمعني معها من مودّةٍ وانتماءٍ لقضيةٍ واحدة فسمّت إدي أبي اللمع ليمثّل القوّات في اللجنة المذكورة. تلك اللجنة التي خاضت أول تجربة مشتركة للمعارضة ولكنها لم تدم طويلًا علمًا أن رئيسها كان ألبير مخيبر واللقاءات كانت تتمّ في مكتبه في التباريس وهو الأرثوذكسي الذي قبل به الموارنة.

مات ألبير مخيبر في 13 نيسان/أبريل 2002، أي بعد عامَين على حكمه باِسم الشعب على الجيش السوري بالجلاء عن لبنان، وبعد سنين عجاف من النضال والطبّ والحكمة والسياسة التي أدمنها حتى العشق و«الهضامة» الاستثنائية، لزعيمٍ رفض منطق التوريث ومنطق الإقطاع السياسي أو اقتطاع زعاماتٍ من فخذ زعامة

حقّقت بلديات 1998 أهدافها بأن أعادت حضور المعارضة في مناطق عدّة من لبنان، ولكن الأهمّ جاءت بداية جماعية لمن يقول للسلطة: لأ! نحن هنا.

ولكن عاد الجميع كالعادة، إلى الافتراق من جديد، فكانت الخطّة «باء» وهي أن نخرج من شرانق المصالح الضيّقة وصراعاتها، ونختبر تجربة المصلحة والمصالحة. ففتحنا الخطوط مع ميشال المرّ بصفته زعيم مناطقي محبوب من مؤيّديه وقد يصحّ وصفه بـ”المقاول السياسي” أكثر منه صاحب قضية؛ بل هو من طينة هؤلاء الذين يسخّرون كلّ المواقع والعلاقات لخدمة وجودهم السياسي وأبناء منطقتهم، والأهمّ أنهم يعايشون الواقعية السياسية حتى النسغ لعلمهم بما هو مستطاع أو غير مستطاع. فتقاطعت مصلحتنا مع رغبة رئيس الجمهورية إميل لحّود في حينه في إسقاط ابن عمّه نسيب ورغبتنا القوية ومصلحتنا في أن يدخل ألبير مخيبر إلى البرلمان ويقول كلمة لبنان التي عجز كلّ من دخل قبله وما تجرّأ على قولها منذ العام 1992.

وأمام غرق الجميع في المصالح الآنية، لم يكن أمامي إلّا العبور في نفق تقاطع «جهنمي» هو آخر الحلقات لإيصال الختيار إلى مجلس النواب. وإلى جانب ذلك فتحتُ الخطوط مع آل المرّ، وسوّقتُ عن قصد وعن خطأ أن نجاح لائحة المرّ تقضي بالتحالف مع مخيبر، وتعاطيتُ معهم كأننا نملك الآلاف من الأصوات عبر إحصاءات وهمية بقالبٍ مقنع. اِقتنع ميشال المرّ والياس المرّ بأهمّية هذا التحالف، واقتنع إميل لحّود أنها فرصته الوحيدة للقضاء على نسيبه نسيب لحود. حيث التقيتُ به بعد غياب طويل بناءً على موعدٍ رتّبه صهره الياس، لأقول له إن ليس لدي لمواجهتكم سوى كتاب أعدّه عن مصالحة المتن وسوف أذكر فيه بكلّ أمانة إن خنتم أو صدقتم ليردف في عجالة. إذًا سيكون الكتاب مهدًى لي لأننا سنصدق وسوف ينجح الحكيم. (كانت صداقة شخصية تربط ألبير مخيبر بآل جميل لحّود).

كان ألبير مخيبر على يقين أنها فرصتنا الأخيرة واليتيمة لخرق جدار مجلس النواب عبر أصوات ميشال المرّ. وكان مخيبر على يقين أن نسيب لن يسقط لأنه ينسج علاقات مميّزة مع السوريين عبر ميشال سماحة، خصوصًا أنّ أجهزة الوصاية عملت على «تدبيج» عودة الرئيس أمين الجميّل إلى لبنان عبر إخراجٍ مسرحي «بايخ جدًا» من خلال دعوته إلى المشاركة في جنّاز الرئيس حافظ الأسد وذلك لحفظ التوازن السياسي بين الشخصيات اللبنانية وفقًا للأسلوب السوري الدهائي في إدراة الملعب السياسي في لبنان.

وكذلك بيار الجميّل وبرعايةٍ من والده أمين التقى مع نسيب مصلحيًا ولمرّة واحدة فقط على نفس اللائحة في العام 2000، لينقضّ أمين على نسيب من جديد ويتحالف مع ميشال المرّ بشخص نجله سامي في انتخابات 2009 أي بعد خروج السوريين من لبنان بأربع سنوات.

إقرأ على موقع 180  سوريا.. المراجعة، التساؤلات والخيارات الواقعية

بيار الجميّل، تلك الظاهرة السياسية والومضة الاستثنائية في سماء لبنان والمتن الشمالي، تلك الزهرة البرّية التي اخترقت تربتنا وأشعلت ساحاتنا رجولةً وطيبةً ودماثة. بيار الجميّل وكنّا قريبَين جدًا وصديقَين جدًا، وساعدني كثيرًا في معركة «الحكيم»؛ ولطالما كان يتردّد أسبوعيًا إلى مكتبنا في التباريس برفقة صهره الراحل ميشال مكتّف.

مرّ ألبير مخيبر عبر خطّةٍ مخاطة بدقّةٍ محكمة بين خيوط إميل-نسيب والمرّ-الجميّل والسوريين الذين اعتبروا أن ألبير شخصية محترمة ولا يمكن أن يكون خطَرًا أو خطِرًا ولم يتوقّعوا بسبب عمره إلّا أن يكون باحثًا عن نهاية نيابية لا أكثر، ولا يشكّل علامةً فارقة في البرلمان كما كان يفعل كلّ أربعاء على صفحات جريدة “النهار”، التي خاضت معاركه حتى النهايات. ولم يظنّ السوريون للحظة أن يقول مخيبر قوله -وبهذا الاسلوب- في ذلك اليوم العظيم.

ومرّ ألبير مخيبر كذلك، تحت مظلّة البطريركية المارونية التي زرتُها من قِبله في الديمان قبل الانتخابات بشهرٍ كامل وتحدّثتُ مطوّلًا إلى البطريرك نصرالله صفير شارحًا له فلسفة التحالف الانتخابي مع ميشال المرّ وظروفه، وصولًا (وهو يرسم ابتسامته الشهيرة على ثغره) إلى مقارنة فيها من المغالاة ما فيها، عن تلاقي السوفيات وأميركا-روزفلت في الحرب العالمية الثانية لإسقاط النازية. وليس انتهاءً بأهمّية إنهاء الخلافات المتنية-المتنية بعد أربعين سنة من الصراع السياسي الذي أخذ طابعًا شخصيًا في بعض قرى المتن بين ألبير مخيبر وميشال المرّ.

كما طالبتُ صفير باِسم مخيبر أن يحمي ترشيح «بطريرك المعارضة» كما كان يسمّيه، ويمنع استغلال التحالف الانتخابي مع ميشال المرّ للهجوم على مخيبر.

وعبر إدي أبي اللمع، تواصلتُ مع ستريدا جعجع التي زارت بيت مري قبيل الانتخابات البلدية في العام 1998 لإعلان التحالف بين القوّات اللبنانية وألبير مخيبر في البلديات، والتي كان أجمل ما في تلك الزيارة أن حمل مخيبر باقة الورد من مكانها وقدّمها لها وهو يودّعها قائلًا، «من الحكيم للحكيم يا ست ريدا» (هكذا كان يسمّيها مخيبر). وسيّدة معتقل الحرّية، كانت تعلم بدور حكيم بيت مري وجهده في قضية كنيسة سيّدة النجاة لمنع المحظور في زمن العدالة المبتورة.

في ذلك اليوم، أكّدت لي ستريدا أن القوّات لن تخوض الانتخابات لكنها لن تسمح بأي تهجّمٍ على ألبير مخيبر بسبب تحالفه مع المرّ، وسوف تقول لكل راغب في المشاركة ان «انتخب ألبير مخيبر وبس». وبقي ميشال عون، فعمدتُ إلى الاتّصال بناجي حايك صديقي وقريبي وهو على تواصلٍ دائم مع عون في باريس، لنتوصّل إلى انتزاع موقف علني منه تأييدًا لألبير مخيبر يقول فيه ما معناه، إنه يجب قيام جبهة وطنية بعد الانتخابات تضمّ شخصيات وطنية أمثال ألبير مخيبر.

تواصلتُ مع ستريدا جعجع التي زارت بيت مري قبيل الانتخابات البلدية في العام 1998 لإعلان التحالف بين القوّات اللبنانية وألبير مخيبر في البلديات، والتي كان أجمل ما في تلك الزيارة أن حمل مخيبر باقة الورد من مكانها وقدّمها لها وهو يودّعها قائلًا، «من الحكيم للحكيم يا ست ريدا»

هكذا انطلقت المواجهة الأخيرة في العام 2000، لتتوجّ بانتصار البطريرك المدني في صناعة الأمل بوطنٍ يمكنه أن يستقلّ، ولصناعة السلام مع أخصام الأمس من ميشال المرّ إلى أمين الجميّل إلى آل الأشقر من الحزب القومي، فأمَّ دارته في بيت مري الأصدقاء والأخصام ومن اللوائح كافة لتكون معركة الألفية الثانية، معركة مجدٍ أثيلٍ آخَر لديموقراطيةٍ مبتورة إلّا من صوتٍ له رنين الأجراس العتيقة في الأديار الساكنة أعماق الوديان والهضاب في المتن الشمالي.

«أطلب جلاء الجيش السوري عن لبنان»، كانت تلك العبارة التي حملت إليّ دموع الفرح بانتصارٍ شاركتُ في بنائه «طوبة طوبة» ويدًا بيد مع بطريرك لبنان المدني وسيفه.

في الأسابيع الثلاثة الأخيرة التي أمضاها ألبير مخيبر في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، أبلغوه بأن الجيش السوري انسحب من بلدته بيت مري، ومن مواقع وبلدات أخرى كتطبيقٍ جزئي ومتأخّر لإعادة الانتشار.

مات ألبير مخيبر في 13 نيسان/أبريل 2002، أي بعد عامَين على حكمه باِسم الشعب على الجيش السوري بالجلاء عن لبنان، وبعد سنين عجاف من النضال والطبّ والحكمة والسياسة التي أدمنها حتى العشق و«الهضامة» الاستثنائية، لزعيمٍ رفض منطق التوريث ومنطق الإقطاع السياسي أو اقتطاع زعاماتٍ من فخذ زعامة.

(*) كتاب “ألبير مخيبر” صادر عن دار سائر المشرق، متوفر في معظم مكتبات لبنان.

Print Friendly, PDF & Email
ملحم الرياشي

صحافي وكاتب؛ نائب في البرلمان اللبناني

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  حقاً؛ لماذا لا تستسلم المقاومة اللبنانية الآن؟