ثمة سؤال يرافق مدينة الخرطوم ماضياً وحاضراً، لكونه يدور في فلك نشأتها وعلاقتها بحملة محمد علي باشا العسكرية على السودان عام 1820، ومحور السؤال قائم على الجملة التالية: هل كان يمكن للخرطوم أن تنشأ وتنمو وتستمر لولا حملة محمد علي المذكورة؟
هذا السؤال بقدر ما هو وثيق الصلة بالحساسية السودانية تجاه نشأة عاصمة السودان وإعادة عوامل تكوينها وعمرانها إلى “حملة عسكرية أخوية”، فالسؤال نفسه يثير أيضاً الحساسية المصرية حين يجري الحديث عن أن حملة محمد علي باشا على السودان كان من بين أهدافها الكبرى الإسترقاق والبحث عن الذهب والمعادن الثمينة ومطاردة المماليك الذين فروا إلى السودان.
ما العمل حيال الإضطراب والإختلاف في قراءة التاريخ؟
الإجابة المريحة والعقلانية على هذا السؤال ألا يُقرأ التاريخ بعيون الحاضر، ذلك أن أية قراءة تاريخية بعين راهنة، لن تؤدي إلا إلى إنتاج تشوهات في الوعي: الوعي الكائن والوعي في ما كان عليه التاريخ.
وانطلاقاً من ذلك، فالحديث عن الخرطوم يستدعي تفريعه إلى ثلاثة فروع هي: أسباب حملة محمد علي باشا على السودان، بناء الخرطوم، وإسم الخرطوم والإختلاف حول معانيه ودلالاته.
أولاً؛ دوافع حملة محمد علي باشا:
بصرف النظر عما قيل ويقال بأن خلفيات هذه الحملة تتصل بمنظومة تفكير استراتيجية تحلى بها محمد علي باشا، وأضاءت له مصابيح الهدى بتوحيد مصر والسودان كما كان أمرهما في زمن من أزمان الفراعنة، فإن إعادة قراءة ما كتبه مؤرخون مرموقون تُظهر أن أسباباً ذاتية تشكلت في عقل الرجل فدفعته نحو السودان، فيما “وحدة الوادي” كانت نتيجة للأسباب وليست أسباباً قائمة بذاتها.
عبدالله حسين: “أسّس محمد علي المدن، ومن ذلك إنشاء مدينة الخرطوم التي كان موقعها محلة صغيرة للصيادين، وجُعلت سنة ١٨٢٢ معسكرا للجيش، وجُعلت سنة ١٨٣٠ مقرا لحكمدار السودان خورشيد باشا وعاصمة للسودان، وقد أسميت بالخرطوم لأن موقعها عند ملتقى النيل الأزرق بالنيل الأبيض يشبه خرطوم الفيل”
المؤرخ المعروف عبد الرحمن الجبرتي (1753ـ 1825) والمعاصر لمحمد علي باشا، يتحدث في تاريخه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” عما كان يُردّده المصريون في دواخلهم ومجالسهم عن العوامل الدافعة لحملة محمد علي العسكرية على السودان، فيقول “ودخلت سنة خمس وثلاثين ومئتين وألف (1820) وكان أول المحرم، وفي سابع عشرينه حضر الباشا ـ محمد علي ـ من الصعيد، وكان الناس قد تقولوا أنه يريد التجريد على بواقي المصريين ـ المماليك ـ المنقطعين بدنقلة ـ منطقة في السودان ـ فإنهم استفحل أمرهم وصنعوا البارود والمدافع، ومنها أنه يريد التجريد وأخذ بلاد النوبة ودارفور، ومنها أنهم قالوا ظهر بتلك البلاد معدن الذهب والفضة والرصاص والزمرد”.
اللبناني المتمصر نعوم بك شقير (1863ـ1922) وذو النفوذ الفاعل في الجيش المصري يُعدّد في كتابه “تاريخ السودان” الصادر عام 1914 والمصنف في مرتبة ريادية في مجاله ستة أسباب وراء حملة محمد علي على السودان وهي “الإستيلاء على مناجم الذهب، وإمداد جيشه برجال من السود اشتهروا منذ أيام الفراعنة بصلاحيتهم للجندية وشدة بأسهم، واستئصال شأفة المماليك في دنقلة، وتوسيع أبواب الرزق لأنصاره الأتراك والمغاربة والأرناؤوط، واكتشاف منابع النيل لنفع العلم والزراعة المصرية، وتوسيع نطاق التجارة المصرية والإنتفاع بموارد التجارة السودانية”.
وفي هذا الإتجاه يتحدث المفكر والمؤرخ المصري عبد الرحمن بك الرافعي في كتابه “عصر محمد علي” (ط: 1929) إذ يقول “السودان جزء لا يتجزأ من مصر، فمصر والسودان جزءان لا ينفصلان من وحدة سياسية واقتصادية، وهذه المبادئ عمل محمد علي باشا على تحقيقها، ويذكر المؤرخون بواعث وأسباباً عدة لفتح السودان، منها رغبة محمد علي في اكتشاف مناجم الذهب والماس، ثم إمكان تجنيد السودانيين في الجيش المصري، ثم التخلص من الجنود غير النظامية التي لم تهلك في حروب جزيرة العرب، والقضاء على البقية الباقية من المماليك الذين كانوا لاجئين إلى إقليم دنقلة، ثم توسيع مُلك مصر من الجنوب واكتشاف منابع النيل، وإيجاد الروابط الإقتصادية بين مصر والسودان”.
والحال إياها يُقرّها عبدالله حسين عضو البعثة المصرية للسودان في كتابه “السودان من التاريخ القديم إلى البعثة المصرية” الصادر عام 1935 فالأسباب المؤدية لحملة محمد علي باشا “حماية حدود مصر الجنوبية والخوف من تجمع فلول المماليك في دنقلة، وقد عرف محمد علي أن السودانيين يصلحون للجندية وأنهم مطيعون للحكام وأنهم أهل شجاعة، وعلم محمد علي من مستشاريه الفرنسيين بأن السودان أرض واسعة تستأهل الفتح والإستعمار، وعلم محمد علي بأن في السودان مناجم للذهب، وأن الذهب ضروري لمساعدة الحكومة المصرية في توطيد الحكم وتوسيع الملك وتنظيم شئون الدولة، وزار محمد علي السودان باحثًا عن الذهب ومعه علماء فرنسيون”.
عضو الوفد المصري إلى الأمم المتحدة لمناقشة المسألة المصرية ـ السودانية المؤرخ محمد فؤاد شكري يرى “في الحكم المصري في السودان” (ط: 1947) أن السودان “ظلت بلادا مغلقة دون العالم الخارجي أجيالا طويلا قبل أن تدخلها جيوش الفاتح اسماعيل بن محمد علي الكبير عام 1820، عنى محمد علي منذ بلوغه أريكة الولاية بإعادة العلاقات التجارية بين مصر والسودان، ولما كان رجال القوافل التي استطاعت الوصول إلى أسوان والقاهرة في السنوات التي سبقت الفتح مباشرة، قد أطالوا الحديث عن خصب التربة ووفرة حاصلاتها وما يخفيه باطن الأرض من معادن الذهب والحديد، فقد عز على العاهل العظيم أن يظل استثمار هذه الموارد الطبيعية مهملا، وكان ذلك من العوامل التي أقنعت الباشا بضرورة فتح السودان، ومع أنه من المقطوع به أن الحصول على الرقيق كان كذلك من أهم أسباب الفتح، إلا ان الباشا كان يريد أن يُدخل شيئا من النظام على تجارة كان من المستحيل عليه ان يقتلع جذورها”.
وبرغم توسعه بشرح طموحات محمد علي حيال وحدة القطرين المصري والسوادني وتوحيد شطري وادي النيل إلا أن محمد شكري يقول “وقد حرص محمد علي على أن يضمن للرقيق المجلوب من السودان حالة استقرار ونظام وذلك بإلحاقهم بجيشه وتعليمهم الزراعة وبعض الصناعات والحرف، والرغبة في مطاردة المماليك واستئصال شأفتهم كانت من أهم أغراض الحملة”.
وفي كتابه الآخر “مصر والسودان/ تاريخ وحدة وادي النيل”، يعتبر محمد فؤاد شكري أن محمد علي ارتكز على ثلاثة أسباب في حملته على السودان قوامها “الوحدة السياسية والإطمئنان إلى توفير ما تحتاج إليه مصر، بل السودان نفسه من مياه النيل، والإستناد إلى نظرية الخلو أو المُلك المُباح، وفحوى نظرية محمد علي أن الأقطار السودانية عند ضمها إلى مصر لم يكن أحد يمتلكها في الحقيقة”.
أحد أهم المؤرخين السودانيين وأستاذ فلسفة التاريخ في جامعة الخرطوم مكي شبيكة (1905 ـ 1980) له كتاب شهير عنوانه “السودان عبر القرون” (ط:1964) يصف حملة محمد علي باشا على السودان بـ”غزوة محمد علي للسودان” فيجعل على رأس خلفيات الحملة طموحات محمد علي بتجنيد أهل السودان في جيشه، ومن هذا المنظور يقول:
“رأى محمد علي أسواق النخاسين السود وسمع عن شدة بأسهم وقوة مراسهم وعرف أنهم ينقادون بسهولة لسادتهم، ولا شك أن محمد علي وهو يسعى لتوطيد مركزه في مصر سعى لإيجاد جيش جديد يدعم هذا المركز بهذه المادة الخام من الرجال لجيشه في المستقبل، وسمع ان جنوب السودان رماله الذهب والمماليك فروا جنوبا وأنشأوا لأنفسهم مملكة ترامت أخبارها لمحمد علي وقد ينتهزون ضعف المملكات الصغيرة في السودان ويبتلعونها وقد يتقدمون شمالا ـ نحو مصر ـ لإسترداد حقهم الذي اغتصبه محمد علي”.
عبد الرحمن بك الرافعي: السودان جزء لا يتجزأ من مصر، فمصر والسودان جزءان لا ينفصلان من وحدة سياسية واقتصادية، وهذه المبادئ عمل محمد علي باشا على تحقيقها، ويذكر المؤرخون بواعث وأسباباً عدة لفتح السودان، منها رغبة محمد علي في اكتشاف مناجم الذهب والماس، ثم إمكان تجنيد السودانيين في الجيش المصري
ثانياً؛ بناء الخرطوم:
يقول نعوم بك شقير إنه في سنة 1825 “سُمي عثمان بك والياً على السودان فذهب إليه ومعه الجنود المنظمة الذين عُرفوا بالجهادية ونقل إليها أقلام الحكومة ومستودع الفرسان والمخازن والأشوان ـ الغلال ـ وجعلها مركزا له فبقيت مركزا للولاة وعاصمة للسودان”.
وحين يتناول عبد الرحمن بك الرافعي نشأة الخرطوم يتطرق في الوقت ذاته إلى سيرة “الولاة المصريين” في السودان، فيضع على رأسهم خورشيد باشا “أعظم ولاة السودان شأنا، سار سيرة عدل واستقامة وعمّر الخرطوم”. وينقل الرافعي عن المؤرخ ديبران “أن المصريين حين فتحوا السودان لم يختاروا بلدة من بلداته القائمة عاصمة لأملاكهم، بل أنشأوا عاصمة جديدة هي الخرطوم، ولم يكن في مكانها قبل الفتح المصري سوى محلة صغيرة للصيادين”.
وفي الطريق نحو الخرطوم وبنائها، بحسب عبدالله حسين، “واصل الجيش المصري الزحف في ٢١ شباط/فبراير سنة ١٨٢١ في صحراء بيوضة حتى وصل إلى النيل تجاه بربر التي فتحها الجيش المصري وأخضع ملكها ووصل الجيش إلى شندي حيث أعلن ملكها الولاء، ثم استمر الجيش في سيره جنوبا فاحتل حلفاية القريبة من موقع الخرطوم، واحتل أم درمان ونزل فيها بالمراكب فأقام الجنود في محلة صغيرة كانت الموقع لمدينة الخرطوم التي أنشأها محمد علي وجعلها عاصمة للسودان، وقد جُعلت أولا معسكرا للجيش”.
وفي “الحكم المصري في السودان” لمحمد شكري، كان اسماعيل بن محمد علي أول الحكام المصريين على السودان، وخلفه صهره محمد بك ثم عثمان بك جركس ثم خورشيد باشا “حتى إذا تسلم زمام الأمور بدأ عهد الإستقرار والعمران كما تعاون مع حكومة القاهرة في العمل على إنعاش الزراعة وإحياء بعض الصناعات واختار لعاصمة البلاد موقعا صالحا فأسَّس مدينة الخرطوم وتقدمت في عهده وعمرت أسواقها حتى صار يقصدها التجار من كل الجهات”.
هذا الدور لخورشيد باشا في بناء مدينة الخرطوم يتطرق إليه مكي شبيكة أيضاً “كان على الحاكم الجديد أن يُرجع ما فقدته النفوس من ثقة في الحكومة فهو يجامل ويلاطف حتى اطمأن الناس أنه لم يكن على غرار من سبقه، ووجّه عنايته لبناء العاصمة، فبعد أن كان معظم بيوتها من الشكاب وجلود البقر شيّد الجامع بالطوب الأحمر وكذلك مباني الحكومة وثكنات الجُند وشجّع الأهالي على البناء والتعمير بأن يُفرِّق عليهم الخشاب من جانب الحكومة”.
أما المؤرخ محمد إبراهيم أبو سليم في “تاريخ الخرطوم” (ط: 1970) والذي نشر أبحاث كتابه أولاً في مجلة “الخرطوم” التي كانت تصدر عن وزارة الإرشاد القومي السودانية، فيعطي فكرة أبعد وأكثر تفصيلا عن تاريخ الخرطوم، فالمدينة هي:
“وريث مجد سوبا عاصمة مملكة علوة وقري عاصمة مشيخة العبدلاب، وفد إليها مع غروب شمس سوبا جماعة من المحس ـ قبيلة نوبية ـ فعمروا توتي ـ جزيرة نهرية ـ وسط الخرطوم ـ ومن توتي نزل ولي من أوليائهم الخرطوم ليبني منزلا وخلوة، ولما جاء التُرك ـ حملة محمد علي باشا ـ بنوا عاصمتهم في الخرطوم، وكان إنشاء الخرطوم من أعظم إنجازات التُرك الباقية، ثم قامت دولة المهدية لتهدم كل ما بناه الترك، وهدمت في ما هدمت مدينة الخرطوم، وبنت في ما بنت مدينة ام درمان واتخذتها عاصمة، وجاء الحكم المصري ـ الإنكليزي ليعيد للخرطوم مجدها الغابر ويتخذها عاصمة للبلاد”.
ثالثاً؛ إسم الخرطوم:
من الشائع أن إسم مدينة الخرطوم عربي ومرجعه إلى لسان أرضي يمتد بين نهري النيل في العاصمة السودانية، وذهب كثيرون إلى هذا المذهب، وللحؤول دون الإطالة وإلى كثرة ما يقوله القائلون، هذا ما يورده عبدالله حسين في “السودان من التاريخ القديم إلى البعثة المصرية”:
“أسّس محمد علي المدن، ومن ذلك إنشاء مدينة الخرطوم التي كان موقعها محلة صغيرة للصيادين، وجُعلت سنة ١٨٢٢ معسكرا للجيش، وجُعلت سنة ١٨٣٠ مقرا لحكمدار السودان خورشيد باشا وعاصمة للسودان، وقد أسميت بالخرطوم لأن موقعها عند ملتقى النيل الأزرق بالنيل الأبيض يشبه خرطوم الفيل”.
لكن محمد إبراهيم أبو سليم في “تاريخ الخرطوم” يقول “اختلف الناس حول أصل إسم الخرطوم وساقوا عدة تفسيرات، ومن الصعب أن يصل المرء إلى نتيجة محددة، وليس يُعرف إذا كان هذا الإسم عربيا أو نوبيا أو مرويا أو من لغة من غير هذه أو تلك”.
يتساءل أبو سليم “بعد هذا كله ما أصل هذا الإسم (الخرطوم)؟ هل هو عربي أم شلكاوي أم نوبي أم دينكاوي أم مروي؟ أغلب ظني أنه نوبي لكنه لا يصل إلى اليقين، ومن المؤكد أنه ليس بعربي”
ماذا في اللغات والتفسيرات؟
بحسب محمد إبراهيم أبو سليم “تواتر القول بأن العرب أطلقوا هذا الإسم على المكان لأن طرفه يمتد في شكل يشبه خرطوم الفيل حين يلتقي النيلان الأبيض والأزرق”، وأما القبائل السودانية الأفريقية فلديها تفسيرها للإسم “فبعضهم قال إن اللفظ يعني في لغة الشلك، وبعضهم قال في لغة الدينكا: المكان الذي يجتمع فيه العيون والأنهر”، فيما الضابطان الإنكليزيان جيمس جرانت وجون هانينغ سبيك اللذان اكتشفا بحيرة فيكتوريا يعتقدان أن إسم الخرطوم “مأخوذ من القرطم وهو نبات تكثر زراعته في مصر وكان يُستعمل زيته للإضاءة”.
وحيال ذلك يتساءل أبو سليم “بعد هذا كله ما أصل هذا الإسم؟ هل هو عربي أم شلكاوي أم نوبي أم دينكاوي أم مروي؟ أغلب ظني أنه نوبي لكنه لا يصل إلى اليقين، ومن المؤكد أنه ليس بعربي”.
أخيراً؛ قصيدة للخرطوم منشورة في شهرية “المقتطف” المصرية ـ اللبنانية في نيسان/ابريل 1910:
حلّقتُ في جو الخيال طويلا/ أبغي إلى علم الغيوب سبيلا
حتى استقر بي المقام ببلدة/ فيحاء أضحت للصفاء مقيلا
فيها الجنان الناضرات غرامها/ فيها الهزار يُجوّد الترتيلا
فيها القصور الشامخات قبابها/ قامت على أمن البلاد دليلا
هذه هي الخرطوم ترمق مقرن/ البحرين حيث النيل ضمّه النيلا.