أكثر من ذلك، تبيّن أنّ التلاعب بنوعيات ومواصفات المواد النفطيّة المستوردة، لعبة مختبريّة داخليّة. تقنيّاً، تمرّ كلّ الشحنات التي تدخل لبنان عبر منشآت النفط في طرابلس والزهراني، ومختبراتها التي تفحص عيّنات الشحنات المستوردة للقطاعين العام والخاص، أكانت من الفيول أويل أو البنزين أو المازوت.
على مدى أشهر، تخبّط “قضاء” غير متخصّص بالمسائل النفطيّة التقنيّة. وبرغم وجود إفادات تؤكّد تلاعب عدد من الشركات الخاصة المستوردة بنوعيّة المنتجات النفطية، لم يُحرَّك الحقّ العام إلا على الملك العام، فحُمّلت منشآت الدولة وزر أرباح شركات خاصة. خرجت شركات كانت تستورد لمصلحة منشآت الدولة من المشهد، وحازت شركات مستجدّة على حصة شركة الدولة من السوق.
المهمّ، طُمِسَ ملفّ الفيول المغشوش. ظنّ اللبنانيون أنّ صفحات “التخبيص” في المنشآت قد طُويت. مرّت سنة أولى وثانية ثمّ ثالثة. حتى “فقعت” فضيحة جديدة: التلاعب بكميات المواد النفطية المخزّنة في مصافي الدولة لمصلحة شركات توزيع محظيّة.
تتلاعب دوائر التخزين والتعبئة في منشأتَي طرابلس والزهراني في تسجيل الحرارة الفعلية للبضاعة حتى يكون فرق الكميات ناتج عن فرق الحرارة لمصلحة الشركة الموزّعة. بمعني أبسط، يسرق “قيّمون” على المنشآت الأموال العامة، لمصلحة موزّعين محظيّين، في الشمال والجنوب، وهؤلاء يسددون ثمن البضاعة بالليترات
بداية “القصة”
بدأت القصة في تشرين الثاني/نوفمبر 2022. تقدّمت المديرية العامة للنفط بإخبار لدى النيابة العامة المالية، للتحقيق بفقدان كميات من المواد النفطية في منشأة طرابلس. حُوّلَ الملف إلى قاضية التحقيق الأولى في الشمال سمرندا نصار. سبقت ذلك إخبارات عن اعتداءات متكررة تعرّضت لها خطوط أنابيب النفط الممتدّة من العراق، عبر سوريا، إلى طرابلس. ثمّ أُبلغ عن ثقوب في الخطوط التي تربط منطقة التفريغ بمنطقة التعبئة، داخل حرم المنشأة. قيل إنه فُقد من المصفاة مليون ليتر من الديزل.
تحرّك وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض، فنظّم مناقصة حظيت بها شركة “Humber Inspection International Limited” الرقابية لإعداد تقرير شامل عن المخزون الفعلي لعام 2022 في منشآت النفط في طرابلس. نتائج التقرير تؤكد ضياع حوالى 620 ألف ليتر من مادة المازوت.
بعدها تقدّمت إدارة منشآت الزهراني بكتاب إلى وليد فياض طلبت فيه تعيين شركة رقابية لإعداد تقرير عن حركة تفريغ البواخر والتعبئة لتبيان أرقام الكميات المستوردة والكميات المسلّمة إلى السوق المحلية والقوى الأمنية بغية احتساب نِسب وكميات التّبخّر. وكانت المهمّة من نصيب شركة “LIIC”.
هنا لا بدّ من الإشارة إلى نقطتين:
– الأولى هي لجوء إدارة مصفاة الزهراني إلى شركة رقابية لإجراء مسح المخزون، في حين كان بوسعها إجراء الجردة الدورية السنوية من دون حكم.
– الثانية هي الإيعاز مُسبقاً وقبل صدور التقرير “النهائي” بأن هناك كميات قد تبخّرت ضمن الهوامش المعترف بها دولياً والمعمول بها جمركياً.
وبحسب المعلومات، تبدّلت أرقام الزهراني بنِسب متفاوتة ما بين التقرير الأوّلي والآخر النهائي بحوالي النصف بشكل غامض. تغيّرت الكميات المفقودة على الشكل التالي:
– مليون و750 الف ليتر الف ليتر بنزين الى حوالى 800 الف ليتر.
– من 900 الف ليتر ديزل الى حوالى 500 الف ليتر.
– من 160 الف ليتر فيول اويل الى 130 الف ليتر.
– حوالي 450 الف ليتر ديزل ذهبت لإنارة المنشآت.. وجوارها.
الاهمّ من الأرقام، وإن كانت، تُترجم خسائر بما يقارب 3 ملايين دولار، هو ظهور خزان رقم 803 (صندوق منشأة الزهراني الأسود) والذي تبيّن انه يحوي الفوارق في الكميات المفقودة والتي نُقلت دفترياً اليه.
تبخر إستثنائي!
بالحديث عن الفوارق، ما السبب الذي دفع بوزارة الطاقة والمياه ومعها المديرية العامة للنفط إلى اعتبار انّ الكميات المفقودة في طرابلس ناجمة عن سرقات، فيما الكميات المفقودة في الزهراني نتيجة تبخّر، وانّ كميات النقص هي ضمن الهامش المسموح به جمركياً (للبنزين 0.4٪ صيفاً و0.2٪ شتاءً، وللديزل أو المازوت 0.2٪)!
عليه، يجوز التساؤل إن كان تقرير “LIIC” هو نوع من تبرئة ذمّة إدارة المنشآت في الزهراني، على اعتبار أنّ التدقيق بالكميات الموجودة تمّ بالارتكاز إلى الداتا التي تُسلّمها مصلحة البرمجة والتخزين للشركة المراقِبة!
هذا في الزهراني، أما في طرابلس، فقد تسبّب قرار إقفال المنشآت بخسائر مباشرة بحوالي 5 ملايين دولار. ففي الخزان، 17 مليون ليتر من مادة الديزل. كان سعر الليتر الواحد تقريباً دولاراً و10 سنتات، واصبح اليوم 0.64 سنتاً.
إلى ذلك تُضاف الخسائر بالحصة السوقية لمصلحة الشركات الخاصة. خلال العام 2018، كانت حصّة منشآت النفط في طرابلس والزهراني من السوق المحلّيّة في الديزل 27٪. بعدها، تحديداً في العام 2020 وصل هذا الرقم إلى31٪. أما في العام 2022، فتدهور إلى 9٪، قبل أن يصل خلال العام 2023 إلى 4٪ فقط.
السرقة عبر التلاعب بالحرارة
يمكن ان تتخطى السرقة عبر التلاعب بالحرارة الـ2٪ من المخزون في كلّ منشأة. ما يعني سرقة حوالى مليونَي دولار وفقاً لأسعار السوق الرائجة.
تتلاعب دوائر التخزين والتعبئة في منشأتَي طرابلس والزهراني في تسجيل الحرارة الفعلية للبضاعة حتى يكون فرق الكميات ناتج عن فرق الحرارة لمصلحة الشركة الموزّعة. بمعني أبسط، يسرق “قيّمون” على المنشآت الأموال العامة، لمصلحة موزّعين محظيّين، في الشمال والجنوب، وهؤلاء يسددون ثمن البضاعة بالليترات.
ببساطة أكثر، تُرفع الحرارة، يُضخّم حجم المادة النفطية. تُعبّأ كميات ملغومة من دون أن يؤخذ وزن الصهريج بعد التعبئة.
إذا احتسبنا عدد الصهاريج التابعة لشركات التوزيع المحظيّة، نفهم كيف تُفقد كميات ضخمة من البنزين والمازوت من حرم المنشآت.
مقاربة هذه الفرضية بالكميات المفقودة في المنشآت تُثبّت نظريّة التلاعب باحتساب فارق الحرارة التي تتخطّى الـ 1% شهرياً.
أما بخصوص التلاعب بالكَيْل، فما يحصل كناية عن تقديم أوراق كَيل مزوّرة من دون أي مراقبة من قِبل وزارة الاقتصاد، ما يُسهّل عمليات السرقة.
الخلاصة
في طرابلس، مسار قضائيّ يبدو أنه يسلك خطى سلفه في قضية الفيول المغشوش: يفتقر إلى الخبرات النفطية التقنية، يتخبّط بالشكليات، يهتزّ من الضغوطات، أما في الزهراني.. فحرارة special.
أما في الدولة اللبنانية ككلّ، فمنشآت “لعوب”. رشيقة في اللعب بالنوعيات. وخبيرة في اللعب بالكميات، من ثعلب إلى ثعلب.. إلى آخر نقطة في “خزّانات الدويلات”.