الفنان عبد الرحمن قطناني (1983)، ابن مخيم صبرا وشاتيلا، الذي بنى تجربته الفنية وصقلها في أزقة هذا المخيم وحواريه، فكانت مواده الأولية عبارة عن مخلفات البناء، وهي قليلة وفقيرة في حالة المخيم، وعن مواد مهترئة مصيرها القمامة، ليبني صورة مغايرة عن الصورة النمطية للمخيم أو المخيمات؛ صورة تتيح للناس أن يتصوروا الحلم، والفرح، والغضب، والحياة، ولعب الأطفال، والطيور، والزهور، والرقص، والتعليم، والصمود، وقسوة الحياة اليومية، والأسلاك الشائكة، وما إلى ذلك من صور يومية لحياة الناس داخل هذا المكان المحاصر، والممنوع من التوسع والتمدد، والمنبوذ من جيرانه، إلى حد ما.
موجة، أسلاك شائكة، 2016
وعبد الرحمن لا يعبّر عن كل هذه الصور والمشاهد بالرسم، وإنما بتركيب وتجميع المواد الهيكلية للمخيم، من أسلاك شائكة، وخِرَق ملابس بالية، وأوانٍ مهترئة، وكرتون، وأسلاك كهربائية، وألواح الصفيح (الزينكو) المتهالكة التي تغطي أسطح المباني في المخيم، والتي تزيد من قيظ الصيف ولا تقي من مطر الشتاء وبرده.
فعلى مر الزمن، كانت ألواح الصفيح، ولا تزال، رمزاً أساسياً من رموز المخيم، وفي الوقت نفسه علامة فارقة ومميزة من أدوات العمل الفني، فهي الأساس الذي ارتكزت عليه فكرة الفنان عبد الرحمن قطناني، الذي قال في مداخلة له عندما بدأ بجمع النفايات من أجل تحويلها إلى أعمال فنية: “سألني الأصدقاء في المخيم عمّا إذا صرتُ أعمل زبالاً، إذ كنت أجمع ألواح الصفيح كي أعيد تشكيلها وبناءها فنياً لأُظهر صور المخيم وأشخاصه من خلال الزينكو؛ الولد والبنت والعجوز والرقص وشجرة الزيتون وموج البحر والطيور وبراميل الكاز أُعيد تجسيدهم بالصفيح”.
وبالإضافة إلى الصفيح، شكلت الأسلاك الشائكة إحدى المواد الأولية التي أعاد عبد الرحمن من خلالها تجسيد المشهد الطبيعي؛ فتأخذنا الموجة، التي صنعها من الأسلاك الشائكة التي تسيّج الحدود بين لبنان وفلسطين، إلى سواحل البلاد متخطية الحدود التي تفصل بينه وبين وطن أجداده، وبالتحديد بينه وبين مدينته يافا. وهذه الأسلاك نفسها سيّجت زيتون فلسطين لتحميه من اعتداءات جرافات الاحتلال الإسرائيلي التي تريد اقتلاعه من جذوره، ليعكس بهذا مشهد التشبث بالأرض والجذور.
شجرة زيتون، أسلاك شائكة، 2015
من يافا على الساحل الفلسطيني بدأت مسيرة لجوء عائلة عبد الرحمن قطناني لجهة الأب، ومن حيفا لجهة الأم، إلى المخيم بداية، ثم إلى منازل الصفيح في المخيمات الفقيرة والمكتظة، وصولاً إلى مخيم صبرا وشاتيلا الذائع الصيت بسبب المجزرة التي حدثت فيه في أيلول/سبتمبر 1982. ومخيم صبرا وشاتيلا ليس المخيم الوحيد في لبنان، حيث هناك ما يزيد على 12 مخيماً فلسطينياً تم تشييدها في أعقاب النكبة (1948)، بالإضافة إلى عشرات المخيمات في سوريا والأردن وقطاع غزة والضفة الغربية، والتي تشكل أحد أهم تجليات النكبة، وأحد أبرز الشهود على استمراريتها. وفي هذه المخيمات تجمع اللاجئون مكانياً بحسب القرى التي تهجروا منها، أو بحسب صلات القرابة التي تربط بعضهم ببعض، فلا يعدو المخيم مكاناً للسكن فحسب، بل أيضاً مكاناً يعكس الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية للاجئين القاطنين فيه، ويحافظ عليها أملاً بالعودة.
عبد الرحمن قطناني: “سألني الأصدقاء في المخيم عمّا إذا صرتُ أعمل زبالاً، إذ كنت أجمع ألواح الصفيح كي أعيد تشكيلها وبناءها فنياً لأُظهر صور المخيم وأشخاصه من خلال الزينكو؛ الولد والبنت والعجوز والرقص وشجرة الزيتون وموج البحر والطيور وبراميل الكاز أُعيد تجسيدهم بالصفيح”
لا يندرح هذا المقال في إطار المراجعات الفنية، أو النقد الفني، كما أنه ليس مقالاً سوسيولوجياً لتحليل بنية المخيمات الفلسطينية، وإنما يندرح في إطار عرض تجربة فنان يحاول إظهار كل ما هو جميل وقاسٍ وصعب في المخيم من خلال أعمال فنية وصلت إلى العالمية، أو بعبارة أُخرى: فنانٌ يحاول أن يستخلص من بؤس المخيم صوراً تضيء على حياة الفقراء الحالمين من أبناء وبنات المخيم، لا الحالمين بالعودة إلى الديار فحسب، بل أيضاً الحالمين بحياة كريمة، لتستخلص بعض الفرح المتبقي على الرغم من ظلمة الأزقة والاكتظاظ وقسوة الحياة اليومية. وهو بهذا كله يعيد ترتيب علاقته بفلسطين وتعزيزها من خلال ذاكرة القاطنين في المخيم.
لم يكن هدف عبد الرحمن من خلال أعماله الفنية هذه التماهي مع البؤس، وإنما هي محاولة متواضعة لإخراج المخيم من الإطار الذي وُضع فيه، ليتمكن الجميع من رؤيته، سواء الذين لا يستطيعون الدخول إليه، أو من لا يرغبون في ذلك، أو من يخشون هذا المكان. ففي معرض أقامه، سنة 2019، في غاليري صالح بركات في بيروت، استخدم المرايا كأداة تعكس الأزقة والزواريب، أو حتى واقع الحال المعاش، وفي الوقت نفسه، تعكس هول الجريمة التي ارتُكبت بحق الشعب الفلسطيني.
لقد استخدم قطناني مواداً من بيئة المخيم لإظهار الجمالية الاستثنائية للمخيم، كي يخرجه من عزلته، وكي يرى العالم أن ثمة مكاناً يعيش فيه لاجئون فلسطينيون منذ 75 عاماً، وهذا يعني أنه مرّ على الجريمة بحق هذا الشعب 75 عاماً، وأن النكبة لا تزال مستمرة. فوظّف الفن بطريقة إبداعية، ليذكّر العالم بهذه القضية أولاً، ولحشد الأصدقاء والمتضامنين مع قضيته ثانياً.
ربما تراءى للبعض، عن حسن نية، أو عن قصد، أن أعمال عبد الرحمن قطناني لن تتجاوز حدود مخيم صبرا وشاتيلا، أو حدود المخيمات بصورة عامة، ذلك بأنها تغوص عميقاً في تفاصيل المخيم التي لم يعد أحد يأبه بها، أو حتى يأبه بوجود المخيم بشكل عام، لما قد يثيره من استفزاز لدى البعض، أو لما قد يتسبب به من إعادة فتح جروح كانت قد بدأت تلتئم. لكن الواقع كان مغايراً تماماً، إذ لاقت الأعمال التي أتقنها المبدع قطناني صدى كبيراً، لا في المخيم أو لدى الفلسطينيين في كل بقاع الأرض فحسب، بل أيضاً في العواصم والمدن الكبيرة في العالم، والتي قرعت هذه الأعمال أبوابها واقتحمتها من خلال معارض فردية، وأُخرى جماعية، في فرنسا وسويسرا وبريطانيا وألمانيا وماليزيا والبرازيل والولايات المتحدة، وبطبيعة الحال في العديد من المدن والعواصم العربية.
وتبقى المفارقة الكبرى العجيبة والغريبة أن أحق مكان بعرض أعمال عبد الرحمن قطناني هو المكان الذي يحظَّر على عبد الرحمن دخوله؛ هو فلسطين، هو حيفا والقدس ورام الله وغزة.
(*) المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية