هجوم أوكرانيا المضاد.. “إنها الحرب على النظام العالمي”! 

أخيراً.. أعلنت أوكرانيا بدء هجومها المضاد الموعود والمربوط بالمساعدات المتدفقة من الغرب. ويختلف الهجوم في طبيعته عن هجمات الصيف والخريف الماضيين من ناحية سرعة التقدم، ومن ناحية الأهداف الإستراتيجية المتوخاة منه.

يتسم الهجوم الأوكراني حتى الآن بالبطء وبمكاسب متواضعة ويتركز على أطراف المواقع الروسية المحصنة تحصيناً شديداً على مدى عام تقريباً. المسؤولون العسكريون والمحللون الغربيون يلتزمون جانب الحذر من الذهاب بعيداً في التفاؤل بنتائج سريعة، ويتوقعون أن يستمر الهجوم أشهراً على الأقل قبل أن يُؤتي أكله.

الإنتكاسة التي أصيبت بها قافلة أوكرانية مدرعة في قرية مالا توكماتشكا بمنطقة زابورويجيا في 7 حزيران/يونيو، نبّهت القادة العسكريين الأوكرانيين وشركائهم في الغرب إلى أن الثمن الذي ستدفعه كييف خلال الهجوم سيكون كبيراً، وكل تقدم على الأرض سيكون مكلفاً. وهذا الجنرال الأوسترالي المتقاعد ميك ريان يعلق لصحيفة “الغارديان” البريطانية على الخسارة الأوكرانية لنحو 12 عربة “برادلي” أميركية ودبابة “ليوبارد” ألمانية بالقول: “يخوض الأوكرانيون أصعب أنواع المعارك الممكنة. إنهم لا يعملون وفق الجداول الزمنية المريحة للصحافة والمعلقين في الغرب”. أما أستاذ الدراسات الإستراتيجية في جامعة سانت أندروز فيليب ب. أوبراين فيقول للمجلة ذاتها إن أوكرانيا تقدم على تجربة فريدة ألا وهي “شن هجوم على نطاق واسع بإستخدام المدرعات من دون تفوق جوي ضد عدو محصن ويملك كمية كبيرة من الوسائط الدفاعية”.

ومن الملاحظات المستخلصة من الهجوم المضاد وطريقة تصدي الروس، هو إدخال روسيا لسلاح الجو على نحوٍ متزايد في المعركة منذ بدء الهجوم، وإشراك مسيّرات “لانسيت” الروسية في المعارك. منذ بدء الحرب، كان هناك سؤال دائم يطرحه المحللون الغربيون “أين سلاح الجو الروسي، ولماذا لم تستخدم روسيا مقاتلاتها بشكل واسع في المعارك”؟

ميدانياً، يضع قائد الجيش الأوكراني الجنرال فاليري زالوجني نصب عينيه، تحقيق إختراق للخطوط الروسية في جنوب دونيتسك وزابوريجيا كجزء من جهد أوسع للوصول إلى بحر آزوف. وهو لن يتمكن من ذلك، من دون استعادة السيطرة على مدينتي بيرديانسك وميليتوبول في جنوب أوكرانيا. وإذا ما إستطاعت أوكرانيا السيطرة على واحدة من المدينتين، فإن قواتها ستكون في موقع يؤهلها لقطع الجسر البري من روسيا إلى القرم وتشكيل خطر حقيقي على خطوط الإمداد الروسية. من دون مثل هذا الإنجاز، لا يمكن أوكرانيا أن تتحدث عن مكاسب رئيسية للهجوم المضاد.

هذه عينة من تحليلات الجانب الغربي. أما بالإنتقال إلى الجانب الروسي، الذي يلعب المدونون الروس فيه جانباً مهماً وأكثر موضوعية من بيانات وزارة الدفاع الروسية، فإن مجلة “ذا هيل” الأميركية تنقل عن المدون العسكري الروسي البارز ألكسندر كوتس، أن القوات الروسية “نجحت في التنبؤ بمسارات الهجوم الأوكراني في منطقة زابوريجيا، وأن الجيش الأوكراني كلما توغل أكثر سيصادف صعوبات أكثر”.

إن التفاوض الذي يتحدث عنه بلينكن اليوم، كان يفترض أن يبدأ قبل الحرب، وعدم إدارة الظهر للهواجس الروسية. هواجس تبين أنها مكلفة لروسيا ولأوكرانيا ولأوروبا وللعالم. والرهان على الهجوم المضاد لإضعاف روسيا وفرض فرساي عليها، ينطوي على المخاطرة بالوصول إلى نتائج أكثر كارثية من فرساي التي فُرِضت على ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى

وفي منطقة دونيتسك، فإن التقدم الأوكراني يمضي ببطء شديد شمال باخموت حيث تمكن من إستعادة عدد من القرى. وفي خيرسون التي تعتبر نقطة محورية في الهجوم المضاد، فإن إنهيار سد نوفا كاخوفكا شكل عاملاً أعاق الخطط العسكرية الأوكرانية وزاد من صعوبات إقامة موطىء قدم على الجهة اليمنى من نهر دنيبرو، حيث تتمركز القوات الروسية. إن التقدم في خيرسون شرط ضروري لنجاح الإندفاع نحو القرم، التي يعتبرها الرئيس فولوديمير زيلينسكي جوهرة الإنتصار على روسيا.

بدورها، تعاني روسيا نقاط ضعف في المواجهة تبدأ من الإخفاق في صد التوغلات الأوكرانية المتكررة على مدن روسية حدودية، ولا سيما في بيلغورود، فضلاً عن نجاح المسيرات الأوكرانية في ضرب أهداف في العمق الروسي من خطوط السكك الحديدية إلى خزانات النفط. والهجمات على أهداف في القرم وقطع بحرية في البحر الأسود، هي الأخرى عامل إشغال للقوات الروسية وللجبهة الداخلية. كما انه لا يمكن تجاهل الصدام بين مجموعة “فاغنر” العسكرية بقيادة يفغيني بريغوجين والجيش الروسي. بريغوجين يُهدّد بالإنسحاب من أوكرانيا إذا ما أجبر على التوقيع على تعهد بإطاعة أوامر وزارة الدفاع الروسية. تفاقم المشكلة قد ينعكس مزيداً من إضعاف المعنويات لدى القوات الروسية.

وإذا ما كانت هذه المسارات المترتبة على الهجوم المضاد في الميدان، فإن الحصاد السياسي، وهذا هو الأهم، قد بدأت ترتسم بعض خطوطه العريضة من مواقف المسؤولين الأميركيين ونظرائهم الأوروبيين. وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن الذي يجمع حقائبه للسفر إلى الصين، الحليفة الإستراتيجية لروسيا، يقول إن هدف الهجوم المضاد “إرغام” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التفاوض لوقف الحرب. وردّد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ بعد خروجه من مقابلة الرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض، الأسبوع الماضي، ما قاله بلينكن بالحرف.

إقرأ على موقع 180  فرنسا وانتخاباتها التّشريعيّة.. أزمة هوية عميقة الجذور

ويجدر التوقف ملياً، عند قول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً، إنه في الوقت الذي يتعين على الغرب ضمان أمن أوكرانيا، فإنه “يجب تجنب المواجهة مع روسيا وإعادة بناء توازن مستدام للقوى”.

الأستاذ المشارك للعلوم السياسية في جامعة بيرديو بولاية إنديانا الأميركية كايل هاينز يتساءل في مقال نشره بمجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، لماذا يمكن إعتبار التفاوض بمثابة مكافأة لما سمّاه “العدوان الروسي”؟ ليضيف محذراً: “ماذا لو تبين أن تحقيق نصر كامل على روسيا أمر غير قابل للتحقق عسكرياً”؟ ليخلص إلى القول إن روسيا هي الآن في حال ضعف والإنخراط معها في مفاوضات بمثابة “فرصة فريدة للعمل نحو نظام أمني إقليمي يصب إلى حد كبير في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها وأوكرانيا”.

مديرة قسم الذرة في جامعة هارفارد فرانشيسكا جيوفاني أعادت التذكير في مقال نشرته في “ذا هيل” الأسبوع الماضي بمضي 60 عاماً على خطاب الرئيس الأميركي الراحل جون إف. كينيدي في الجامعة الأميركية الذي أعلن فيه وقفاً آحادياً للتجارب النووية في الفضاء، لتقول إنه “بينما كان التعاون مكلفاً (مع الإتحاد السوفياتي)، فإن نيكيتا خروتشيف وكينيدي أدركا أن البديل سيكون أكثر كارثية”. وعادت إلى واقع اليوم لتحذر من “أن العواقب المحتملة لمواجهة نووية بين الولايات المتحدة والإتحاد الروسي، لا تزال محتملة وخطيرة اليوم، ويجب أن يكون العمل لمنعها أولوية مركزية للبلدين، بصرف النظر عن إختلافاتنا الإيديولوجية والسياسية”.

هذا يطرح سؤالاً مركزياً عما يمكن أن يقود إليه المزيد من التصعيد في أوكرانيا أو إحتمال الذهاب إلى صدام مباشر، وليس بالوكالة، بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. نشر أسلحة نووية روسية تكتيكية في بيلاروسيا رسالة لا تحتاج إلى تفسيرات كثيرة، حول المكان الذي قد يقود إليه مثل هذا الصدام.

إن التفاوض الذي يتحدث عنه بلينكن اليوم، كان يفترض أن يبدأ قبل الحرب، وعدم إدارة الظهر للهواجس الروسية. هواجس تبين أنها مكلفة لروسيا ولأوكرانيا ولأوروبا وللعالم. والرهان على الهجوم المضاد لإضعاف روسيا وفرض فرساي عليها، ينطوي على المخاطرة بالوصول إلى نتائج أكثر كارثية من فرساي التي فُرِضت على ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى!

رئيس الأركان الأميركية المشتركة المنتهية ولايته الجنرال مارك ميلي، وضع النزاع الأوكراني في سياقه الإستراتيجي الصحيح عندما قال في الإجتماع الشهري لمجموعة الدول الداعمة لأوكرانيا في بروكسيل: “إنها حرب على النظام العالمي”. لكن ليست روسيا وحدها التي تعلن الحرب على النظام العالمي. ماذ تفعل الصين مثلاً ومعها كل الدول الناشئة المتطلعة إلى عالم متعدد الأقطاب يكسر عصر الهيمنة الأميركية.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  فرنسا وانتخاباتها التّشريعيّة.. أزمة هوية عميقة الجذور