فى هذا السياق، أبرمت اتفاقا سريا مع كوبا، عام 2019، تحصل بموجبه الجزيرة الكاريبية على مليارات الدولارات من الصين؛ مقابل تمكين الأخيرة من بناء منشآت تجسس إلكترونية فى الجزيرة، تخول الصينيين مراقبة التحركات والأنشطة البحرية الأمريكية، والتنصت على الاتصالات بمناطق سواحل فلوريدا، وجنوب شرق الولايات المتحدة. حيث يوجد مقر القيادتين العسكريتين الجنوبية والوسطى، كما تتمركز بعض القواعد العسكرية.
تأتى السرديات الأمريكية بشأن الاختراق الاستخباراتى الصينى، فى توقيت بالغ الدقة؛ لجهة اصطدام العلاقات الأمريكية ــ الصينية، بما تسميه بكين «الصعوبات الجديدة»، التى تُحمَل واشنطن مسئولية تفجرها. إذ تتزامن مع مساعى بكين لتوسيع حضورها الأمنى والاستخباراتى حول العالم؛ بهدف مواكبة الانتشارالمقلق للجيش الأمريكى فى آسيا، وسائر أرجاء المعمورة. كما تعقب توترا أمريكيا ــ صينيا، نشب، فى شباط/فبراير الماضى، على خلفية إسقاط واشنطن منطادا صينيا للتجسس قبالة الساحل الشرقى الأمريكى؛ بعد تحليقه فوق منشآت عسكرية حساسة. وتترافق أيضا مع رفض وزير الدفاع الصينى، دعوة نظيره الأمريكى، لإجراء مباحثات استراتيجية على هامش حوار «شانجريلا» الأمنى، مطلع الشهر الحالى. وسط تجدد الاحتكاكات العسكرية بين الجانبين فى مضيق تايوان، وبحر الصين الجنوبى، إثر دعم واشنطن مساعى تايوان لتكريس الحكم الذاتى، وإصرار الصين على استعادتها بالقوة، إذا لزم الأمر. ويصادف الأمر أخيرا، زيارة، أنتونى بلينكن، للصين، وهى الأولى لوزير خارجية أمريكى منذ خمس سنوات، حيث تم إلغاء زيارة كانت مقررة فى شباط/فبراير الفائت، جراء أزمة المنطاد الصينى.
بموازاة نفيها الادعاءات الأمريكية بشأن تموضعها الاستخباراتى فى كوبا، انتقدت بكين سياسة واشنطن تجاه الأخيرة، محذرة إياها من التدخل فى شئونها الداخلية. واعتبرت الخارجية الصينية أن نشر الشائعات والافتراءات، يعد تكتيكا أمريكيا لتبرير التدخل فى الشئون الداخلية للبلدان الأخرى. أما الحكومة الكوبية، التى جددت نفيها وجود أى قواعد تجسس صينية على أراضيها، فأدانت المزاعم الأمريكية، التى اعتبرتها تلفيقا يبتغى تسويغ الحصارالاقتصادى المجحف، الذى تفرضه واشنطن على الجزيرة، منذ عقود. وشددت هافانا على رفضها كل أشكال الوجود العسكرى الأجنبى فى ربوع أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبى، خصوصا من لدن الولايات المتحدة وحلفائها.
تعتقد الصين أن الموقع الجغرافى للجزيرة الكوبية، التى خاضت صراعا مريرا، امتد لسبعة عقود مع واشنطن، يشكل مصدر إزعاج للأخيرة، لا يقل، فى وطأته الاستراتيجية، عن ذلك الذى تمثله تايوان للصين. وبناء عليه، تتطلع بكين إلى أن يفضى تقاربها الاستراتيجى مع هافانا، إلى فتح آفاق اقتصادية وجيوسياسية أرحب أمام العملاق الآسيوى فى منطقة الكاريبى
متنوعة هى الرسائل الاستراتيجية، التى تنطوى عليها الروايات الأمريكية بشأن مساعى بكين للتجسس على واشنطن، عبر كوبا. فللوهلة الأولى، يبدو الأمر وكأنه استنساخ لسيناريو الحرب الباردة، وأزمة الصواريخ النووية، ما بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة، مطلع ستينيات القرن الماضى. حينما نجح الأول فى الرد على التموضع الاستخباراتى والنووى الأمريكى والأطلسى، فى كل من ألمانيا وتركيا، بمحاذاة المجال الجيوسياسى السوفييتى، من خلال نجاحه فى نشر صواريخ نووية، وإقامة مرافق تجسّس إلكترونية فى الجزيرة الكاريبية، التى لا يفصلها عن السواحل الجنوبية الشرقية للولايات المتحدة، سوى تسعين ميلا بحريا فقط. فاليوم، تأبى الصين، إلا الرد على التدابير الأمريكية الهادفة إلى محاصرتها تكنولوجيا، واحتوائها جيوسياسيا، عبر إنشاء ناتو أسيوى، من خلال صيغة «ناتو +6»، التى تضم كوريا الجنوبية، أستراليا، اليابان، نيوزيلندا، وإسرائيل، كما تسعى إلى ضم الهند. وفى هذا السياق، انطلقت بكين، أخيرا، فى تحرك استراتيجى مضاد، بحثا عن موطئ قدم جيواستراتيجى فى أمريكا اللاتينية، والبحر الكاريبى، حيث الفناء الجيوسياسى الخلفى للولايات المتحدة.
تشى مفاعيل التوتر المتصاعد حاليا بين واشنطن وبكين، ببلوغ التنافس الاستراتيجى، الذى يتخذ شكل حرب باردة، أو أزمة صواريخ كوبية جديدتين بين الجانبين، مبلغا خطيرا. ففى أواسط القرن الماضى، تمكن الاتحاد السوفييتى السابق من استثمار الجفاء الأمريكى ــ الكوبى، وقتئذ، لتكريس تموضعه الجيوسياسى النووى والاستخباراتى على الجزيرة الكاريبية اللصيقة بالسواحل الأمريكية الجنوبية الشرقية. واليوم، تتطلع الصين إلى الاستفادة من تكرار إدارة دونالد ترامب ذات الخطأ الاستراتيجى مع كوبا. بحيث تستغل تجديد العقوبات الأمريكية على الجزيرة، بغية إغداق المساعدات عليها، توطئة لانتزاع تمركزات استراتيجية حيوية لبكين فى منطقة الكاريبى.
وبرغم مضى ما يناهز العقود السبعة، على اندلاع ثورة فيديل كاسترو، التى أطاحت بباتيستا، رجل واشنطن فى كوبا، ومهدت السبيل لارتماء هافانا فى أحضان موسكو، لا تزال الجزيرة الكاريبية تمثل شوكة فى خاصرة الولايات المتحدة. ففى حين لم تعد كوبا الخاضعة لعقوبات أمريكية منذ العام 1962، تنتج سوى ثلث استهلاكها اليومى من الوقود، كما تكابد أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثلاثة عقود، يتوالى وصول السفن المحملة بالنفط الروسى المجانى إلى الجزيرة. وخلال الأشهر القليلة الماضية، شهدت العلاقات بين هافانا وموسكو، انتعاشا لافتا للإنتباه، مع تنفيذ شركات روسية، مشاريع طموحة فى قطاعات كوبية حساسة، فيما لا تنقطع الزيارات الرسمية المتبادلة بين كبار المسئولين فى البلدين.
بين ثنايا مساعيها الحثيثة للاقتراب من الفضاء الجيوسياسى الأمريكى، ردا على مزاحمة واشنطن لها فى شرق آسيا؛ انبرت الصين فى تعظيم حضورها الجيواستراتيجى داخل أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبى. وفى سبيل ذلك، عززت بكين أواصر علاقاتها مع كوبا، التى كانت أول دولة تعترف بالحكومة الشيوعية الصينية عام 1960. وبمرور الوقت، تلاقت تصورات الطرفين، سواء فيما يتعلق بالنموذج السياسى المتبع داخليا، أو النمط المقترح للنظام العالمى. كما باتت الصين حليفا اقتصاديا حيويا لكوبا، التى صارت ثانى أكبر شريك تجارى لبكين، فيما غدت الأخيرة أكبر حامل للديون الكوبية. وضمن خطتها لكسرالاحتكار الأمريكى لاحتياطيات المعادن الاستراتيجية النفيسة حول العالم، حرصت بكين على الفوز بمقدرات كوبا من خام النيكل. كما ترنو إلى مد طريق الحرير البحرى الجديد فى أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبى، من خلال تنفيذ مشروعات لوجيستية كبرى، وشق طرق استراتيجية عبر المحيطات المفتوحة فى أمريكا الوسطى.
تعتقد الصين أن الموقع الجغرافى للجزيرة الكوبية، التى خاضت صراعا مريرا، امتد لسبعة عقود مع واشنطن، يشكل مصدر إزعاج للأخيرة، لا يقل، فى وطأته الاستراتيجية، عن ذلك الذى تمثله تايوان للصين. وبناء عليه، تتطلع بكين إلى أن يفضى تقاربها الاستراتيجى مع هافانا، إلى فتح آفاق اقتصادية وجيوسياسية أرحب أمام العملاق الآسيوى فى منطقة الكاريبى. الأمر الذى يعزز موقفه خلال المنافسة الاستراتيجية الشرسة والممتدة مع واشنطن.
ثمة فارق جوهرى بين تايوان وكوبا؛ يتمثل فى الحضور العسكرى المكثف لواشنطن فى بحر الصين الجنوبى، وارتباطها باتفاقات تعاون أمنى وعسكرى وثيق مع تايوان، والفلبين، واليابان، وجزر المحيط الهادئ. وهو أمر تفتقده بكين فى منطقة الكاريبى حتى الآن، بينما تراهن على بلوغه فى بضع سنين. خصوصا إذا ما تواصلت الجهود الصينية لتحديث القدرات العسكرية الكوبية، وتوثقت عرى التعاون بينهما على الصعد كافة. بما يتيح للصين إقامة قواعد عسكرية فى الكاريبى، وامتلاك ورقة مساومة، تخولها انتزاع تنازلات أمريكية استراتيجية فى بحر الصين الجنوبى. وبرغم تأكيد، إدارة جو بايدن، نجاح جهودها فى إبطاء المساعى الصينية، لاستعراض قوتها العسكرية، وتعزيز تموضعها الجيوسياسى عالميا، وتطوير أنشطتها الاستخباراتية فى كوبا، يظل وجود قاعدة تجسس صينية فى جزيرة تقع على بعد 150 كيلومترا قبالة سواحل فلوريدا، حال ثبوته، بمثابة تحدٍ جيواستراتيجى خطير، للولايات المتحدة.
لعل هذا ما دفع مسئولين أمريكيين حاليين، للإيحاء بتجاوز مسألة إقامة بكين منصات للتجسس الإلكترونى فى كوبا. فبينما شكك المتحدث باسم مجلس الأمن القومى، فى دقة هكذا طروحات؛ أعرب عن قلق إدارة، بايدن، البالغ إزاء أنشطة التأثيرالاستراتيجى الصينية حول العالم، لا سيما فى نصف الكرة الأرضية الغربى، وتحديدا فى أمريكا اللاتينية والكاريبى. أما وزير الخارجية، فأكد على مراقبة واشنطن التحركات الصينية الحساسة فى كل بقعة على وجه البسيطة، باستمرار، وعن كثب؛ لافتا النظر إلى حرصها على احتوائها من خلال الدبلوماسية. الأمر الذى يشى برغبة أمريكية ملحة، فى التهدئة مع بكين، وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة معها؛ بما يضمن إدارة العلاقات بشكل مسئول، ضمن مسار تنموى مستدام. علاوة على تجنب سوء التقدير والحسابات الخاطئة، اللذين يؤديان إلى تطور المنافسة المحمومة، على مختلف الجبهات، وفى شتى المجالات، إلى صدام عنيف، أو صراع مفتوح. وهو السيناريو الكارثى، الذى تفضل واشنطن إرجاءه؛ حتى تؤتى مخططاتها الرامية إلى حرمان روسيا من استعادة إمكاناتها ومكانتها كقوة عظمى مناوئة للقطبية الأحادية الأمريكية، أُكُلها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“