المفاضلة في الانتخابات الرئاسية الأميركية بالنسبة للجمهورية الإسلامية ليست بين جيد وسيء، بمعزل عن موقع كل واحد منهما، إنما بين سيء وأسوأ، وهذا ما يجعل لكل سيناريوهات يوم الحادي والعشرين من كانون الثاني/يناير المقبل المحتملة، أي يوم قسم الرئيس الأميركي الجديد اليمين الدستورية، مساراً مختلفاً عن الآخر. الرئيس الأميركي دونالد ترامب يستمر في سياسة الضغط القصوى على طهران بهدف “إقناعها”، كما يردّد دائمًا، بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولعلّ محاولات الإقناع المتكررة ولوائح العقوبات التي باتت تشمل كل القطاعات تقريبا، فشلت في تليين مراس الإدارة الإيرانية التي تتعامل مع معطى رئيسي واحد في ما يتعلق بالمفاوضات: لا داعي لاتفاق نووي جديد في ظلّ وجود اتفاق قديم.
ولأن الفجوة عميقة جداً بين طهران وترامب، فعّل الرئيس الأميركي الجمهوري كل أدواته الممكنة خلال ما مرّ من سنوات، حتى وصل إلى ما بات يصطلح على تسميته بـ “حافة جهنم” عبر اغتيال قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في الغارة الجوية أوائل العام ٢٠٢٠ في بغداد. كان الهدف الأميركي حينها لجم طهران وجرها إلى طاولة المفاوضات، كما يقول ترامب، لكن الواقع اليوم هو أن شيئًاً لم يتغيّر في سياسات طهران وشعاراتها، مع الأخذ بعين الاعتبار محدودية قدرة المناورة لديها. صحيح أن إيران ردت على الخروج الأميركي من الاتفاق النووي ولاحقا اغتيال سليماني بتفريغ الاتفاق من مضمونه عبر تبني مجموعة خطوات حاسمة في برنامجها النووي، إلا أنها حرصت على الحفاظ على هيكل الاتفاق وبعض الروح فيه، لأنها أدركت منذ اللحظة الأولى أن الهدف الرئيس لترامب كان دفعها للخروج منه ليسهل عليه الضغط عليها من خلال المؤسسات الدولية، وهو ما لم ينجح به، وهو ما يمكن اعتباره نقطة لصالح طهران. قد يكون العنوان العام هو الملف النووي، لكنه ليس سوى المدخل إلى جوهر الاصطدام الأميركي الإيراني العابر للإدارات في واشنطن: الدور الإيراني الإقليمي.
كماشة ترامب
في العدسة الإيرانية، سيعني فوز ترامب المزيد من العقوبات، ولكنه سيحمل أيضا المزيد من الشروخ بين واشنطن وشركائها الغربيين، والقوى الأخرى المشاركة في الاتفاق النووي، أي روسيا والصين. الأشهر الماضية وإن حملت لإيران مزيداً من الضغط الأميركي، إلا أنها سجلت تقدماً بالنقاط لمصلحة طهران على واشنطن، وذلك في حادثتين مرتبطتين في مجلس الأمن الدولي، حيث فشلت أميركا في تمديد العقوبات على تصدير واستيراد السلاح لإيران، باستثناء الباليستي منه، وكذلك فشلت في إعادة فرض العقوبات من خلال فقرة السناب باك، أو إعادة الفرض الفورية للعقوبات المنصوص عليها في الاتفاق النووي. الخطوة الأخيرة تحديدا كانت بمثابة رصاصة أطلقها ترامب على قدم واشنطن، في يوم ٨ أيار/مايو ٢٠١٨ عندما أعلن خروج بلاده من خطة العمل الشاملة المشتركة، أو ما يعرف باتفاق فيينا النووي. ولعل تغريدة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يوم 26 تشرين الأول/أكتوبر أفضل شرح لنظرة إيران لسياسة العقوبات وما بعدها إذ قال: “المزيد من الحرب الاقتصادية على إيران، سيضعف من تأثير الولايات المتحدة ولن يقويها” https://twitter.com/jzarif/status/1320779080824967169?s=21
قد يكون العنوان العام هو الملف النووي، لكنه ليس سوى المدخل إلى جوهر الاصطدام الأميركي الإيراني العابر للإدارات في واشنطن: الدور الإيراني الإقليمي
فوز ترامب سيعني مرحلة أكثر قسوة بالنسبة لطهران إقليميًا ودوليًا. وإذا أخذنا في الاعتبار اتفاقيات السلام التي يجري الإعلان عنها تباعًا بين إسرائيل ودول عربية، كما حدث حتى الآن مع الإمارات والبحرين والسودان، فإن التوتر سيتطور على نحو غير تقليدي، وقد تمتد رقعته جغرافيًّا إلى نقاط لم تكن سابقا ضمن حسابات الاشتباك الميداني المباشر. الأمر الآخر هو أن الضغط الكبير لإدارة ترامب قد يمتد على نحو جديٍّ إلى أصدقاء مشتركين بين طهران وواشنطن، ليضعهم أمام خيارات صعبة على طريقة “معنا أو ضدنا”، التي أطلقها الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن عندما أعلن عزم أميركا إطلاق “حربها على الإرهاب” انطلاقا من أفغانستان عام ٢٠٠١. لعلّ العقوبات التي فُرضت أخيرًاعلى السفير الإيراني في العراق، والضغط الموازي على بغداد لتحديد علاقاتها مع إيران، مقدمةً لهذا الخيار الذي قد يعزّزه ترامب ضمن مواجهته المفتوحة مع إيران.https://twitter.com/secpompeo/status/1319394782582591490?s=21
المؤشرات الظاهرية، بمعظمها، تأخذنا نحو ولاية رئاسية أميركية مقبلة ستكون صعبة على إيران، وفِي الوقت نفسه يمكن لطهران التعويل عليها، لتثبيت حالة الانفصال الأميركية عن اتجاه السياسة الخارجية الأوروبية والصينية والروسية في ما يتعلق بالملف الإيراني من جهة، وفِي العديد من الملفات الدولية التي أخذت فيها إدارة ترامب اتجاهات متمردة على الاجماع الدولي من جهة ثانية.
سكاكر بايدن
في مقابل كماشة ترامب التي باتت أذرع طهران معتادة على ضغطها، تتعامل القيادة العليا في إيران مع امكانية انتخاب المرشح الديموقراطي جو بايدن بالتوجّس نفسه الذي واجهت فيه إدارة الرئيس السابق باراك اوباما، حتى في ذروة الايجابية التي حكمت العلاقة بين البلدين بعد توقيع الاتفاق النووي.
لأن الحكومات تورث بعضها الصالح والطالح، فإن إدارة بايدن ستكون قادرة على استغلال ما أسّس له ترامب لدفع سياستها بقوة إلى الأمام، تماماً كما استفادت ادارة روحاني من تصعيد سلفه نجاد في الملف النووي للتفاوض على ثمن أعلى للاتفاق
فإذا كانت أدوات ترامب ظاهرة للعيان، فإن الجمهورية الإسلامية تتحسب لسكاكر بايدن التي تستهدف أسنانها بما يصعب مقاومته. بالتالي سيكون التحدي هنا داخليا أكثر منه خارجيا، لأن تهدئة الضغوطات الأميركية والعودة إلى الاتفاق النووي، في حال كان الأمر سهلاً وهو ما لا يتوقعه كثر، سيعني تقديم واشنطن للإيرانيين نموذجاً مختلفاً عن الذي اعتادوه، ووضع الخيارات أمام الشارع لاختبار التحفيزات الأميركية، ومقارنتها مع نتيجة السياسات الخارجية الإيرانية، ثم ترك الخيار لهم، ما سيضع القيادة الإيرانية بشكل مفتوح بين ضغط الداخل وبين الخيارات الصعبة في الخارج. ولأن الحكومات تورث بعضها الصالح والطالح، فإن إدارة بايدن ستكون قادرة على استغلال ما أسّس له ترامب لدفع سياستها بقوة إلى الأمام، تماماً كما استفادت ادارة الرئيس الإيراني حسن روحاني خلال سنوات حكمه الأولى، من تصعيد سلفه محمود أحمدي نجاد في الملف النووي للتفاوض على ثمن أعلى للاتفاق.
لكن مهمة بايدن لن تكون سهلة في ظل إرث الأزمات الذي سيتركه له ترامب داخليا وخارجيا. الرئيس الأميركي سيحتاج للسير بسياساته الانطلاق بمسار قد يتطلب أشهرا إن لم يكن أكثر لبناء الثقة مع الآخرين ولاتخاذ قرار حول العودة إلى الاتفاق النووي وآليات هكذا عودة بما في ذلك الشق المتعلق بالعقوبات، إلى جانب أن ظروف ٢٠١٥ باتت مختلفة بالكامل عن ظروف ٢٠٢١ وهو ما يرجح فرضية طرح تفاوض جديد على نقاط معينة قبل العودة إلى الاتفاق.
إنتخابات أميركا في طهران
آخذة في الاعتبار كلّ ما سلف، ترتب طهران أوراقها لملاقاة الرئيس الاميركي العتيد، مدركةً أن عليها بعد أشهر قليلة اختيار رئيس جديد لها. فهي سبق واختارت في بداية العام ٢٠٢٠ مجلس الشورى الذي غلبت عليه الصبغة الاصولية، وفِي ظل الانكفاء الإصلاحي الكبير، لا يبدو أن رئيس الجمهورية الجديد سيكون من خارج المعسكر الذي يثق به القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي. لا يعني ذلك بالضرورة أن المرشح المقبل الذي سيخوض الانتخابات سيكون من معسكر الأصوليين، فقد يترشح من الأصوليين شخصيات عدة، وقد يفوز مستقل تكنوقراطي لديه القدرة على الموازنة بين الخط الثوري وإدارة الدولة، وهذا ما قد يكون أكثر ترجيحاً في حال فوز بايدن بالرئاسة.
ليس متوقعًا أن تكون أيام طهران وواشنطن أفضل استراتيجياً، أيًّا كان الرئيس الأميركي المقبل. وكما أن إدارة ترامب تركت ندوباً على الصورة العامة للسياسة الخارجية الأميركية، فاستراتيجية الضغط القصوى حدّت إلى مستوى كبير من قدرة إيران على المناورة،
ما سبق ليس للقول إن الانتخابات الأميركية ستقرر من سيتولى الرئاسة في إيران، إذ أن عوامل أخرى عديدة ستؤثر في الأمر، لكن حاكم البيت الأبيض الجديد أو المجدّد له، سيكون عاملاً مرجحاً لجمهور إيراني منقسم عامودياً، وفي الوقت نفسه، يغلب عليه التسييس عندما تبرز إلى السطح قضايا مرتبطة بمواجهات أو تسويات تخصّ موقع بلادهم على خريطة العلاقات الدولية.
غالبًا، ليس متوقعًا أن تكون أيام طهران وواشنطن أفضل استراتيجياً، أيًّا كان الرئيس الأميركي المقبل. وكما أن إدارة ترامب تركت ندوباً على الصورة العامة للسياسة الخارجية الأميركية، فاستراتيجية الضغط القصوى حدّت إلى مستوى كبير من قدرة إيران على المناورة، فأضحت محكومة بقواعد اشتباك مختلفة عن السابق كما خسرت في مواضع كلبنان والعراق حرية الحركة سياسياً، ما جعلها اكثر انفتاحاً على تسويات صغيرة، في انتظار تحولات كبرى قد تأتي وقد لا تأتي. ما يعيق طهران أكثر ليست واشنطن، بقدر غياب الرؤية السياسية الإقليمية لمشروعها الذي حمل منذ البداية لواء المواجهة والممانعة. لكن حتى في المواجهة والممانعة، ومع انطلاق قطار التطبيع ومروره بجغرافيا كانت سابقاً جزءاً من طريق المواجهة، كما السودان، يبدو المحور الذي تقوده طهران في حالة تكبيل، لن تغيرها نتائج الانتخابات الأميركية ولا الإيرانية حتى، إنما إعادة نظر في ادوات المواجهة، كي لا ينتهي المطاف بالمحور الذي تقوده طهران، مقاومة بالبيانات وفي المكان والزمان غير المناسبين.
(*) ينشر بالتزمن مع “جاده إيران“