“الطبّاخ” بريغوجين.. هل أعد وجبة مسمومة لبوتين؟   

التمرد المسلح لقائد مجموعة "فاغنر" العسكرية الروسية الخاصة يفغيني بريغوجين، يُعيد خلط أوراق الحرب الروسية-الأوكرانية، كما أوراق الداخل الروسي، ويضع الجيش الروسي في حالة إرباك وصدمة، كما أنه يُضَيّق خيارات الرئيس فلاديمير بوتين، الذي بات يتعين عليه الآن مواجهة تمرد داخلي غير مسبوق منذ أكثر من ثلاثة عقود، بينما يضغط الجيش الأوكراني بهجومه المضاد على الجبهات المشتعلة.    

تاريخياً، لطالما شهدت روسيا خلال الحروب التي خاضتها تمردات وإحتجاجات وإضرابات وحركات فوضوية داخلية. القيصر الروسي ألكسندر الثاني إغتيل عام 1881 على يد أحد الناقمين عليه. حدثت اضطرابات إبان الحرب الروسية-اليابانية في العامين 1904 و1905. وكذلك خلال الحرب العالمية الأولى، عندما قاد الجنرال لافار كورنيلوف محاولة إنقلابية فاشلة في عهد حكومة ألكسندر كيريسنكي المؤقتة عام 1917، بذريعة أن الأخير “سجينٌ لدى البلاشفة”!

وفي آب/أغسطس 1991، حاول شيوعيون محافظون بقيادة نائب الرئيس غينادي يانييف تنفيذ إنقلاب ضد رئيسهم ميخائيل غورباتشوف، الذي كان يمضي إجازة في شبه جزيرة القرم، وقاموا باحتجازه هناك، معلنين أنه لم يعد قادراً على ممارسة صلاحياته لأسباب صحية. لكن نزول الرئيس الروسي بوريس يلتسين إلى الشارع في العاصمة موسكو على رأس تظاهرة شارك فيها الآلاف من أنصاره أمام البرلمان، أجهض تلك المحاولة التي كانت مدعومة من جهاز الإستخبارات الخارجية “كي جي بي”. تلك المحاولة الإنقلابية كانت آخر محاولة لوقف تفكك الإتحاد السوفياتي، ومهّدت لإعلان أصدرته جمهوريات روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا في 8 كانون الأول/ديسمبر عام 1991، بأن الإتحاد السوفياتي “لم يعد موجوداً”. وإستقال غورباتشوف في 25 كانون الأول/ديسمبر من رئاسة الإتحاد السوفياتي.

تبين أن مناورة بوتين لم تكن في محلها وإدارة التنافس بين الجيش وقادته من جهة ومجموعة “فاغنر” من جهة أخرى، إنتهت على غير ما يشتهي الرئيس الروسي.. وها هي اليوم تشكل تحدياً غير مسبوق لسلطات بوتين، وعلى نتائجها ستتشكل معالم الجبهة في أوكرانيا

بريغوجين، إبن الثانية والستين من العمر، يُطلق عليه لقب “طبّاخ بوتين”. هو سجين سابق في سان بطرسبرج. صعد من لا شيء ليكون صاحب سلسلة مطاعم تؤمن وجبات الطعام للكرملين، وليعلن، غداة ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، في العام 2014، وبمباركة من بوتين نفسه تشكيل مجموعة “فاغنر” الروسية شبه العسكرية، لتتولى أولى مهامها الخارجية في سوريا، بعد التدخل العسكري الروسي هناك في وقت سابق من العام 2015.

وباتت “فاغنر” هي التي تؤمن مصالح روسيا في عدد من الدول حيث لا يريد الكرملين التورط عسكرياً في شكل مباشر، مثل ليبيا ومالي وبوركينا فاسو وأجزاء من السودان وأفريقيا الوسطى، إلى أن نشبت الحرب في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022، فإستعين بمقاتلي المجموعة المدربين على حروب الشوارع، لإقتحام بلدات ومدن في شرق أوكرانيا عصيت على الجيش الروسي، وأبرزها باخموت التي إستمر القتال فيها عشرة أشهر، إلى أن سقطت في أيار/مايو الماضي.

وفي ذروة المعارك في باخموت، نشب قتال من نوع آخر بين بريغوجين والمؤسسة العسكرية الروسية. وقد كال قائد “فاغنر” في فيديوات مسجلة من على خط الجبهة، الشتائم والسباب بحق وزير الدفاع الجنرال سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال فاليري غيراسيموف، متهماً إياهما بـ”الخيانة” و”الخداع”، كما بأقذع الأوصاف، لأنهما، بحسب زعمه، أحجما في الأسابيع الأخيرة من القتال عن تزويد مقاتليه بالذخائر، مما زاد من حجم الخسائر في صفوفهم. وهدّد بريغوجين مراراً بالإنسحاب وترك الخطوط الأمامية للجبهة، تحت طائلة عودة الجيش الأوكراني إليها، إذا لم تلبَ طلباته، وفي مقدمها إقالة شويغو وغيراسيموف. هل كان الرجل يطمح للحلول محلهما؟ على الأرجح أنه كذلك.

الملاحظ هنا، أن فلاديمير بوتين، الساعي بأي ثمن إلى نصر ميداني في باخموت يُعيد بعض المعنويات للجيش الروسي عقب إنتكاسات الصيف والخريف الماضيين، لم يتخذ موقفاً حاسماً من الخلاف بين بريغوجين من جهة وكل من شويغو وغيراسيموف من جهة أخرى. وتردد وقتذاك أن بوتين يمشي على خطى ستالين عندما كان يلعب على التنافس بين وزير دفاعه المارشال غيورغي جوكوف وقائد الجيش السوفياتي المارشال إيفان كونيف في الحرب العالمية الثانية، كي يُضعف الإثنين ويبقى مسيطراً على القيادة العسكرية.

في هذا السياق، تبين أن مناورة بوتين لم تكن في محلها وإدارة التنافس بين الجيش وقادته من جهة ومجموعة “فاغنر” من جهة أخرى، إنتهت على غير ما يشتهي الرئيس الروسي.. وها هي اليوم تشكل تحدياً غير مسبوق لسلطات بوتين، وعلى نتائجها ستتشكل معالم الجبهة في أوكرانيا.

والأمر الجدير ذكره أن قائد “فاغنر” الذي أعلن سيطرته على مدينتي روستوف وفورنيج الحدوديتين مع أوكرانيا، أسقط كل المحرمات حيال بوتين، عندما إتهمه فجر اليوم (السبت)، بأنه خاض الحرب الأوكرانية بناء على “أكاذيب” وبأن أوكرانيا لم تكن تشكل تهديداً أمنياً لروسيا، وهدّد أيضاً بالمسير إلى موسكو، ودعا الروس إلى النزول إلى الشوارع.

هل تواجه روسيا وضعاً مشابها لما يواجهه السودان منذ 15 نيسان/أبريل، عندما إندلعت الحرب بين الجيش السوداني النظامي بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع شبه العسكرية بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي”؟

إقرأ على موقع 180  زعيم "داعش" الجديد.. أبو المثنى الجنوبي أم أبو خديجة العراقي؟

قوات الدعم السريع بقيادة “حميدتي” خرجت من رحم ميليشيات الجنجويد التي ساندت الجيش السوداني في القتال ضد القبائل غير العربية في دارفور في العقد الأول من القرن الحالي. بعد حوالي العقدين من الزمن، لم يعد حميدتي (يقود ما بين 70 إلى 100 ألف مقاتل) يرى نفسه أقل مكانة من البرهان ولم يعد يرضى بأن يكون الرجل الثاني، فإنفجرت الحرب وصارت قواته تقاتل في قلب العاصمة السودانية!

إن الإنفجار الآن داخل البيت الروسي، فهل إتخذت المؤسسة العسكرية قرار الحسم ضد “فاغنر”، وتحديداً ضد رئيسها يفغيني بريغوجين؟ وهل يتسنى لفلاديمير بوتين أن يُحقّق ذلك بسهولة أم أنه يُؤسس بذلك لحرب أهلية تُعيد مشهداً قاسياً من مشاهد الحرب العالمية الأولى؟

المشهد السوداني يتكرر بصورة أخطر في روسيا اليوم. ميليشيات منبثقة من سجناء محكومين بعقوبات قاسية، قُيّض لهم أن يشتروا حريتهم وتنظيف سجلهم الإجرامي، من خلال خوض القتال على جبهات هي الأكثر سخونة. التقارير الغربية تتحدث عن فقدان ميليشيات “فاغنر” ما يصل إلى 30 ألف قتيل في باخموت وحدها، في حين كانت التقديرات عن العدد الإجمالي لعناصر المجموعة يتراوح ما بين 50 ألفاً و70 ألفاً. وتحوز الميليشيات على مقدرات مالية هائلة لقاء خدماتها في إفريقيا. ويقال إنها شريكة لقوات الدعم السريع في مناجم الذهب في جبل عامر مصدر القوة الرئيسي لـ”حميدتي”.

ويواجه بوتين من خلال “إنتفاضة بريغوجين” أقسى إختبار له منذ وصوله إلى الكرملين، فالنيران وصلت إلى أطراف الثوب الروسي. والسؤال هنا: كيف سيخمد بوتين هذه النيران.. وبأي ثمن؟

العين على الجبهات في أوكرانيا من زابوريجيا إلى خيرسون ودونيتسك ولوغانسك.. وصولاً إلى القرم.. وهذا الأمر يطرح سؤال التوقيت في ضوء الإنجازات التي حقّقها الجيش الروسي على طول الجبهة الأوكرانية في الأشهر الأخيرة.

إن الإنفجار الآن داخل البيت الروسي، فهل إتخذت المؤسسة العسكرية قرار الحسم ضد “فاغنر”، وتحديداً ضد رئيسها يفغيني بريغوجين؟ وهل يتسنى لفلاديمير بوتين أن يُحقّق ذلك بسهولة أم أنه يُؤسس بذلك لحرب أهلية تُعيد مشهداً قاسياً من مشاهد الحرب العالمية الأولى؟

في العام 1991، سرّعت المحاولة الإنقلابية التي قادها يانييف ضد غورباتشوف في إنهيار الإتحاد السوفياتي. في صيف العام 2023، هل أعد “الطبّاخ” بريغوجين “طبخة مسمومة” لبوتين وإلى أين ستفضي محاولة التمرد التي يقودها؟

يثبت اليوم أكثر من أي يوم مضى أن الرهان على المؤسسة العسكرية الأم وعلى ميليشيات داعمة لها، ليس مأمون العواقب وقد ينقلب هذا الرهان ضد صاحبه. “فاغنر” اليوم هي فرنكشتاين الذي صنعه بوتين نفسه.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  معنى أن تعود المقاومة إلى.. الجذور