عملية “جسر الكرامة”.. معبر إلى جبهة جديدة؟

خلال جلسة تنظير سياسي قبل أيام من عملية جسر الكرامة الاردنية، مالَ النقاش بشأن الضفة الغربية صوب الضفة الشرقية مستشرفاً أمراً ما، يراهَنُ به وعليه، كحدثٍ اردني يُترجَم دعماً لغزة، قبل ان يتعشاه الوحش الاسرائيلي الفلتان في المنطقة، الفاغرُ فاه عليها وخصوصاً المملكة المحاذية منذ نشوئه قبل 75 عاماً ونيف. 

مبعث الحوار ارتكز إلى معطيين إثنين:

الأول، منطلقه رهان على حراك شعبي أردني يتحول انفجاراً للشارع المتظاهر تضامناً مع غزة، أو عمليات تعبر الضفة الشرقية إلى جبهةٍ تلاقي سائر أخواتها من الجبهات، فرديةً كانت أم منظمة، وهو ما قد يُرى إيغالاً في مبالغة أقرب الى الأمنيات، لكن ذلك لا يلغي كون عملية “جسر الكرامة” إنذاراً مبكراً على الأقل بجبهةٍ سادسة، باحتساب جبهات (غزة، الضفة، لبنان، العراق، اليمن) وإن أخذت وقتها للنضوج والتموضع في المواجهة المصيرية الدائرة على شفا حفرة منها.

المعطى الثاني ما أثاره الغزو الصهيوني المفاجئ لشمالي الضفة الغربية، من خوفٍ على جنوبها، يُحيلها إلى “ترانسفير” إسرائيلي جديد والعين على الأردن لترحيل فلسطينيي الضفة عن مساحتها الأقل من 6 آلاف كلم وإلحاق أهلها الثلاثة ملايين لتوطينهم مع ثلاثة ملايين آخرين ممن سبقوهم منذ نكبة 48 إلى المساحة الأردنية الـ 89342 كلم بما يُحوّلهم إلى مجرد أعداد مضافة ويزيل ضفتهم نهائياً عن خارطة نتنياهو كما فعل في خطابه الأخير.

لكن صباح الأحد 8 أيلول/سبتمبر، أعاد ترسيم خارطة جديدة على ثلاثة محاور:

المحور الأول، أردني بحت، فالعملية نفذها أردني الهوية، مترجماً إلى فعل استشهادي، الهوية الحقيقية للشعب الأردني، مستحضراً نبض الشارع في شهادة رُسِمت بالدم إحدى صور احتقانه وغليانه شبه اليومي منذ أحد عشر شهراً ونيف. حاجزاً لنفسه مكاناً على جبهات النار والإسناد، مُسجلاً بذلك حضوره ولو للتاريخ.

المحور الثاني، أردني، أيضاً يتأتى من كون العملية اثباتاً دامغاً بأن التطبيع لا يحمي الاحتلال ولا يقتل روح المقاومة بمرور الزمن مهما طال ولو بعد حين، تماماً كما هو لا يحمي المطبِّعين، وبهذا تمسي معاهدة “وادي عربة” الموقعة بين العدو والنظام الأردني في 26 تشرين الأول/أكتوبر عام 1994 في أودية النسيان الشعبي الذي لم يسقط خيار المقاومة من ذاكرته وفكره ولو بعد ثلاثين عاماً، فبقيت وادياً بين ضفتين: نظام قابع على ضفة السلام المؤقت، وشعب يفوق أحد عشر مليوناً يقيم على ضفة صفيح ساخن يغلي من تحته ويغلي هو مع كل استحقاق داخلي أو خارجي يُهدّد بالإنفجار.

من هنا كان حقاً على الأردنيين أن يبرز منهم “ماهر” في تنفيذ العمليات الفردية في عملية هي الأولى من نوعها منذ خمسة وعشرين عاماً قد تعيد تباعاً كسر الصمت المقيم على الجبهة الشرقية التي تمتد بحدود أكثر من 300 كلم. فهل تشكل العملية رافعة نحو عمليات مماثلة تشكل معبراً تدريجياً يؤسس لتفعيل معبر إسناد آخر يُضيّق الخناق على الكيان بانتظار اكتمال إحكام الطوق من الحدود المصرية؟ أم هي حدث عبَرَ الجسر ومضى؟ أم أنه فعل مقاومة شعبية يراكم بالنقاط؟

الجواب يبقى جمراً تحت الرماد في حالة كمون حتى إشعار عملياتي آخر، إذا لم تكن العملية فردية، وكان وراء الأكمة ما وراءها لتخفيف الضغط عن الضفة الغربية وغزة، حتى وإن سارعت الحكومة الأردنية إلى التبرؤ منها واعلان أنها “تصرف فردي”.

على ضفاف المحور الثالث وهو الصهيوني، ترسو الخارطة على خطوط بيّنة، أولها طعنة في خاصرته الشرقية حيث السلام المفترض، بما يعنيه ذلك من فشل منظومة الأمن الصهيوني الجمعي واختراقها المميت بفردٍ واحد يأخذ قسطه من الوقت، بالرغم من كل الإجراءات وأجهزة المراقبة والحمايات، في محاكاةٍ واضحة بانت صورةً طبق الأصل لعملية الخليل قبل أسبوع فقط منها؛ الخليل التي يعتبرها الاحتلال “نواة دينية مثيرة للقلق تدعم حماس” فكيف اذا أحصى 4973 عملية في الضفة الغربية قُتل فيها 38 عسكرياً إسرائيلياً منذ “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي بالرغم من زرعها بـ 700 حاجز عسكري وأمني؟

الفشل الاسرائيلي الذريع تحوّل إلى صدمة جعلت العملية ضربة على الرأس كونها أصابت العدو في مقتل من حيث لم يحتسب ولم يتوقع لا في التوقيت الذي كان مثالياً بامتياز، ولا في المكان الأمثل بجدارة، وبهذا تحقق عنصر المفاجأة لتُحقّق العملية نتيجتها بنجاح وفي مسدس ليس أكثر، اخترق برصاصاته المخطط الإسرائيلي اللاعب بالديموغرافيا الفلسطينية لتفريغ الضفة الغربية في جغرافيا أردنية لن تضيق بـ”الضفيين” مع سكانه الأصليين الـ 12 مليوناً، فكيف إذا كان العدو يعتبر الأردن في ضفته الشرقية معبراً للسلاح إلى الضفة الغربية؟

الجواب كان في تقاسم نتنياهو مع قائد المنطقة الوسطى توظيف العملية والاستثمار فيها، الأول، توظيف سياسي للملمة الشتات الداخلي وشد العصب المتشظي حوله من خلال اعتباره أن كيانه محاطاً “بإيديولوجيات قاتلة” (على أساس أن ايديولوجيته الصهيونية عملية ترفيهية للمنطقة ولشعوبها) والثاني، توظيف ميداني داعٍ “لاستغلال العملية ميدانياً واجتياح غور الأردن”، وهو المكنون الإسرائيلي التاريخي الذي تنضح به الأيديولوجيا الصهيونية عند كل فرصة تنتظر اللحظة الإقليمية والدولية المؤاتية لإسقاط النظام الأردني، إما بعدوان مباشر وإما بحرب أهلية وقودها فتنة بين النظام نفسه والعشائر والفلسطينيين والسكان الأصليين.

إقرأ على موقع 180  جولة الترسيم الثالثة… لبنان يتسلح بالقانون الدولي

وبالمناسبة، فإن مُنفّذ العملية (ماهر ذياب حسين الجازي) هو من بلدة أذرح في معان، وهي البلدة التي وقّع النبي محمد فيها معاهدة مع أهلها في غزوة تبوك، فهل تحميهم معاهدة وادي عربة الهشة أمام التوحش الاسرائيلي الساعي لدولة يهودية خالية من كل ما هو فلسطيني؟

وحدهم الفلسطينيون، في الضفة كما في غزة، وفي أراضي 48 كما في الأردن، وفي كل مكان يجيبون ومع الشاعر اللبناني الراحل خليل حاوي:

يعبرون الجسر في الصبح خفافاً

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدْ

من كهوف الشرق.. من مستنقع الشرق

إلى الشرقٍ الجديدْ

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدْ” .

 

Print Friendly, PDF & Email
غالب سرحان

كاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  كيف تُعيدُ غزّة تشكيل الوعي العربي العام؟