ليس كسلاً فكرياً الذهاب في قراءة هذه التطورات على أنها تستهدف روسيا في الأساس والتصويب على دورها في مناطق تعتبر حيوية لمصالحها، سياسياً وأمنياً. بل إن الربط بعقل بارد بين مسار الأحداث يوصل إلى هذه النتيجة.
يحكم ألكسندر لوكاشنكو بيلاروسيا بقبضة ستالينية منذ 26 عاماً، وكان الغرب يشيح بوجهه عن كل ارتكاباته. لماذا قرر الآن تصفية الحساب معه؟ هي ليست الانتخابات الأولى التي يزورها لوكاشنكو، ومنافسته في الانتخابات الأخيرة سفيتلانا تيخانوفسكايا، التي تستقبل في الدول الأوروبية اليوم على أساس أنها الفائزة الشرعية في الانتخابات، هي رافعة سياسية لإحداث التغيير في بيلاروسيا، وتالياً الضغط أكثر، على روسيا.
فجأة، استفاق الرئيس الأذري إلهام علييف صباح السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر وقرر استعادة إقليم ناغورنو-قره باغ من الأرمن. من السذاجة الاقتناع بأن الحروب تبدأ بهذه السهولة، وليس على خلفيات أكبر وأخطر أو بعيدة عن لعبة الأمم. خُذْ مثلاً كيف استخدم علييف في هجومه طائرات “هاربي” من دون طيار الإسرائيلية و”بيرقدار” التركية. كيف التقت تركيا وإسرائيل على التعاون ضد أرمينيا والاختلاف في كل مكان آخر؟ أليس ذلك مدعاة للتساؤل في هذا التوقيت.
لا أحد ينكر حق أذربيجان في استعادة أراضيها. وإنما من حق الآخرين أن يسألوا عن هذا الحماس التركي وعن بيانات رفع العتب الصادرة عن وزارة الخارجية الأميركية والداعية إلى وقف النار، على استحياء. وفي ذروة اشتعال القوقاز، كان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو يجول على البلقان، لاقناع اليونان بتبريد جبهة شرق المتوسط. وهل هذا أيضاً محض صدفة؟
نترك علامات الاستفهام حول القوقاز، لنحاول تلمس ما يجري في قرغيزيا التي تجاور روسيا والصين. ويجب التوقف عند المعطى الجغرافي لدى البحث في أسباب إنفجار الأزمات وتحولها إلى فوضى عارمة. لم تكد تنتهي الانتخابات البرلمانية، حتى نشب الصراع في الشارع بين القوى القرغيزية المتنافسة. وبدا الرئيس سورنباي جينبيكوف صديق فلاديمير بوتين، في وضع ميؤوس منه وغير قادر على الإمساك بزمام الحكم أمام غليان الشارع. ويجب التوقف عند مسارعة المتظاهرين إلى إطلاق خصمه الرئيس السابق ألمازبيك اتامابييف من السجن! وقيرغيزيا شأنها شأن أرمينيا تستضيف قاعدة عسكرية روسية.
هل يريد الغرب تثبيت نظرية أن روسيا لم تعد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سوى محطة وقود مجهزة بأسلحة نووية، وأن لا قدرة لها على استعادة دور الدولة العظمى، على رغم محاولتها في السنوات الأخيرة، الاضطلاع بأدوار إقليمية ودولية كبيرة؟
وإذا استكملنا دائرة الإشغال لروسيا، تطفو قضية نافالني بشكل ناتيء على سطح العلاقات الأوروبية – الروسية. يتعامل الأوروبيون بلغة الانذارات والمُهل مع موسكو. خطاب لافت للنظر، جديد، وعالي النبرة للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي كانت من أشد المدافعين عن الحفاظ على التواصل والحوار مع الكرملين، في ذروة التصعيد الأميركي ضد روسيا. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تخلى أيضاً عن آرائه المدافعة عن ضرورة التعاون مع روسيا في حل المشاكل الدولية، وتبنى مواقف تصعيدية في قضية نافالني، والتقى في ليتوانيا سفيتلانا تيخانوفسكايا. ولم يعد ثمة ما يقال بالنسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.
هذا يقود إلى التساؤل عن أي روسيا التي يريدها الغرب. هل يريد تثبيت نظرية أن روسيا لم تعد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سوى محطة وقود مجهزة بأسلحة نووية، وأن لا قدرة لها على استعادة دور الدولة العظمى، على رغم محاولتها في السنوات الأخيرة، الاضطلاع بأدوار إقليمية ودولية كبيرة، منذ ضم شبه جزيرة القرم ودعم انفصاليي شرق أوكرانيا والتدخل العسكري إلى جانب النظام في سوريا وأخيراً في ليبيا.
ولا حاجة إلى التذكير، بأن العقوبات الأميركية والأوروبية، بسبب هذه الأدوار، قد أضعفت الاقتصاد الروسي، وكذلك تراجع أسعار النفط وصولاً إلى جائحة كورونا.
لكن هل قاد ذلك إلى ارتخاء قبضة بوتين على الحكم، وتالياً على ممارسة نفوذ إقليمي يحفظ المصالح الروسية على الأقل في بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة، وفي الشرق الأوسط غير البعيد عن الحدود الروسية؟
في الفترة التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي، تنازل بوريس يلتسين عن الكثير من المصالح الروسية في العالم، وكان مطيعاً لأميركا وأوروبا، ربما عن عجز أو عن عدم رغبة في تحدي الغرب، الذي كان لا يزال يعيش نشوة انتصاره في الحرب الباردة.
هذا المسار الانحداري تغير مع استلام بوتين الحكم وسعيه إلى وضع روسيا مجدداً في المكانة التي تستحقها بين الأمم. لكن المهمة شاقة في الوقت الذي تسعى أميركا وأوروبا إلى إبقاء روسيا على الشاكلة التي كانت عليها أيام يلتسين، أو تستمر الحملة عليها.
يفترض أن مرحلة يلتسين قد ولت إلى غير رجعة. فما الذي يحصل الآن على أعتاب روسيا؟
إن الاحتضان الغربي لنافالني، يؤشر إلى حنين إلى الحقبة اليلتسينية. وهذا ما يضع بوتين أمام خيارين: إما يكون يلتسين أو ستالين!