روسيا وإيران تتحصنان بـ”علاقات إستراتيجية” غير مسبوقة!

حظيت الأحداث التي شهدتها روسيا علی خلفية تمرد قائد مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين باهتمام لافت للإنتباه في إيران ليس على المستوى السياسي والإعلامي الرسمي، وإنما على صعيد شريحة أكبر بينها العديد من الخبراء والمحللين المستقلين نظراً لطبيعة العلاقة التي تربط طهران بموسكو خصوصاً بعد الأزمة الأوكرانية.

موقف طهران الرسمي جاء طبيعياً وعبّر عنه المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني بقوله إن ما حدث “مسألة داخلية”، مؤكداً علی الموقف الإيراني الذي “يدعم سيادة القانون في الإتحاد الروسي”؛ في الوقت الذي أعرب وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان لنظيره الروسي سيرغي لافروف عن ثقته في مرونة روسيا “لتجاوز هذه المرحلة الصعبة”؛ فيما نقل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للرئيس فلاديمير بوتين دعم إيران الكامل للإجراءات التي اتخذتها الحكومة الروسية.

في المواقف شبه الرسمية، اعتبرت تغريدة نشرها موقع “نور نيوز” المقرب من مجلس الأمن القومي الإيراني الحدث “مؤامرة غربية جديدة” تهدف إلى زعزعة استقرار روسيا وتقويض جهودها الحربية في أوكرانيا؛ في حين رأت وكالة أنباء “تسنيم” المقرّبة من الحرس الثوري تمرد قائد “فاغنر” أنه يُمثل “عملية استخباراتية وأمنية استراتيجية” تم تصميمها من قبل “الناتو” للانتقام من “الهجوم المضاد الفاشل” لأوكرانيا عن طريق تحويل ساحة المعركة إلى الأراضي الروسية”؛ فيما وجهت وكالة أنباء “فارس” القريبة هي الأخری من الحرس الثوري أصابع الاتهام إلى وسائل الإعلام الإيرانية الإصلاحية، متّهمةً إياها بأنها “قسم رعاية مصالح فاغنر في إيران” بسبب تغطيتها الشاملة لأحداث روسيا الأخيرة. وشاركت صحيفة “كيهان” الأصولية المتشددة موقفاً مماثلاً، عندما هاجمت الإصلاحيين قائلة “لقد سلّطت حادثة “فاغنر” الضوء على الطبيعة الحقيقية لمن يدّعون أنهم إصلاحيون، والتيارات ذات التوجه الغربي، ومرة أخرى سلّطت الضوء على جهلهم بالعلاقات الدولية واعتمادهم القوي على الغرب”.

يعتقد النظام السياسي الحاكم في إيران أن العلاقة مع روسيا وتعزيزها في المجالات المحتلفة ولا سيما العسكرية هو البديل المتاح والأفضل لإيران في الوقت الذي تماطل فيه الولايات المتحدة والدول الغربية في العودة إلى الإتفاق النووي

على صعيد النخب الإيرانية، رأی الناشط السياسي الإصلاحي البارز أحمد زيد أبادي، أنّ اعتماد بوتين على المرتزقة “ولّد مشكلة في روسيا”، معرباً عن إعتقاده أن الحدث سيُضعف “على الأرجح” موقع الجيش الروسي في أوكرانيا، مما قد يؤدي إلى الإنسحاب من بعض المناطق المحتلة. كما أشار زيد أبادي إلى احتمال استخدام بوتين ذريعة “خيانة” مجموعة “فاغنر” لتبرير اتفاق سلام محتمل مع أوكرانيا، وبالتالي حفظ ماء الوجه محلياً. أما حميد أبو طالبي مستشار الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني فإنه رأی أن الأسلحة النووية لا يمكن أن تُشكل ضمانة وأن “تهميش دور المواطنين يمكن أن يؤدي إلی أزمة وطنية”؛ في الوقت الذي رأی الدبلوماسي السابق فريدون مجلسي حادثة “فاغنر” بأنها تشكل “إهانة لموسكو أكثر من كونها تهديداً حقيقياً” وان “هذا التمرّد أقرب إلى محاولة ابتزاز شنّها بلطجية مسلّحون من ذوي الخبرة الحربية في أوكرانيا”!

هذه المواقف المختلفة حيال الحدث الروسي تعطي أهمية لدراسة الإنقسام الذي تشهده إيران في ما يتعلق بالعلاقة مع روسيا، كما أنها تعكس أيضاً واقع الاستقطاب في السياسة الخارجية الإيرانية الذي تزايد في السنوات الأخيرة.

ويوماً بعد يوم يتبدى الإنقسام في الشارع الإيراني حيال العلاقة مع روسيا خصوصاً غداة الأزمة الأوكرانية واتهام الدول الغربية لإيران بأنها تساعد روسيا عسكرياً بواسطة طائراتها المُسيرة؛ الأمر الذي يُسلّط الضوء من جديد على وجود نقاش متعدد الأوجه داخل المجتمع الإيراني بشأن بعض توجهات السياسة الخارجية للبلاد، على الرغم من رفض الحكومة الواضح لأي دعوة يُطلقها الإصلاحيون لإعادة النظر في تحالفاتها الاقليمية والدولية.

ويعتقد النظام السياسي الحاكم في إيران أن العلاقة مع روسيا وتعزيزها في المجالات المحتلفة ولا سيما العسكرية هو البديل المتاح والأفضل لإيران في الوقت الذي تماطل فيه الولايات المتحدة والدول الغربية في العودة إلى الإتفاق النووي الموقع عام 2015 تمهيداً لازالة العقوبات الإقتصادية المفروضة علی إيران.

وترتبط طهران وموسكو بعلاقات تاريخية بحكم عوامل جيوسياسية عديدة إلا أنها إتخذت طابعاً مختلفاً منذ انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988 حيث اتفق البلدان علی تطوير البرنامج النووي الإيراني بعد انسحاب ألمانيا واليابان من مشروع اكمال مفاعل بوشهر النووي.

وقد شكّل التعاون الروسي الإيراني في سوريا بعد العام 2015 نقطة بارزة ومفصلية برغم بروز وجهة نظر إيرانية طرحت سؤال جدوی مثل هذا التعاون علی الأمن القومي الإيراني؛ لكن اشتعال الحرب الأوكرانية قبل سنة ونيف أدخل العلاقة الروسية الإيرانية في مسار جديد تجاوز مُحدّدات كثيرة كانت تُكبّل مثل هذه العلاقة منذ العام 1988 حتى الآن.

وكانت إيران وروسيا قد وقعتا علی اتفاقية للتعاون المشترك في العام 2001 بعنوان “اتفاقية اساسية للعلاقات المتبادلة ومبادیء التعاون” بين البلدين لكنها لم تكن بحجم الطموح الإيراني الذي كان يتطلع إلی علاقات أمنية وعسكرية متطورة، إلا أن استجابة موسكو للضغوط الأمريكية حينذاك لم يسمح بتطوير العلاقات؛ إلا أن تطورات الموقف في سوريا ثم في أوكرانيا دفعت الإيرانيين الذين وجدوا أبواب موسكو مفتوحة على مصراعيها أمامهم إلى إعادة النظر في الاتفاقية الموقعة عام 2001 حيث قال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إن بلاده تعد اتفاقية مدتها 20 عاماً لها أبعادها الأمنية والعسكرية والاقتصادية.

تعتقد القيادة الإيرانية أن التوقيع علی “اتفاقية التعاون الأساسية للعلاقات المتبادلة ومبادیء التعاون” لمدة 20 عاماً ستخلق ظروفاً جيوستراتيجية جديدة لإيران في مواجهة التهديدات الخارجية لا سيما الإسرائيلية والأمريكية

وكان رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الإيرانية محمد حسين باقري قد زار موسكو في تشرين الأول/أكتوبر 2021 حيث أعلنت إيران نيتها شراء أسلحة من روسيا بعد انتهاء العقوبات العسكرية علی إيران في تشرين الأول/أكتوبر من العام الجاري 2023 بموجب قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2231 الذي احتضن الإتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة 5+1 في العام 2015.

إقرأ على موقع 180  تفسير النص الدستوري بالمواءمة أم بالمعاني المتناقضة؟

وتتحدث المصادر الأمريكية أن إيران تملك قائمة متنوعة من مشتريات الأسلحة من روسيا تُكلّف مليارات الدولارات وتشمل غواصات من فئة “كيلو” ودبابات “تي 72” ومدرعات للمشاة وأنظمة مختلفة مضادة للدبابات ومقاتلات “سوخوي” المتطورة. وتشير المعلومات إلی أن إيران اشترت من روسيا أسلحة مختلفة بقيمة 304 مليار دولار خلال المدة الممتدة من 1991 حتى 2015، فيما يسعى البلدان لرفع حجم التبادل التجاري إلى مستوی 70 مليار دولار سنوياً.

واستناداً للعلاقة المتنامية بين البلدين وفي ضوء تعثر المفاوضات النووية، سمحت إيران لشركة “غاز بروم” الروسية في التواجد في المياه الخليجية والتنقيب عن النفط في جزيرة كيش والمساهمة في استخراج الغاز في حقل بارس الجنوبي القريب من قاعدة الأسطول الخامس الأمريكي، وهي خطوة تحمل في طيّاتها الكثير من الدلالات.

وفي ظل هذه الأجواء؛ يسود إعتقاد أن العلاقة بين موسكو وطهران، باتت تقترب غداة الحرب الاوكرانية من “العلاقة الاستراتيجية”، حيث نقل منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي أن روسيا عرضت علی إيران تعاوناً دفاعياً غير مسبوق بما في ذلك في مجال الصواريخ والإلكترونيات والدفاع الجوي.

وعلی الرغم من وجود وجهات نظر مختلفة لدی أوساط سياسية وعسكرية وفنية إيرانية بشأن كيفية التعاطي مع موسكو إلا أن القيادة الإيرانية ومعها أوساط سياسية وعسكرية عريضة تعتقد أن التوقيع علی “اتفاقية التعاون الأساسية للعلاقات المتبادلة ومبادیء التعاون” لمدة 20 عاماً ستخلق ظروفاً جيوستراتيجية جديدة لإيران في مواجهة التهديدات الخارجية لا سيما الإسرائيلية والأمريكية.

([email protected])

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  زيارة بايدن.. الحقبة الأمريكية السعودية الثالثة!