تكاد مفردة الإجماع تطغى على مجمل الخطاب السياسي والإعلامي الذي عرفه لبنان في غالبية مفاصل الإنتخابات الرئاسية منذ انتخاب بشارة الخوري كأول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الإستقلال عام 1943 وصولاً إلى انتخاب شارل حلو عام 1964 حيث كان الإجماع أو شبه الإجماع يشكّلان خلاصة تعبيرية وعملية للإلتزام بعنوانين: الميثاق الوطني والصيغة الوطنية.
وسيلاحظ في الشواهد التالية مقدار الحرص على سياسة الإجماع التي كانت القوى السياسية تُشدّد عليها فيأتي رئيس الجمهورية نتاجاً لها، وفي أوراق تلك الفترة هذه الوقائع:
أولاً؛ بشارة الخوري:
لم يكن بشارة الخوري طارئاً على الواقع السياسي اللبناني حين جرى انتخابه رئيسا للجمهورية عام 1943، فهو كان يرأس “الكتلة الدستورية” الفاعلة إلى حد كبير في الحياة السياسية المحلية، وحين تحالف مع رياض الصلح، وما أدراكم ما رياض، عنى ذلك أن شبه الإجماع حول رئاسة بشارة الخوري قد اكتمل عقده.
في “50 سنة مع الناس” يقول النائب والوزير الراحل يوسف سالم “اجتمع مجلس النواب في 21 أيلول/سبتمبر 1943 وانتخب الشيخ بشارة الخوري رئيساً للجمهورية بإجماع النواب الحاضرين، وتغيب عن الجلسة إميل إده، جورج عقل، أحمد الحسيني، أيوب ثابت، عبد الغني الخطيب وجميل تلحوق”.
وبحسب “خط في الرمال” لجيمس بار “أن بشارة الخوري فاز في انتخابات 1943 لأنه تمتع بدعم أوسع ليس فقط من المجتمع المسيحي ولكن وسط العديد من المسلمين وتم انتخابه من قبل البرلمان ليكون رئيساً جديداً للبنان وصوّت له كل الأعضاء الحاضرين”، وفي كتاب لجورج فرح صدر في الولاية الثانية للرئيس بشارة الخوري “التأم المجلس النيابي في السابع عشر من أيلول/سبتمبر 1943 وشرع بإنتخاب رئيسه ففاز السيد صبري حمادي بأكثرية الأصوات وفي الثاني والعشرين من ذات الشهر اجتمع المجلس النيابي لإنتخاب رئيس الجمهورية ففاز فخامة الشيخ بشارة الخوري برئاسة البلاد الأولى بإجماع الأصوات”، ويقصد بقوله أصوات النواب الحاضرين.
شبه الإجماع الذي ناله بشارة الخوري في الإنتخابات الرئاسية سيتحول إلى إجماع مطلق حول عهده بعد تشكيل رياض الصلح الحكومة الإستقلالية الأولى، وفي هذا الجانب يقول منير تقي الدين في كتابه المهم “ولادة الإستقلال” الصادر عام 1953 “قال المجلس كلمته فإذا الرئاسة لبشارة الخوري، واستمع الرئيس إلى استشارات النواب وأنصت إلى صوت الأمة، فإذا هي ترنو إلى رياض الصلح وقال الرئيس كلمته فإذا هي كلمة الأمة، لكن العهد كان يحتاج إلى أكثر من أكثرية النواب، وأكثر من إجماع النواب، لقد كان يتطلب إجماع الأمة، وتلا رئيس الوزارة بيانه الخطير فإذ هو قد أوجد الصيغة الوطنية التي توحد النزاعات وتجمع التيارات المختلفة في تيار واحد، وإذا النواب على اختلاف أحزابهم يمنحون حكومته الثقة بالإجماع”.
وعن هذا الإجماع حول العهد يتحدث الرئيس كميل شمعون في “أزمة في لبنان” فيقول “جاء استقلال لبنان في عام 1943 ليشكل تحولا جذريا في العلاقات السياسية بين الطوائف، إذ عرفت حكومة رياض الصلح بموافقة رئيس الجمهورية بشارة الخوري أن تجد الصيغة التي كانت روحا للبيان الوزاري والتي نالت عليها الثقة بالإجماع من المجلس النيابي”.
وفي “رياض الصلح في زمانه” لأحمد بيضون أن صحيفة “النهار” كانت سبّاقة في تسمية “المبادئ” التي وردت في البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح الأولى ميثاقا وطنيا فنشرت غداة جلسة الثقة بالحكومة مقالة جاء فيها “نحن نرى في بيان رياض بك الصلح عهدا أو ميثاقا أخذته البلاد على نفسها بإجماع نوابها على قبوله”.
ثانياً؛ كميل شمعون:
بعد استقالة بشارة الخوري عام 1952 بفعل “الثورة البيضاء” انحصر السباق الرئاسي بين كميل شمعون وحميد فرنجية، وانحازت الغالبية الإسلامية إلى الأول، وينقل الياس الديري في “من يصنع الرئيس”؟ عن النائب الراحل عبد العزيز شهاب أن حميد فرنجية “اتصل بجميع مؤيديه وأصدقائه وقال لهم: برغم معرفتي بأنني سأنجح لأن الأكثرية معي قرّرتُ الإنسحاب لأني أرفض أن أكون رئيسا للجمهورية عن المسيحيين وحدهم”.
وقبل الإجماع السياسي والنيابي حول كميل شمعون في الإنتخابات الرئاسية المشهودة عام 1952، يروي يوسف سالم وقائع الساعات الأخيرة قبل انسحاب حميد فرنجية “تبادلتُ الآراء وأصدقائي فبادرتُ إلى الإتصال بصديقي حميد فرنجية وبعد أن قمنا معا بإحصاء المؤيدين له والمؤيدين للأستاذ شمعون تبين لنا أن أنصار شمعون يزيدون إثنين او ثلاثة عن مؤيديه” وعند ذلك جرى هذا الحوار بينهما:
ـ يوسف سالم: هل ترضى، أنت حميد فرنجية، أن يُنتخب رئيس الجمهورية بهذا الجو من الضغط؟
ـ حميد فرنجية: لا.. ماذا ترانا نفعل؟
ـ يوسف سالم: أرى أن تجتمع بكميل شمعون وتدرسا الموقف ويحصي كل منكما عدد مؤيديه من النواب، ومن كان عدد مؤيديه أقل ينسحب للآخر ويُنتخب الرئيس حينئذ بالإجماع.
لم يتردد حميد فرنجية كما يقول يوسف سالم، وهذا ما دفعه لعرض الإقتراح على شمعون فوافق على الإجتماع بمنافسه في منزله وعمل المرشحان المتنافسان على إحصاء الأصوات “وفجأة وقف حميد فرنجية وقال لكميل شمعون: مبروك، وبعد أربع وعشرين ساعة انتخب مجلس النواب شمعون رئيسا للجمهورية بإجماع الأصوات”.
هذا الإجتماع الذي أعقبه الإجماع تحدثت عنه صحيفة “البيرق” في الرابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 1952 فقالت:
“اجتمع في منزل يوسف سالم الساعة السابعة والنصف من مساء أمس ريمون إده وأحمد الأسعد وصبري حمادة وكميل شمعون وكمال جنبلاط وحميد فرنجية ومجيد إرسلان وبيار إده ورشيد كرامي وصائب سلام ومارون كنعان ونقولا سالم وسليمان فرنجية ورينيه معوض” وفي هذا الإجتماع وفقاً لإلياس الديري، توجه الرئيس صائب سلام إلى حميد فرنجية بالقول “لا يجوز أن يُنتخب رئيس جمهورية لبنان بأكثرية صوتين، والكلمة لحميد بك الذي نعرف حرصه على كرامة هذا المنصب” وفي هذه اللحظة قال حميد فرنجية “أنا أريد أن يأتي رئيس الجمهورية برصيد ضخم وأن تكون له سلطة قوية” وهكذا “انتُخب كميل شمعون بالإجماع وانتقل إلى قصر بيت الدين”.
وفي اليوم التالي (23 ـ 9 ـ1952)، قالت صحيفة “الحياة” إن حميد فرنجية “بعد إعلان النتيجة ألقى كلمة حيّا فيها البلاد وحيّا هذا الإجماع”. وكتبت صحيفة “الجمهور” في 27ـ 9 ـ 1952 “كان انتخاب الأستاذ كميل شمعون للرئاسة الأولى بإجماع النواب على اختلاف أحزابهم ومناطقهم ومذاهبهم مدعاة غبطة وعنوان فخر”.
ثالثاً؛ فؤاد شهاب:
شكّل شعار “لا غالب ولا مغلوب” قاعدة التسوية التي خرج منها اللبنانيون عقب حوادث عام 1958، ولم تعن هذه القاعدة سوى الإستمرار في نهج سياسة الإجماع على انتخاب الرئيس المقبل والذي تمثل هذه المرة باللواء فؤاد شهاب وكان نأى عن الرئاسة عام 1952 فأتته بعد ستة أعوام على طبق شامل حتى من قبل خصمه اللدود كميل شمعون الذي “قبل باللواء شهاب على مضض” بحسب شهادة يوسف سالم، فيما “الحل المبدئي هو أن يعتزل كميل شمعون ليحل محله رئيس محايد يحاول أن يعيد الأمور إلى نصابها” كما كتبت مجلة “الآداب” في الأول من آب/اغسطس 1958.
في الواحد والثلاثين من تموز/يوليو 1958 انتُخب فؤاد شهاب الرئيس الثالث لجمهورية ما بعد الإستقلال بأكثرية 48 صوتا مقابل 7 أصوات لريمون إده الذي ترشح “حفاظا على الديموقراطية” وغاب عن الجلسة الإنتخابية 10 نواب بينهم رئيس الحكومة سامي الصلح.
وكان أمام العهد الجديد مهمة الإنتقال من “حالة الإكثرية” إلى حالة الإجماع فأخذ على نفسه تشكيل أولى حكوماته فكانت حكومة “اللاغالب واللامغلوب” برئاسة رشيد كرامي وإلى جانبه سبعة وزراء وتلتها “حكومة الأربعة” التي ترأسها كرامي أيضا وشارك فيها ريمون إده وبيار الجميل وحسين العويني وتحقق الإجماع بذلك، كما أن اللواء شهاب “فهم أن الإستقرار يتطلب إجماعا واسعا بين قيادات التيارات الرئيسة في البرلمان والحكومة، وهكذا رفع عدد النواب من 66 نائبا إلى 99” مثلما يستقر رأي مروان حرب في “الشهابية”.
في الجزء الثاني من “فؤاد شهاب ذلك المجهول” يقول باسم الجسر “أتيح لي حضور أحد اجتماعات زعماء المعارضة حيث نوقشت قضية انتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية، لقد كان هناك شبه إجماع على تقدير موقفه والثقة بشخصه، ولم يكن من الصعب الحصول على موافقة المقامات والشخصيات المسيحية لإنتخاب فؤاد شهاب” وفي اليوم التالي (1ـ8 ـ 1958) كان عنوان صحيفة “الحياة” على هذا النحو “أصبح اللواء فؤاد شهاب الرئيس السابع للجمهورية”.
في 28 نيسان/ابريل 1974 وفي الذكرى الأولى لرحيل فؤاد شهاب قال رئيس الحكومة اللبنانية الراحل تقي الدين الصلح “فؤاد شهاب لم يأت إلى السلطة لحل مشكلة غياب رئيس.. أتى لحل مشكلة وطن”.
رابعاً؛ شارل حلو:
في الثامن عشر من آب/اغسطس 1964، خرجت صحيفة “الحياة” بعناوين محلية عدة منها “اليوم يصبح شارل حلو رئيسا للجمهورية”، وفي سردها للتفاصيل قالت “في الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر اليوم الثلاثاء يجتمع المجلس النيابي في جلسة مخصصة لإنتخاب رئيس الجمهورية فيُنتخب الأستاذ شارل حلو بما يشبه الإجماع ولن يقل عدد الأصوات التي سينالها عن 90 ـ 95 نائبا من أصل 99، هذه الأعجوبة التي تشرف الديموقراطية اللبنانية تشهد بتفوق روح التفاهم والأنفة والسيادة الدستورية”.
وكتب كامل مروة في عدد “الحياة” نفسه “الحمد لله أن التعقل غلب على أي عامل آخر، فجمع الأكثرية الساحقة من النواب على مرشح مشترك للرئاسة، وبذلك حافظ لبنان ونوابه وغيرهم على الوجه الحضاري لهذا البلد، وفي هذا يعود فضل أكبر إلى الرئيس فؤاد شهاب، ومنذ فتح معركة الرئاسة ونحن ندعو إلى اختيار الرئيس بالتفاهم والتراضي حتى تظل التسوية اللبنانية متألقة في العالم العربي تعكس حكمة الرسول العظيم في قوله خير الأمور الوسط”.
يقول وزير الخارجية الأسبق فؤاد بطرس في “المذكرات” توالت “المواقف المؤيدة لولاية شهابية ثانية واجتمع مجلس النواب وصوّت بغالبية تسعة وسبعين صوتا مقابل أربعة عشر على توجيه تمن نيابي إلى رئيس الجمهورية ـ فؤاد شهاب ـ بناء على المادة السابعة والسبعين من الدستور بقبول إجراء تعديل للمادة التاسعة والأربعين تمهيدا لإعادة انتخابه رئيسا للجمهورية”.
من هم النواب الأربعة عشر المعارضون؟ إنهم نواب أحزاب “الكتائب” و”الأحرار” و”الكتلة الوطنية”، أي الأحزاب المارونية، وعنى ذلك أن القبول بالتجديد سيفضي إلى انقسام أهلي وإلى الصدام مع هذه الأحزاب وما تمثله من بيئة طائفية، ولعل هذا السبب كان من ضمن مجموعة الأسباب الذاتية والموضوعية الحائلة دون موافقة شهاب على التجديد الذي افتقد الإجماع ولذلك وقع الخيار على شارل حلو بإختيار من فؤاد شهاب.
حول هذا الإنقسام المحتمل يتحدث الرئيس صائب سلام إلى الياس الديري “أتاني انور الخطيب ليقنعني بالتجديد، ثم جاء كمال جنبلاط فقلت له: اقعدوا عاقلين التجديد يشق البلاد، اجتمعتُ بفيليب تقلا وقلتُ له إذهب إلى عند شهاب واطلب منه أن يوقف هذه الموجة، إذا جدّد ستنقسم البلاد ويقوم المسيحيون ضده، قال له شهاب ابلغ صائب إني اقتنعتُ برأيه معه حق، كانت مطروحة أسماء عدة، فؤاد عمون والياس خوري وعبد العزيز شهاب وفيليب حتي وسليمان فرنجية وريمون إده، تعددت الإجتماعات واللقاءات واتفقنا على شارل حلو الذي انتُخب بما يشبه الإجماع”.
قد ينتقد كثيرون تلك المرحلة من التاريخ السياسي للبنان، وهي بأية حال لها ما لها وعليها ما عليها، ولكن كان ثمة من يتقن فنون إيجاد حبال النجاة حتى لو كانت في اللحظات الأخيرة، ولذلك كان ثمة حرص دائم على الإلتزام بالمُهل الدستورية، وحتى في ظل الإنقسام السياسي الحاد كما في عامي 1958 و1970 لم تخرج القوى السياسية المنقسمة عن القواعد الموجبة لإنتخاب الرئيس الخلف قبل أن تنتهي ولاية الرئيس السلف، وبذلك كانت تلك القوى تتحاشى الوقوع في أخطبوطية الأزمات الفرعية التي تنتج عن الأزمة الأصلية وتبتلعها كما هي أحوالنا المرعبة في هذه الأيام.
أخيراً مع كامل مروة:
بعيد استقالة بشارة الخوري وقبيل انتخاب كميل شمعون كتب الصحافي كامل مروة في الثالث والعشرين من أيلول/سبتمبر 1952 افتتاحية “الحياة” فقال فيها:
“نريد رئيساً لا يستحي من صديق أو نسيب، نريد رئيساً يفكر بمصلحة البلاد لا بأصوات الذين دعموه أو قد يدعمونه”.