إيران بعيون زائريها: “المرشد” و”الحرس”.. مَنْ الأقوى؟ (2)

يُخبر الشارع الإيراني زائره في هذه الأيام عن معضلة ثقافية واجتماعية كبيرة يعاني منها المجتمع الإيراني حالياً، إذ أن المرأة التي قررت تحدي قانون فرض الحجاب هي جزء من المجتمع. هذه المرأة قد تكون إحدى زوجات أو بنات أو أمهات أو قريبات "شهداء الجهاد المقدس" أولئك الرجال الذين سقطوا في ساحات بعيدة لإعلاء راية الجمهورية الإسلامية بكل مضامينها السياسية والأخلاقية والثقافية.

المقصود من هذه الملاحظة أن التمرد النسائي ـ وهو حتماً تجاوز هذه الشريحة لتنخرط شرائح أخرى في الحراك ـ على ما كان يُفترض أنه من ثوابت أو قواعد مجتمع الجمهورية الإسلامية من شأنه أن يُبرز شرخاً اجتماعياً كبيراً، إذ أن التمرد على الحجاب هو فقط أحد اشكال التمرد الذي يمكن للمرء أن يراه في الشارع وفي لباس النسوة، ولكن الأمر يتطلب التعمق أكثر في دراسة الأشكال الإحتجاجية الأخرى التي يُمكن أن تُعبّر عنها شرائح اجتماعية أخرى.

أمام هذا “الموزاييك” الاعلاني الذي رصدناه في شوارع طهران (راجع الجزء الأول من هذه المقالة) أو التناقض في السلوك الاجتماعي، يتساءل زائر إيران كيف تسنى لهذه الدولة الفتية أن تواجه العقوبات الغربية القاسية طوال 44 سنة، وكيف استطاعت إيران أن تحوّل الأزمة إلى فرصة للنهوض بالاقتصاد الوطني؟

بحسب الأرقام التي تنشرها منظمة “أوبك” العالمية للنفط، فإن إيران زادت إنتاجها اليومي من “الذهب الأسود” خلال العامين الماضيين وإن بنسبة ضئيلة ليبلغ حوالي 2.7 مليون برميل يومياً (2.5 مليون برميل يومياً قبل ذلك التاريخ). كما أنها استفادت من انفتاحها الكبير شرقاً باتجاه روسيا والصين وغرباً باتجاه البرازيل وفنزويلا لتزيد من عمليات التصدير لسلعها مقابل استيراد ما تحتاجه من مواد أولية. وهنا يلفت إنتباه الزائر غياب اللوحات الإعلانية التي انتشرت كثيراً في شوارع طهران خلال الأعوام القليلة المنصرمة والتي كانت تلعن حكام السعودية وتنعتهم بأبشع النعوت، وهذا يؤشر على دخول العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة لا بد أن يكون العامل الاستثماري كبيراً فيها.. أو لنقل أن الإيرانيين يراهنون على هذا البعد كثيراً، غداة توقيعهم “إتفاق بكين” مع المملكة العربية السعودية.

أي ضعف يصيب المؤسسة الدينية لا بد أن يؤدي إلى تقوية المؤسسة التي تتشارك معها السلطة وهي مؤسسة الحرس الثوري. وكما أن هناك عصبية تجمع رجال الدين، ثمة عصبية عسكرية تجمع ضباط وعناصر أي جيش في العالم بمعزل عن الأيديولوجيا التي يتم تبنيها

إن التمعن في طبيعة النظام السياسي في إيران ليس أمراً معقداً، فهناك مؤسستان تتحكمان بصناعة القرار وتنفيذه في البلاد، المؤسسة الدينية التي تتولى زمام الأمور ويعبر عنها المرشد السيد علي الخامنئي بصفته الولي الفقيه ورئيس السلطات الدينية والسياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية وله صلاحيات تفوق تلك التي كان يتمتع بها الشاه محمد رضا بهلوي الذي اطاحت به ثورة الامام الخميني في العام 1979، وليست هناك إدارة رسمية في البلاد من دون ممثل للإمام الخامنئي فيها. أما المؤسسة الثانية، فهي الحرس الثوري والتي تشكل الأداة العسكرية والأمنية للدفاع عن نظام الجمهورية الإسلامية وهي وان كانت قوة عسكرية ضخمة تفوق بقدراتها قدرات الجيش الايراني الرسمي وتحت أمرة الإمام القائد، إلا أنها تلعب دوراً أكبر بكثير من الدور العسكري، بدليل أذرعها الأخطبوطية التي تمسك بكل مفاصل الاقتصاد والانتاج في البلاد، من المصانع على اختلاف أنواعها إلى ما يشبه التعاونيات الزراعية إلى المناجم وآبار البترول والغاز وحتى إلى المشاريع السياحية المتواضعة. وبحسب صحافي عربي مقيم في طهران، فإن وضع الحرس الثوري الإيراني بات يُشبه إلى حد كبير وضع الجيش في مصر.

إن العلاقة بين المؤسسة الدينية والحرس الثوري هي علاقة تكاملية، إذ أن قيادة الحرس تدين بالولاء المطلق للمرشد علي الخامنئي، وهذا كلام لا غبار عليه. ولكن حادثة مقتل الشابة مهسا أميني في أيلول/سبتمبر الماضي هزّت بشكل كبير صورة المؤسسة الدينية إن لجهة الهتافات التي تطاولت على الخامنئي نفسه أو لجهة ما انتجته من تحدٍ لقانون فرض الحجاب. وما الحل الذي انتهت اليه تلك الحادثة وما اعقبها من اضطرابات في الشارع على مدى شهرين سوى تأكيد إهتزاز سلطة المؤسسة الدينية على الشارع، وبما أن الطبيعة تأبى الفراغ، فإن أي ضعف يصيب المؤسسة الدينية لا بد أن يؤدي إلى تقوية المؤسسة التي تتشارك معها السلطة وهي مؤسسة الحرس الثوري. وكما أن هناك عصبية تجمع رجال الدين، ثمة عصبية عسكرية تجمع ضباط وعناصر أي جيش في العالم بمعزل عن الأيديولوجيا التي يتم تبنيها.

وكما المؤسسة الدينية بحاجة للحرس الثوري لاستمرار إمساكها بزمام الأمور في البلاد، فإن الحرس الثوري بحاجة للمؤسسة الدينية لاستمرار اكتسابه المشروعية الدينية والاجتماعية لوجوده في بلد باتت أغلبية شرائحه محافظة بالمعنى الديني. لذلك، أي رهان على هز أركان النظام القائم في إيران لا فرصة نجاح له ليس فقط على المدى القريب بل أيضاً على المدى البعيد. وإن كان ثمة قوى ودول لا تألو جهداً لتخريب أوضاع هذه البلاد بشتى السبل، وبحسب ما ينقل الكاتب “الإسرائيلي” رونين بيرغمان في كتابه “انهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية” عن مسؤول كبير في جهاز “الموساد” أن أجهزة الاستخبارات الفرنسية والأمريكية و”الاسرائيلية” ومنذ سنوات طويلة تعمل بالتنسيق بين بعضها البعض على ثلاث جبهات داخل ايران بزعم استهداف قدراتها النووية، وهذه الجبهات هي قتل العلماء النوويين الإيرانيين، حجب الآلات والمعدات التي يمكن استخدامها في المفاعلات النووية وتخريب تلك الموجودة، ودفع الأقليات الدينية والإثنية والإجتماعية للانتفاض ضد النظام.

إقرأ على موقع 180  "الشين بيت".. ما هذه "حماس" التي توقعناها (79)

تلك القوى والدول بما تملك من إمكانيات وموارد ضخمة استطاعت أن تحقق الكثير، فقد زاد عدد العلماء الايرانيين الذين قتلوا في السنوات القليلة المنصرمة عن ستة عشر عالماً، وتمكن جهاز “الموساد” من سرقة آلاف الوثائق عن البرنامج النووي الإيراني، وأثبتت نتائج التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية الايرانية “أن هناك علاقات قوية لأجهزة استخبارات خارجية باضطرابات الشارع الإيراني في الآونة الأخيرة”، على حد تعبير شخصية عربية مقيمة في العاصمة الإيرانية، من دون أن تُحدّد جنسية هذه الأجهزة الخارجية.

أخيراً، برغم التقدم المدهش الذي تشهده إيران لا سيما في السنوات الأخيرة، فإنك تصطدم بواقع أكثر إدهاشاً: طائرة الخطوط الجوية الإيرانية التي تعمل على خط طهران ـ بيروت وبالعكس تعطي أبشع صورة عن التنظيم وربما النظام الإيراني؛ فهذه الخطوط تعاني من فوضى عارمة إن لجهة التأخير في مواعيد الإقلاع ليس فقط لساعات بل أحياناً لأيام، وإن لجهة تسليم الركاب بطاقات الصعود إلى الطائرة، وهي تحوّل مطار طهران الى ما يشبه أحد الأفران خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية عندما كانت الناس تتجمهر عشوائياً عند مدخله من دون أدنى تنظيم.

إن بلاداً تستطيع أن تحقق كل ما ذُكِر من انجازات لا يمكن أن تكون عاجزة عن تنظيم رحلة طيران.. للبحث صلة.

(*) راجع الجزء الأول: في طهران.. كأنك لست في طهران

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  رواية "أولمبيا" لبيرغمان: فخخنا منصة عرفات ولم نفجرها