عندما تسير في شوارع المدينة التي يزيد عدد سكانها عن عشرة ملايين، لا بد أن تتحلى بالصبر الشديد كي تتحمل زحمة السير الخانقة أينما حللت، وهي زحمة تجعل من المستحيل على أي كان أن يلتزم بموعد محدد من دون أن يترك هامش أربعين إلى خمسين دقيقة من التأخير. فعوادم طوابير السيارات والدراجات النارية تزيد من حرارة الطقس في الصيف، ويلفت انتباهك أن السيارات الفرنسية أو الكورية الطراز، والتي تتسبب بزحمة السير هذه بمعظمها، يعود شكلها الى أكثر من عشر سنوات خلت، لكنها سيارات حديثة الصنع ومن انتاج إيران، وهذه هي الحال أيضاً مع الدراجات النارية التي تعج بها شوارع طهران وأزقتها الداخلية، وبإمكان الزائر أن يرى صالات العرض الضخمة لتلك الدراجات والسيارات وكلها من صنع إيراني.
وما يلفت نظرك في شوارع طهران، لوحات إعلانية على مد عينك والنظر تخبرك عن الواقع الإقتصادي والثقافي والسياسي في البلاد، فتلك اللوحات الضخمة بالإضافة إلى الجداريات المرتفعة في عدد من المباني العالية تحمل مثلاً إعلانات تسويقية لسيارات حديثة رباعية الدفع، إيرانية الصنع، وأخرى تحمل إعلانات لحفلات موسيقية لفنانين إيرانيين، وفي الوقت نفسه دعوات من الجهات الحكومية المختصة تحث النساء على ارتداء الحجاب، كما يرى الزائر صوراً ضخمة لشهداء “الجهاد المقدس”، كما هو مكتوب عليها من دون ذكر مكان الإستشهاد، لكن بصورة عامة فإن الإيرانيين الذين يسقطون في معارك بعيدة عن ايران (سوريا خصوصاً) يوصفون بـ”شهداء الجهاد المقدس”. وتشي تلك الجداريات بأن أعمار هؤلاء تتراوح بين الثلاثين والأربعين عاماً. إلى جانب كل ذلك هناك لوحات إعلانية للأدوات المنزلية والكهربائية (برادات، غسالات، أفران غاز، تلفزيونات، وأثاث منزل، وغيرها..) وإن كان من دلالة لذلك فهو أن النشاط الصناعي كبير جدا في البلاد ويتطلب تكنولوجيا حديثة ومتطورة تواكب العصر. إذ ليس من السهل تأمين حاجة السوق الإيرانية لكل هذه السلع الثقيلة في بلد يقارب عدد سكانه التسعين مليون نسمة وهو يخضع لحصار اقتصادي ومالي خانق منذ عقود من الزمن.
وإذا كان بالإمكان تلمس هذه القدرات الصناعية للسلع المدنية من خلال الشارع، فإن القدرات الصناعية العسكرية يمكن تلمسها من خلال متابعة وسائل الإعلام الإيرانية المرئية والمكتوبة، وهي تمتد من تقنية النانو الحديثة إلى الصورايخ بعيدة المدى والمُسيّرات الجوية والبحرية.
أما التجول في أسواق طهران، فله قصة أخرى، من سوق الخضار والفاكهة، إلى سوق المواد الاستهلاكية الأخرى (مواد غذائية وتنظيفية إلخ..)، فبإمكان الزائر أن يرى أن معظم المحلات قد ضاقت بما تحتوي من سلع، فلجأت إلى استخدام الأرصفة القريبة منها، وما يؤكد ذلك أنك عندما تدخل إلى أحد المحال فإنك بالكاد تجد مكاناً تقف فيه بسبب تراكم السلع داخله وخارجه.
كما أن الطبق اليومي التقليدي للمواطن الإيراني نادراً ما يخلو من اللحوم أو الدجاج، وذلك يعني أن هناك جهوداً كبيرة تبذل لتغطية حاجات السوق وجعله متخماً، ولكن يبرز السؤال هل باستطاعة المواطن الإيراني العادي الوصول إلى كل هذه الأنواع من السلع من خلال الدخل الشهري الذي يحصل عليه؟
يخبرك الشارع أن هناك حالات من الفقر يُعبّر عنها وجود متسولين بصورة مباشرة (يمدون يدهم طلباً للمال) أو غير مباشرة (يبيعون أكياس المحارم والمياه الباردة على تقاطعات الطرق)، وقد لا يكون مشهد هؤلاء مختلف عنه في كثير من الدول، فحتى في مدينة لندن الإنكليزية هناك ما يقارب المليون متسول يطلقون عليهم لقب “المتشردين” (Homeless).
أمام هذا المشهد يلفت انتباه الزائر أن السلعة الأكثر ندرة بين الناس هي الأوراق النقدية نفسها، وهنا لا بد للمرء أن يرفع القبعة لدولة استطاعت برغم الحصار المالي مواكبة العصر. هذا ما تلمسه مع سائق سيارة الأجرة وفي المطعم والمحال التجارية. الكل يستخدم البطاقات المصرفية الممغنطة (دبيت أو كريديت كارد) أو حتى التعامل المصرفي عبر الهاتف. يكفي أن تكون لديك بطاقة مصرفية حتى تدفع لسائق سيارة الأجرة ما هو مطلوب منك عبر الهاتف كما في أي دولة في العالم. قد يكون الامر بمثابة هجنة لزائر قادم من لبنان، أما في إيران، وبحسب ما يقول صحافي إيراني مخضرم، “لا أتذكر متى كانت آخر مرة استخدمت فيها العملة الورقية، إنها تعود لسنوات طويلة خلت”.
أمام هذه العجالة لما يمكن أن يراه زائر طهران لا بد من التوقف ملياً أمام ما يخبرك به الشارع عن أحداث الأشهر القليلة الماضية إثر مقتل الشابة مهسا أميني (22 عاما) في أيلول/سبتمبر الماضي، وذلك أثناء زيارتها طهران مع عائلتها عندما أوقفتها وحدة الشرطة المكلفة بفرض قواعد اللباس الصارمة على النساء بما في ذلك الحجاب.
يُخبرك الشارع أن تلك التحركات أعطت ثمارها على صعيدين، الأول هو أن الحكومة سحبت من الشارع “شرطة الأخلاق” التي كانت تلاحق النسوة اللواتي من دون حجاب على الطرقات، والثاني هو أن النسوة بتن أكثر جرأة في تحدي القانون الذي يفرض ارتداء الحجاب. وفي تجربة ملفتة للإنتباه يعيشها الزائر لأحد المراكز التجارية في “مدينة قدس” أو كما تسمى باللغة الفارسية “شهرك قدس”، فإنه بكل بساطة لن يعرف انه في إيران. فعند مدخل المركز هنا نتعرف على شاب بشعر طويل يتدلى على كتفيه يعزف مع صديقته على آلة الغيتار ويضعان أمامهما قبعة لجمع أموال المستمعين. وفي المطاعم والمحال التجارية داخل المركز الذي يعج بالزبائن، نجد غالبية نسائية بلا حجاب، وحتى من دون منديل يوضع على الكتف كما كانت العادة السائدة قبل مقتل الشابة أميني، كما ان الشابات منهن يرتدين لباساً “غير محتشم” وفق المفهوم الرسمي الإيراني، إذ هناك بنطلون الجينز الممزق عند الفخذ، أو الملابس الضيقة الملتصقة بالجسد أو “التي شيرت” أو “التوب” التي لا تغطي سوى منطقة الصدر لتعرض عري البطن كما هو. وعند سؤال الصحافي الإيراني المخضرم عن الأمر فإنه يقول إن هذه المدينة معروفة بين الإيرانيين باسم “شهرك غرب” أي مدينة الغرب على الرغم من أن اسمها الرسمي هو مدينة القدس. ولكن هذه المشاهد للنساء لا تقتصر على “شهرك غرب” ففي منطقة شمال طهران التي يعرف أنها المنطقة الاغنى ليس فقط في العاصمة الإيرانية، بل في كل البلاد، فإن المشاهد تتشابه في المحال والمراكز التجارية كما في بعض الشوارع. ولكن ذلك لا يعني أن الحجاب قد غاب عن شوارع طهران، إذ أن غالبية النساء لا تزال ترتدي الحجاب مع “التشادور” الأسود، دلالة على الإلتزام الديني وليس فقط القانوني.
ويقول دبلوماسي عربي عايش الأحداث التي أعقبت وفاة الشابة أميني إن الإخراج الذي توصلت اليه الحكومة والسلطات المختصة لموضوع الحجاب يقوم على مبدأ “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”، فالحكومة لم تلغ الحجاب، ولكنها لم تعد تفرض وجوده بالقوة، إذ أن أقصى ما يمكن أن تتعرض له امرأة من دون حجاب هو أن يلفت موظف ما أو حتى أحد رجال الشرطة نظرها بضرورة وضع الحجاب أو يمكن أن يصل الأمر أن تُلزم بالتوقيع على التزام خطي بألا تكرر مخالفة قانون ارتداء الحجاب. وفي وصفه للتحركات الشعبية التي حصلت في الأشهر القليلة التي أعقبت موت الشابة أميني يقول الدبلوماسي إن الإعلام انقسم عامودياً إلى قسمين، أول بالغ في تصوير التحركات الشعبية لدرجة يعتقد معها المرء أن النظام الإيراني ينهار، وقسم مواجه يبالغ في الاستخفاف بالتحركات الشعبية لدرجة يظن معها المرء أن شيئاً لا يحصل في البلاد”.