تيمّناً بأعمال الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايديغر (ت. ١٩٧٦ م)، فقد سمّينا مجمل الظّاهرة تلك – والتي تشمل، أيضاً وببساطة، الابتعاد عن الوعي بما هو “الأهمّ” في حياتنا كبشر، أي عن الوعي بوجودنا: ظاهرةَ الغفلة، أو الغفلة عن الغفلة.
إنّ الحديث عن احتمال الولوج الإضافي في ظاهرة الغفلة له سببٌ واضحٌ بالنّسبة إلينا: وهو اعتبارنا أنّ هذه الموجة التّقنيّة الجديدة تشكّل – حتّى الآن – مجرّد امتدادٍ لسابقاتها ذات الجذور المتوغّلة وصولاً إلى “عصر الأنوار” الأوروبي، وإلى أعماق مرحلة الثّورة الصّناعيّة في أوروبا وأميركا القرن التّاسع عشر. ونحن، إذ نتحدّث عن امتدادٍ في هذا الإطار: لا نعني به الامتداد بمعنى التّقدّم أو التّراكم التّقنيّين ببساطة، وإنّما نقصد به الامتداد بمعنى العقليّة الفلسفيّة – والأيديولوجيّة العامّة – الموجِّهة والمؤسِّسة لهذه الموجة التّقنيّة.
بعبارة أخرى: إنّ السّياق الفلسفي والقِيَمي – بشكل خاص – والذي تقوم عليه هذه الموجة، وتسير وفقاً له، لا يزال هو نفسه في الأعمّ الأغلب، أي منذ المرحلتَين المذكورَتَين آنفاً إلى اليوم. وسنحاول فيما يلي تناول بعض جوانب هذه الملاحظة وتفسير بعض زواياها، لكن بعد التّوقّف قليلاً عند عبارة “الاصطناعي” المستخدمة في التّرجمة العربيّة لعبارة الـArtificial Intelligence.
هل قلتم: “الاصطناعي”؟
في الظّاهر على الأقل، يذكّر استعمال عبارة “الاصطناعي” بأعمال الفيلسوف الفرنسي (الذي يوصف عادة بما-بعد-الحداثي، أو بشيخ هذه المدرسة الحديثة): جان بودريلارد (ت. ٢٠٠٧ م). أقصد بالتّحديد عمله الأشهر طبعاً، أي: المصطَنع والاصطِناع (Simulacres et Simulation)، والذي يدافع فيه عن فكرة أنّ الواقع في العالم الذي نعيش فيه أصبح مصطَنَعاً.. تماماً.
فعالمنا التّواصلي والإعلامي (والافتراضي إن أردت) بالتّحديد، “يخلقُ” واقعاً مُصطنعاً، يصبحُ في النّهاية – برغم سمته “الاصطناعيّة” الجوهريّة – هو الواقع الوحيد المأخوذ به من قبل الأغلبيّة السّاحقة من البشر في عصرنا. مع بودريلارد، تدخل الفلسفة مع علم الاجتماع في بُعدٍ جديدٍ تماماً: فقد يقول قائلٌ إنّ الذي انتهى ليس الموضوعيّة (بمختلف معانيها ومدارسها) فحسب، وإنّما انتهت مسألة الواقع الحقيقي كلّيّاً، عداك عن ابتعاد الحقيقة – أكثر فأكثر – خلف صفوفٍ مرصوصة من الحُجُب.
هل العلاقة بين مُصطنَع بودريلارد وبين موجة الذّكاء الاصطناعي مجرّد علاقة صدفة لغويّة جاءت بها مفردات لغتنا الأمّ؟ لا أعتقد ذلك لسببٍ رئيسيّ، وهو أنّ أدوات الذّكاء الاصطناعي لا بدّ وأن تقوّي جانباً مهمّاً من حياتنا المعاصرة، وبشكل كبير جدّاً أيضاً: وهو جانب العالَم الافتراضي المذكور أعلاه. من شبه البديهي، بالنّسبة إليّ، أن تقوّي موجة الذّكاء الاصطناعي ظاهرة العوالم الافتراضيّة هذه، بل وأن تُضاعفها أضعافاً مُضاعفة. ولذلك، فمن المرجّح جدّاً أن تُضاعف بدورها وتقوّي ظاهرتَي الـSimulation والـSimulacres العزيزَتين على فيلسوف ضاحية نانتير الباريسيّة.
من المرجّح، مع تكريس أدوات الـAI (Artificial Intelligence) أن يتضاعف مفعول الاصطناع وأن تتضخّم دائرة المُصطنَع. وكما يفسّر بودريلارد، فلا بدّ لهذا التّضخّم الأخير أن يُبعد الفرد-الإنسان ومجتمعه أكثر فأكثر عن ظواهر و/أو أفكار كالموضوعيّة أو كالواقع الخارجي.. ناهيك عن الحقيقة أو ما يمكن تسميته بالوجود الحقيقي. وإذا ما أكملنا المسير من زاوية فلسفة بودريلارد: نلاحظ، بسهولة، خطورةَ القضيّة بل وهولَ خطورتها المحتَمَلَين، خصوصاً إذا ما تذكّرنا أن نقاربها من زاوية الغفلة عن الغفلة المذكورة أعلاه.
الثّورة الدّيكارتيّة أدّت، إلى حكم نوعٍ من أنواع الذّكاء على غيره من الأنواع. وفي كثير من الأحيان فقد تجلّى هذا الحُكم للعقل التّفكّري (والتّقني) بشكلٍ متطرّفٍ ومتطرّفٍ جدّا: كما حدث في مرحلة الثّورة الفرنسيّة مثلاً، أو في أغلب مراحل الثّورة الصّناعيّة.. أو كما يحدث اليوم ضمن أغلب قفزات الثّورات التّقنيّة، ومنها الثّورة الموعودة للذّكاء الاصطناعي
أين تُصبح الأسئلة الوجوديّة بالنّسبة إلى هذا الفرد-الإنسان ومجتمعه في عالم المصطَنع؟ أين يُصبح الوعي بالوجود في ظلّ تحوّل الواقع نفسه إلى مُصطنع، وتحوّل الحقيقة نفسها – عمليّاً – إلى وهمٍ وسراب؟
لا شكّ في أنّ القضيّة، كما نأمل أن يرى صديقنا القارئ، قد تكون خطيرة وخطيرة جدّاً: ليس فقط من الزّوايا التّقنيّة والعمليّة البحتة، وإنّما أيضاً من الزّوايا الوجوديّة (Ontologique) والمعرفيّة (Epistémologique) والرّوحيّة والعقليّة والأخلاقيّة. ونكرّر في هذا الإطار أنّ المشكلة ليست مع الأداة التّقنيّة في ذاتها، وإنّما مع الإطار الأيديولوجي والقيَمي – بشكل خاص – التي تنمو تلك الأداة وتتضخّم ضمنه.
ولا شكّ أيضاً، كما رأينا، في أنّ ظاهرة المصطَنع والاصطناع من جهة، وظاهرة الغفلة عن الغفلة من جهة أخرى: مرتبطتان إلى حدّ بعيد وعميق. وقد تكون الأولى، واقعاً، وبشكل أو بآخر كما رأينا للتّو: نسخةً أكثر معاصَرةً للثّانية، وأكثر توافقاً مع ظاهرة نموّ العوالم الافتراضية. لا يلزمك الإيمانُ الكلّيّ بنظريّة المصطَنع لكي تقتنع، على الأقلّ، بأنّ لها آثاراً قويّة على عالمنا، وبأنّها تدفعُ أكثر فأكثر نحو قعر بحور الغفلة والغفلة عن الغفلة.
في الخلاصة، لا بدّ من التّذكير مجدّداً بأنّ القضيّة عند بودريلارد أعمقُ بكثير من مسألة الغفلة: إنّنا نتحدّث، كما ذكرنا، عن اصطناع الواقع برمّته.. أو ربّما عن (وهم) اصطناعٍ للوجود حتّى! ولكنّنا نقترح التّقريب بين الفكرتَين (أو الظّاهرتَين إن أردت) بهدف تعميق فهمنا لما تجلبه القفزات التّقنيّة المعاصرة من متغيّرات ومن مخاطر.
عند هذا الحدّ، لا بدّ لنا – بالتّأكيد – من أن نعودَ إلى قضيّة الذّكاء مع تعمّق أكبر هذه المرّة.
من قال إنّ الذّكاء التّفكّري (والتّقني ضمنه) هو “الذّكاء” الوحيد و/أو الأرقى؟
من المقبول ربّما أن ننسب هيمنة الاعتقاد هذا إلى التموّجات الهائلة التي أثارتها وتُثيرها – عبر التّاريخ – كتابات وأفكار: المعلّم الأوّل، شيخ العقلانيّين والمشّائين أجمعين، عَلَم المعلوم وعامود المفهوم، أرسطو طاليس الإغريقي (ت. ٣٢٢ ق.م.). قد يجوز استخدام أعمال أرسطو – وتابعيه الأوّلين منهم والآخرين – كتفسيرٍ أساسيّ لهيمنة الاعتقاد بأنّ العقل المفكّر (أو الMental) هو إمّا العقل كلّه ببساطة، أو على الأقل، أنّه النّوع الأرقى والأهم من العقل.
ومن المقبول أيضاً، ربّما، أن ننسب هيمنة “الذّكاء التّفكّري” الذي يولّده العقل المفكرّ نفسه إلى تموّجات أعمال: الشيخ الألماني النّقدي الأكبر عمانويل كانط (ت. ١٨٠٤ م). وهو، أي كانط، صاحب الثّورة النّقديّة الكبرى في الفلسفة، والتي حاولت تحديد ما يمكن للعقل “المحض” أن يعرفه وما لا يُمكن أن يعرفه، مع إخراجٍ – عمليّاً – للعقل العرفاني (أو للحدس الصّوفي-العرفاني إن جاز التّعبير) من دائرة “المعرفة” المقبولة.
وقد يدّعي البعض أنّ حُكم الذّكاء التّفكّري (والذّكاء التّقني المرتبط به كما رأينا) يعودُ بالأحرى: إلى تألّق الفلسفة الأنجلو-سكسونيّة المتشكّكة[1] أنطولوجيّاً وأبستمولوجيّاً، والمسمّاة عادة بالتّجريبيّة-الأمبريقيّة. وشيخ هذه المدرسة الأكبر، برأيي، هو طبعاً: الفيلسوف الإسكوتلندي دايفيد هيوم (ت. ١٧٧٦ م). لا يمكن إغفال التّأثير العظيم – الظّاهر والباطن، الواعي واللّا-واعي – لهذه المدرسة الفلسفيّة على العلوم الحديثة وعلى الثّورات التّقنيّة عموماً.. وإلى دقيقتنا (لا ساعتنا) هذه.
ولكنّني أميل، تيمّناً بأغلب الفلاسفة الوجوديّين المعاصرين الذين ذكرتهم فيما سبق، إلى اعتبار أنّ السّبب الرّئيس لطغيان الذّكاء التّفكّري هذا (والذّكاء التّقني بطبيعة الحال): هو تألّق نجم شيخ الفلاسفة العقلانيّين الغربيّين الأكبر[2]، وذهب الفلسفة النّهضويّة الفرنسيّة الأصفر، رينيه ديكارت (ت. ١٦٥٠ م).
لم يكنْ ديكارت ذا نزعةٍ مادّيّة بتاتاً، ولكنّه أصرّ – بطرق مختلفة – على وضع عمليّة التّفكّر (بمعنى Reflexion): على عرش الوعي، وعلى عرش “الوجود” حتّى! فقد اعتبر شيخ الدّيكارتيّين أجمعين: أنّ الدّليل الوحيد المتين على أنّي موجود، هو أنّني أفكّر مع وعيي – أيضاً – بأنّني أفكّر. هي فكرة عميقة وجميلة في الوقت عينه، ولكن يُمكن لي أن أقول أيضاً: إنّني أتذوّق القهوة الأميركيّة حاليّاً، وأنا واعٍ تماماً بأنّني أتذوّقها… إذن أنا موجود!
من الواضح عندي أنّ الوعي مسألة أوسع بكثير من مجرّد التّفكّر، وهنا يكمن لبّ ألباب الموضوع: فمن قال لبعض الدّيكارتيّين[3] إنّ التّفكّر هو النّوع الوحيد من الإدراك (Entendement)، وخصوصاً: النّوع الوحيد من الوعي (Conscience)؟ أليس مجرّد مشاهدتي لسماء الصّيف الزّرقاء ـ كما هيَ ـ وعياً؟ ولماذا لا ندّعي بأنّ وعيي التّام بأنّني أشاهدها هو أيضاً دليلٌ على أنّي “موجود”؟
لا شكّ في أنّ ديكارت ـ وتابعيه ـ قد ذهبوا بعيداً في مسألة الCogito هذه، ولو بنسب متفاوتة بينهم: حتّى أدخلونا – عموماً، وفي الحقب الحديثة والمعاصرة بشكل خاص – ضمن دائرة خطر الاضطراب الذّهني (الـCogitation) المحدق والدّائم.. عداك عن إدخالنا في دائرة التّوهّم الأبستمولوجي، ودائرة البؤس الأنطولوجي العظيم! وما أعظم هذا البؤس الذي قد يكون السّبب الرّئيسي – برأيي – وراء فشل الأنظمة الرّأسماليّة الحاليّة في إقناع الفرد-الإنسان بأنّه سعيد حقيقةً: برغم الرّخاء الاقتصادي والتّطور التّكنولوجي الهائلَين نسبيّاً!
لا شكّ عندي في حسن نيّة الفيلسوف العظيم رينيه ديكارت، ولكنّ الثّورة الدّيكارتيّة أدّت، إلى جانب التّقدّم الفلسفي والفكري والعلمي والتّقني الهائل: إلى حكم نوعٍ من أنواع الذّكاء على غيره من الأنواع. وفي كثير من الأحيان فقد تجلّى هذا الحُكم للعقل التّفكّري (والتّقني) بشكلٍ متطرّفٍ ومتطرّفٍ جدّا: كما حدث في مرحلة الثّورة الفرنسيّة مثلاً، أو في أغلب مراحل الثّورة الصّناعيّة.. أو كما يحدث اليوم ضمن أغلب قفزات الثّورات التّقنيّة، ومنها الثّورة الموعودة للذّكاء الاصطناعي.
ويجوز التّساؤل، في كثير من المواضع والمحطّات، لا سيّما فيما يخصّ محطّة الـAI: هل أصبحت ثورة الـCogito الدّيكارتيّة، عمليّاً وفي الأعمّ الأغلب، مجرّد ثورةٍ للـCogitation (أي الافراط المرضي في التفكّر الذّهني)؟ للحديث تتمّة إن شاء الله تعالى.
(*) راجع الجزء الأول بعنوان: الذّكاء الاصطناعي.. حجابٌ إضافيٌّ بيننا وبين الحقيقة؟
[1] أو الشّكوكيّة.
[2] بعد أرسطو إذا ما اعتبرنا أنّ الأخير “غربيٌّ” أيضاً.
[3] طبعاً، لا يمكن تحميل ديكارت نفسه تطرّف بعض تابعيه إلى اليوم، وهذا بحثٌ آخر.