من هنا، يمكننا اعتبار أنّ “الذّكاء” الذي نتحدّث عنه في سياق الموجة الموعودة هو: أوّلاً، من النّوع الذي يندرج ضمن إطار الذّكاء الذّهني (Mental)، أي الذّكاء المرتبط بما سمّيناه في كتاباتٍ سابقة بالعقل المفكّر ـ صانع الأفكار والمفاهيم[1]. وهو أيضاً، أي هذا “الذّكاء” نفسه ـ المتعلّق بهذه الموجة المذكورة أعلاه: من النّوع التّقني (Intelligence Technique).
انطلاقاً من الاعتبارات والتّصنيفات السّابقة، نصل بالتّالي إلى الفكرة الجوهريّة التي ندافعُ عنها في هذا المقال: وهي أنّ موجة الذّكاء الاصطناعي الموعودة قد تكون، على الأرجح، مرحلة إضافيّة من مراحل تجلّي عالم التّقنيّة (Le monde de la technique) بالمعنى الذي يقصده الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدغر (ت. ١٩٧٦ م)، أو كما سمّاه من قبله عالم الاجتماع ـ الألماني أيضاً ـ ماكس فيبر (ت. ١٩٢٠ م). إنّه، وبفهمنا المبنيّ على عمل الباحثَين الكبيرَين المذكورَين، وباختصار: عالمٌ يكاد يكون مهووساً بحلّ المشاكل العمليّة وبالتّقدّم التّقني، إلى حدّ أنّ أغلب الأفراد ضمنه لم يعودوا يدركون أو يعرفون ما الهدف/المقصد/المعنى من هذا التطوّر التّقني الذي يكاد يكون لاـ متناهياً. بل وصلوا ـ أي هؤلاء الأفراد ضمن هذا العالم ـ إلى حدّ أنّهم لم يعودوا يدركون أو يعرفون أنّ عليهم أصلاً أن يسألوا هذا السّؤال حول الهدف/المقصد/المعنى من هذا التطوّر التّقني.
وعلى طريقة هايديغر وتابعيه المباشرين وغير المباشرين، نعتقد بدورنا أنّ هذه الموجة سوف تشكّل بالتّالي تراكماً جديداً وتضخّماً إضافيّاً لظاهرة الغفلة أو النّسيان L’oubli التي يغرق فيها عالمنا ـ التّقني ـ الحديث والمعاصر. أو أنّها ستكون بمثابة قفزة جديدة في قعر الظّاهرة الأخطر منها كما بدأنا بوصفها: وهي ظاهرة أو سمة نسيان النّسيان L’oubli de l’oubli.
عِلمٌ يؤدّي إلى.. غَفلة؟
لماذا؟ لأنّ هذه الموجة، وبرغم أهمّيّتها العمليّة والتّقنيّة القصوى من زاوية التّقدّم المادّي البحت، ستساهم على الأرجح في ترسيخ غلبة الذّكاء الذّهنيـالتّقني، عموماً، على أنواع الذّكاء الأرقى والأكثر تعالياً في نظرنا (بمعنى Transcendance) كالحدس الرّوحي أو الذّكاء الإلهامي أو “المعرفة الوجوديّة العرفانيّة” وما إلى ذلك.. مبعداً البشريّة، أكثر فأكثر، عن الأسئلة الجوهريّة التي يتوجّب على الإنسان طرحها على نفسه.
فمن المهمّ أن يعرف الإنسان كيف يحلّ المشكلة الفلانيّة، أو كيف يُحسّن الانتاجيّة في المجال الفلاني وما إلى ذلك.. ولكنّ الأهم هو أن يحاول معرفة: من هُوَ حقيقةً؟ وما الهدف من حياتِهِ أصلاً؟ وما معنى الحياة على هذه الأرض أو في هذا البُعد؟ والأهم من الأهم هو أن يحاول الاقتراب من الحقائق الكبرى والتي يُعوَّل عليها، وعلى رأسها سؤال هايديغر (المستوحى من أعمال لايبنيز طبعاً): لماذا هناك “شيء” بدلاً من “لا شيء” أصلاً؟ (Pourquoi y a-t-il quelque chose plutôt que rien)
فعلاً، هل أتى عليكَ حينٌ من دهرك سألت فيه نفسك، تفكّراً وتأمّلاً ثمّ تذوّقاً: لماذا هناك وجودٌ بدلاً من العدم؟ أو هل تأمّلت، على غرار شيخ الفلاسفة الوجوديّين الغربيّين الأكبر، صاحب كتاب الوجود والزّمن، مارتن هايديغر (ت. ١٩٧٦ م): في حقيقة أنّه ببساطة هناك.. وجودٌ ـ لا ـ عدم!
الفكرة المركزيّة في هذا المقال واحدة، ولا تحتاج إلى تمييز بين مؤمن وبين ملحد أو ذي تشكّك: إنّ عالَم التّقنيّة (وهو عالم الذّكاء الذّهني ـ المفاهيمي ضمنيّا) الذي نعيش فيه، يُغرق الفرد ـ الإنسان ومجتمَعه، أكثر فأكثر، في غياهب الغفلة أو غياهب الغفلة عن الغفلة (أي فقدان الوعي ـ التّام ـ بأنّنا أصلاً قد نكون في غفلة)
هل سبق أن تأمّلت في الـ هناك أو الـ Il y a أو الـ There is جيّداً: كما هُوَ وبلا أيّ حُكمٍ ذهنيٍّ ومفاهيميٍّ حوله؟ أعتقد بأنّ كلّ من يتأمّل في هذا السّرّ لا بدّ من أن يحسّ بأنّه قد اقترب من الذي يجب أن يقترب منه. ومن المرجّح أن يجتاحه الشّعور الذي خُلقنا لكي نشعر به في نظري: شعور النّشوة الوجوديّة. وقد وصف هذا الشّعورَ الأخيرَ شهابُ الديّن السّهروردي المقتول (ت. ١١٩٩ م)، شيخ الإشراق، في زمانٍ بعيدٍ عن زماننا نسبيّاً:
هيَ خمرةُ الحبِّ القديمِ ومُنتهىْ/ غرضِ النّديمِ.. فنعمَ ذاك الرّاحُ!
بطبيعة الحال ولطبيعة المقال، ننطلق في نقدنا من هايديغر ومن عددٍ من أهمّ تلامذته المباشرين أو غير المباشرين، الظّاهرين منهم والضّمنيّين[2]: كالفيلسوف الوجوديـالكاثوليكي الفرنسي غابرييل مارسيل (ت. ١٩٧٣ م)، أو صديق جيفارا، فيلسوف الحيّ اللّاتيني الباريسي المعاصر الأكبر، جان بول سارتر (ت. ١٩٨٠ م). ولكنّنا نتبنّى فلسفة وجوديّة (ذات بعد صوفيّـعرفانيّ) مؤمنة، على غرار مارسيل، وبخلاف هايديغر وسارتر.
غير أنّ الفكرة المركزيّة في هذا المقال واحدة، ولا تحتاج إلى تمييز بين مؤمن وبين ملحد أو ذي تشكّك: إنّ عالَم التّقنيّة (وهو عالم الذّكاء الذّهني ـ المفاهيمي ضمنيّا) الذي نعيش فيه، يُغرق الفرد ـ الإنسان ومجتمَعه، أكثر فأكثر، في غياهب الغفلة أو غياهب الغفلة عن الغفلة (أي فقدان الوعي ـ التّام ـ بأنّنا أصلاً قد نكون في غفلة).
الغفلة، إذن:
- أوّلاً، عن طرح الأسئلة الأساسيّة والجوهريّة؛
- وثانياً، عن إدراك (أو الوعي بـ) حقيقة وسرّ الوجود (The Mystery of Being).
وما موجة الذّكاء الاصطناعي، كما يتمّ تقديمها إلينا حتّى الآن، إلّا قفزة جديدة ـ قد تكون أكثر قسوةً وخطورةً من سابقاتها ـ في بحر الغفلة عن الغفلة (والعياذ بالله.. أو العياذ “بالوعي الوجودي” عند بعض غير المؤمنين والمتشكّكين). فهي موجة ذكاءٍ ذهنيّ ـ مفاهيميّ بامتياز، ولا يبدو لنا أبداً أنّها تخرج عن إطار الهَوَس التّقني المذكور أعلاه.
هنا، قد يخرج لنا من يدّعي بأنّنا غارقون بدورنا في أسئلة وجوديّةـأنطولوجيّة هي من صنف الميتافيزيق أكثر منه من صنف الواقع الحسّي والمادّي والاجتماعي. فهل نحن أمام ادّعاء صحيح؟ بالطّبع لا، لأنّ الغفلة لا يمكن إلّا وأن تكون ذات آثار وتبعات روحيّة ونفسيّة وصحّيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة (إلخ.). فهل يمكن للغفلة، كما قدّمناها، أن تكونَ مسألة ثانويّة وعابرة؟
علينا، برأيي، أن ننتبه إلى أنّ القضيّة ليست مجرّد قضيّة تساؤلات فلسفيّة “متعالية” كما يحلو تسميتها عند بعض النيوـكانطيين. فالآثار الماديّة والعمليّة قد تكون هائلة وعظيمة:
العلاقة بين الأسئلة الوجوديّة (الأنطولوجيّة).. وبين خدمة القفزات التّكنولوجيّة ـ عمليّاً ـ للظّاهرة الرأسماليّة
إنّنا نوعدُ حاليّاً بثورة تقنيّة جديدة وإضافيّة، ونكادُ لا نجد من يُخبرنا، في مرتبة تتخطّى توصيف التّقدّم العملي ـ التّقني البحت:
(١) من يستفيد من هيمنة ظاهرة الغفلة أو الغفلة عن الغفلة؟ هل هناك من يتقصّد إيغال البشريّة فيهما، أم أنّ الغفلة ظاهرة متعلّقة بطبيعة الغالبيّة القصوى من البشر؟
(٢) هل من يجيب على سؤال: ما الهدف النّهائي من التّطوّر التّقني بنظرنا كبشر؟ هل من يُخبرنا: إلى أين نتّجه في واقع الحال، ولماذا؟ هل نطوّر التّقنيّة لمجرّد تطوير التّقنيّة؟ هل من نهاية، أصلاً، لمسألة حلّ المشاكل في هذا الكون؟ هل الإنسان مجرّد آلة ـ أو “ماهيّة” ـ لحلّ المشاكل (خصوصاً منها التّقنيّة)؟
(٣) ما الذي ستجلبه الثّورة هذه في مجال توزيع الثّروة واتّجاهات العدالة الاجتماعية؟
(٤) ما الهدف وما المعنى من استمرارنا في خدمة التّطوّر التّقني بلا تفكيرٍ جدّي في مقاصده؟ هل هدف التطوّر التّقني، واقعاً، كما يدّعي بعض اليساريّين والإسلاميّين والمسيحيّين ـ الحركيّين (مثالاً لا حصراً): هو المساعدة في عمليّة تسارع التّراكم الرّأسمالي، وتركيز الموارد والثّروات والإنتاج في يد أقليّة من الأفراد؟ هل يخدم التّطوّر التّقني النّاس جميعاً، أم أنّه يخدم الأغنياء بينهم بشكل خاص؟ (إلخ.)
كلّها أسئلة تُبيّن أنّ القضيّة ليست مجرّد قضيّة تساؤلات فلسفيّة مجرّدة وبعيدة عن واقع الحياة اليوميّة للفرد ـ الإنسان. فهناك، ربّما، غاية وراء جعلك تغرق في بحور الغفلة والغفلة عن الغفلة. أو أقلّه: هناك من يستفيد من غرقك في تلك البحور. والمرجّح الأغلب: أنّ المسألة قد تكون خطيرة ليس فقط على المستوَيَين الوجودي والمعرفي كما أسلفنا: وإنّما أيضاً على مستوى كرامتك وصحّتك واستقامتك كإنسان، وعلى مستوى حياتك الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسّياسيّة (وما إلى ذلك).
***
(*) في الجزء الثاني من هذا المقال سوف نكمل محاولة نقدنا لموجة الذّكاء الاصطناعي الموعودة (من بعض زوايا الفلسفة والعلوم الاجتماعيّة، لا من الزّاوية التّقنيّة البحتة والتي لا نلمّ بأغلب مضامينها طبعاً)، مع الاستعانة ببعض جوانب أعمال عددٍ من الفلاسفة والمفكّرين الاجتماعيّين المعاصرين، لا سيّما منهم: جان بودريلارد (ت. ٢٠٠٧ م؛ وهو أحد الفلاسفة الكبار لمدرسة ما بعد الحداثة)؛ ومارتن هايديغر كما سبق وذكرنا، بالإضافة إلى غابرييل مارسيل وجان بول سارتر.. دون أن نَغفل عن تقديم بعض الاسهامات ـ أو مقترحات الاسهامات ـ حيث أمكن.
[1] الوهميّة منها وغير الصّحيحة أيضاً، وبطبيعة الحال. راجع مقالاتنا وكتاباتنا السّابقة حول “المفهوم” عند الفيلسوف الألماني الأكبر عمانويل كانط، وحول نجل المفهوم الكانطي هذا، ألا وهو “النّموذج-المثالي / أو المُثُلي” عند عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر.
[2] إذ أنّ شيخ الوجوديّين الغربيّين الأكبر: من جهة، يعتنق وجوديّة تميل إلى الإلحاد؛ ومن جهة ثانية، فهو قد ناصر زعيم النّازيّين الأكبر، أدولف هتلر، خلال الحرب العالميّة الثّانية، مّما أوقع عدداً من مريديه في ورطة حقيقيّة وفي حرج عظيم، خصوصاً بعد انتهاء الحرب. ولهذين السّببَين، ولهذا السّبب الأخير خصوصاً: فقد مشى الكثيرون في درب فلسفة هايديغر لكن بشكل ضمني أو باطني.