4 آب 2020 .. القَتَلة في حراسة القتلى!

في أيّار/مايو الماضي، دعتني صديقتي إلى بلدة "مشمش" الجُبَيْليّة. في مدخل البلدة الوديعة، تنتصب صورة عملاقة لشابٍ وسيم. سرعان ما تتعرّف إليه. إنّه "جو نون". ذاك المغوار الذي حاول، مع رفاقه العشرة في الدفاع المدني، إطفاء الحريق الذي شبّ في العنبر 12 في مرفأ بيروت. دقائق قليلة، وأطفأ انفجار مروّع حياة "جو" ورفاقه. أشحتُ بنظري عن الصورة حزناً و.. خجلاً.

ليس أصعب عندي من الكتابة عن ذكرى 4 آب/أغسطس. عن انفجار مرفأ بيروت. عن السطو على التحقيق في تلك الجريمة. عن القرار المعلن جهاراً بمنع محاسبة أيّ مسؤولٍ عن ذاك الانفجار. صغيراً كان أو كبيراً. وممنوع، أيضاً، تحميل أيّ مسؤوليّة لأيّ شخصٍ له علاقة أو صلة بالانفجار. من قريبٍ أو بعيد. يا إلهي، ماذا عساي أكتب؟ سألتُ نفسي وأنا أركن سيّارتي في “ذاك المكان”. ومن ثمّ أسير نحو الخربة.

يمكن للإنسان أن يعود إلى المرفأ بانطباعاتٍ وبصور. لكن ليس باستنتاجات. صور، وثّقتها الذاكرة للتاريخ: صورة الممرّضة باميلا زينون وهي تحمل التوأم الثلاثي حديثي الولادة لتهرب بهم من دمار “مستشفى الروم”؛ صورة ذاك الشاب ذي القميص البنّي المرقّط وهو يحمل صبيّة تغمر وجهها الجراح ويسير بها وسط الركام؛ صورة ذاك الرجل السبعيني وهو يتّكئ مغمض العينيْن على بقايا حائطٍ قبالة أطلال صوامع القمح؛ صورة رجال الإطفاء الثلاثة وهم يكابدون لفتح باب الجحيم الحديدي للعنبر 12؛ والصورة الأخيرة لفريق الدفاع المدني/فوج الإطفاء (بينهم جو نون) وهم يبتسمون للكاميرا، وكأنّهم يُودِعونها حكاياهم التي لم يُسعفهم العمر لكي يقصّوها علينا. عشرات.. مئات.. آلاف الصور التي حفظت لنا الذكرى. ذكراهم. الذكريات. فبقيت شاهدةً على جريمة العصر. تعالوا نستعيد ما حدث في ذاك اليوم!

تمرين لتنشيط الذاكرة

لم يُفتَح تحقيقٌ لمعرفة سبب انفجار مرفأ بيروت. بل، لتحديد المسؤولين عن تخزين أطنان نيترات الأمونيوم التي يُفترَض أنّها كانت السبب في الانفجار. وبعد ساعاتٍ قليلة على وقوعه، تعهّد المسؤولون اللبنانيّون بالتحقيق بشكلٍ حاسمٍ وسريع في أسباب الانفجار. لقد رصدوا خمسة أيّام، فقط، لإجلاء الحقيقة. استعرض 30 خبيراً في الأمم المتّحدة، وعلى رؤوس الأشهاد، المعايير الدوليّة لحقوق الإنسان. أي تلك التي يجب أن يعتمدها المحقّقون لإجراء “التحقيق الموعود” في الانفجار. وأشاروا إلى ضرورة “حماية التحقيق من أيّ تأثير غير ضروري”. و”منْح الضحايا وأقاربهم إمكانيّة الوصول الفعّال إلى التحقيق”. و”منح التحقيق ولاية قويّة وواسعة النطاق للتحقيق بفعاليّة في أيّ إخفاقاتٍ منهجيّة ارتكبتها السلطات اللبنانيّة”. ماذا حصل بعدئذٍ؟

قالوا إنّ عيوباً إجرائيّة ومنهجيّة في التحقيق المحلّي، أدّت إلى جعله عاجزاً عن تحقيق العدالة بشكلٍ موثوق. وفي رأس قائمة هذه العيوب، عدمُ استقلال القضاء. والحصاناتُ التي رُفِعَت، بوجه المحقّقين، لحماية الوزراء والنوّاب وغيرهم من كبار المسؤولين. وعدم احترام معايير المحاكمات العادلة. إضافةً إلى انتهاك الإجراءات القانونيّة الواجبة. حتّى أنّ السلطات اللبنانيّة فصلت القاضي الأوّل المعيَّن للتحقيق (فادي صوّان)، بعدما استدعى شخصيّات سياسيّة للاستجواب. ومنذ ذلك الحين، رفضوا طلبات قاضي التحقيق الثاني (طارق البيطار) برفع الحصانة عن النوّاب واستجواب كبار أعضاء قوّات الأمن في ما يتعلّق بالجريمة.

لا تتّسع هذه السطور، بالطبع، لسرد ألاعيب وحوش العصر عندنا. ولا لرواية حلقات مسلسل التحقيق في انفجار المرفأ، والذي تابعنا تفاصيل عرقلته بقرفٍ شديد على شاشات التلفزة. “عرقلة وقحة وبلا أدنى خجل”، كما وصفتها منظّمة العفو الدوليّة في اتّهامها للسلطات اللبنانيّة بعرقلة العدالة وتعطيلها. ولا نعرف أيّ توصيف ستعطيه المنظّمة المذكورة، للموهبة الخارقة التي خصّ بها الله أولئك الذين قتلونا في 4 آب/أغسطس. موهبة، تعلّمك المحافظة على الهدوء والاطمئنان والسكينة والصفاء وأنتَ في عزّ الصخب والجلبة.

بعد تلك الكارثة، أنّ قضيّة المرفأ قد انتهت. لكنّ أحداً لم يشكّ في أنّ الانفجار نفسه، كقضيّة وكأهالي ضحايا تربط بينهم تلك القضيّة، لم ينتهِ. والفرق عظيم يا أصدقاء، بين “الانفجار” و”القضيّة”. بين “انفجار” اهتزّت له الدولة. و”قضيّة” أُوكِل إلى بعض أطراف هذه الدولة أمرُ تصفيتها

ولكن، مَن فجّر بيروت؟

بهِمّة القَتَلة الذين يحكموننا، لن يُعرَف الجواب عن هذا السؤال أبداً! وستبقى الجريمة مسجَّلة ضدّ مجهول (عندما تبحثون اليوم على محرّك غوغل عن “إنفجار مرفأ بيروت”، ستجدون أنّ سببه هو “حريق”. أمّا المشتبه به في التسبّب بالانفجار فهو “مجهول”). لكن ما نعرفه، هو أنّ العديد من كبار قادة لبنان كانوا يعرفون بالموت الآتي إلينا من البحر. فهُم أُبلِغوا بالمخاطر التي تُشكّلها نيترات الأمونيوم في العنبر 12. لكنّهم لم يتّخذوا أيّ إجراءٍ لحماية الناس. فالإعلام، كشف وثائق رسميّة مُسرَّبة تُظهِر أنّ سلطات الجمارك والجيش والأمن والقضاء حذّرت الحكومات المتعاقبة منذ 2013 من وجود المخزون القاتل (حذّرتهم أكثر من عشر مرّات)! وتوضح المراسلات الرسميّة (التي كُشِفَ النقاب عنها)، أنّ مسؤولي المرفأ والجمارك والجيش تجاهلوا، بدورهم، خطواتٍ كان من الممكن أن يتّخذوها لتفادي الكارثة. كما تشير الأدلّة، بقوّة، إلى أنّ بعض المسؤولين الحكوميّين توقّعوا الوفيّات التي يمكن أن يؤدّي إليها وجود نيترات الأمونيوم في المرفأ. غير أنّهم تقبّلوا (ضمنيّاً) مخاطر حدوث هذه الوفيّات. وبموجب القانون المحلّي، يمكن أن يرقى هذا الفعل إلى جريمة القتل قصداً و/أو القتل بغير قصد. وقد يرقى إلى مستوى انتهاك الحقّ في الحياة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. فمنظّمة “هيومن رايتس ووتش” قد راسلت 43 مسؤولاً حكوميّاً لبنانيّاً وستّة أحزاب سياسيّة، بشأن الدور الذي لعبوه، هم ومؤسّساتهم، في انفجار 4 آب/أغسطس. وراسلت، كذلك الأمر، ثماني شركات ومكتبَيْ محاماة لطلب معلوماتٍ عن عملهم وعن الباخرة “روسوس” وحمولتها (أي النيترات). وأجرت “هيومن رايتس ووتش” المقابلات مع مسؤولين حكوميّين وأمنيّين وقضائيّين لبنانيّين. وراجعت عشرات التقارير الإعلاميّة المحليّة والدوليّة المتّصلة بالانفجار. وماذا بعد؟

إقرأ على موقع 180  الضّربة الإيرانيّة و"العرض الإعلاميّ".. سلاحٌ من أسلحةِ الحرب!

في الأشهر التي تلت انفجار المرفأ، اتّخذت المأساة أحجاماً خرافيّة في لبنان. بقدر ما جرى التقليل من شأنها من قِبَل الطغمة الحاكمة واعتبارها حادثة تقنيّة عرضيّة، ليس إلاّ. لكنّ الأخطر من ذلك، أنّه ورغم توافد مجموعات تحقيق أجنبيّة إلى ميدان الكارثة (أميركيّة وفرنسيّة وألمانيّة بخاصّة) لم تخرج التحقيقات الرسميّة، بما فيها اللبنانيّة، بما يرجّح فرضيّة الاعتداء الخارجي (الإسرائيلي ضمناً). فبمواكبة كمٍّ هائل من السيناريوهات المتضاربة حول سبب الانفجار، خرجت تصريحاتٌ علنيّة عديدة تؤكّد فرضيّة وقوف إسرائيل وراء التفجير (تصريحات للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ولديبلوماسي بريطاني، ولكاتب إسرائيلي، وآخر فرنسي). هذا عدا عشرات الإفادات التي أدلى بها شهود عيان، تجزم بأنّهم سمعوا قبل الانفجار هدير طائراتٍ حربيّة في الأجواء (أعلن الجيش يومها عن تسجيل عددٍ من الخروقات الجويّة لطيران العدوّ). لكنّ أحداً من مسؤولي لبنان لم يرجّح فرضيّة الضربة الإسرائيليّة لمرفأ بيروت. ولم يوجّه إصبع اتّهام، ولو صغيراً، إلى إسرائيل. أَوَليس غريباً هذا التحفّظ؟ بلى. والأغرب منه، أنّ حزب الله نفسه، والذي لطالما حمّل إسرائيل المسؤوليّة عن كلّ شاردة وواردة، أحجم عن تحميلها المسؤوليّة هذه المرّة. ولم يُلمِح أيّ طرفٍ من “الممانعجيّين” إلى هذا الاحتمال. ومَن تسرّع منهم في إلصاق التهمة بالعدوّ، لم يكرّر هذا الاتهام. لماذا؟ الله أعلم.

كلمة أخيرة. في 4 آب/أغسطس 2020، كاد الناس لا يعرفون ما إذا كان ضحايا الانفجار قد قُتِلوا أو أُعدِموا. وهل هم الذين ماتوا، أم هو لبنان الذي يحاولون مرّة أخرى اغتياله بل افتراسه؟ ظنّ الناس، بعد تلك الكارثة، أنّ قضيّة المرفأ قد انتهت. لكنّ أحداً لم يشكّ في أنّ الانفجار نفسه، كقضيّة وكأهالي ضحايا تربط بينهم تلك القضيّة، لم ينتهِ. والفرق عظيم يا أصدقاء، بين “الانفجار” و”القضيّة”. بين “انفجار” اهتزّت له الدولة. و”قضيّة” أُوكِل إلى بعض أطراف هذه الدولة أمرُ تصفيتها. إقتضى التمييز.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مفاوضات الحدود البحرية: "غموض بنّاء" و"مياه هائجة"!