“نهاية معاهدة لوزان”.. وهمُ العوام والأنتلجنسيا

لا يقتصر الإدعاء الواهم حول "نهاية معاهدة لوزان" على عوام الناس فقط، بل يتعداها ليصبح منطلقاً فكرياً لأصحاب الشأن المهم كذلك. يقول الإدعاء الواهم إن المعاهدة الموقعة في 24 تموز/يوليو 1923 في مدينة لوزان السويسرية، والتي دخلت حيز التنفيذ في 6 آب/أغسطس عام 1924، ستنتهي بعد مرور مئة عام بالضبط، و"سيتم الإفراج عن بنودها السريّة".

تنصّ “معاهدة لوزان” التي أرست قيام الجمهورية التركية واستقلالها، على الاعتراف ببعض أقلياتها الدينية، كما تنظيم شؤونها السياسية والمالية، وأخيراً التخلي عن حقوق البحث عن الموارد الطبيعية في البلاد العربية التي كانت جزءاً من السلطنة العثمانية. أما “النظرية المؤامرتية” فتقول إن المعاهدة ستنتهي بعد قرن من الزمن وسيصبح بإمكان تركيا استعادة الجرز “التي سلبتها اليونان منها”، كما البحث والتنقيب عن النفط في أراضيها.

يؤمن عددٌ كبيرٌ من الأتراك والعرب وغيرهم بهذه المؤامرة، ويستشرسون في الدفاع عنها. فقد أشارت دراسة أجريت في العام 2023 إلى أن نصف الأتراك يؤمنون بأن المعاهدة ستُلغى وسيتم الإفراج عن بنودها السريّة. فيما كانت الصدمة في موافقة 43% من الذين يملكون شهادة جامعية على هذا الإدعاء.

لا القانون الدولي يُلغي المعاهدات عند مرور 100 سنة، ولا أحد سوف يُلغي استقلال تركيا

لا يقتصر الأمر على العوام فقط، ولا على أصحاب الشهادات، إنما يصل إلى “المحللين الإستراتيجيين”. فغالباً ما تتوقف كتب هؤلاء، وبينهم إعلاميون وسياسيون، عند مثل هذا الإدعاء، أو يذكرونه كحقيقة مطلقة عند الإطلالة على الشاشات المتلفزة. “الجميع يحب المؤامرات” على ما قاله الكاتب الأميركي دان براون يوماً، وحتى “العلماء منهم”.

سيخيب أمل هؤلاء كثيراً عندما يكتشفون في 6 آب/أغسطس 2023 أن كل ما آمنوا به لا حقيقة تسنده. فلا القانون الدولي يُلغي المعاهدات عند مرور 100 سنة، ولا أحد سوف يُلغي استقلال تركيا. أما السماح لهذه الأخيرة بالبحث عن النفط واستخراجه على أراضيها فهو قائم فعلاً، وتقوم تركيا حالياً باستخراج النفط من 9 حقول منتشرة على أراضيها وفي بحرها، لكنها لا تنتج إلا القليل من المردود، فيما تشتري البلاد أغلب حاجاتها من النفط والغاز من روسيا وإيران والعراق ودول القوقاز.

أما مصدر هذه المؤامرة فيمكن إيجاده في أعمال مفكرين أتراك، كما في البحث في ظروف نشأة معاهدة لوزان وظروف تركيا في تلك الفترة. الرجل الأول هو الكاتب التركي المعادي للسامية “جواد أتيلهان” الذي سكن في ولاية دمشق لفترة مع والده حاكمها العثماني رفعت باشا. في مقالات “أتيلهان” المنشورة في الصحف التركية في عشرينيات القرن الماضي إضاءة على أن “معاهدة لوزان هي من تدبير الوكالات اليهودية” وأن الهدف منها “إضعاف بلاد التُرك”.

وفي كتابه “سوزي ليبرمان: جاسوسة يهودية” (1935)، يعيد “أتيلهان” تكرار هذه الادعاءات، ويخلص إلى “حقيقة” تقول بأن وطنية الأتراك وعظمة تاريخ البلاد لا تقبل بالتخلي عن أراضي تركيا التاريخية، وبالتالي هناك بنود سريّة سيتم الكشف عنها بعد مرور مئة عام “تعيد المجد القديم إلى صوابه”.

أما الرجل الثاني فهو الشاعر الإسلامي “نجيب كيساكوريك” الذي راح، في الثلاثينيات الماضية، يكتب في مقالاته وأشعاره أن مضمون “معاهدة لوزان” من تدبير مستشار البعثة التركية إلى مدينة لوزان “حاييم ناحوم” اليهودي الأصل، وأن بنوداً سريّة في المعاهدة قد سُربت إليه، وسيتم بعد مئة عام “إعادة الخليفة إلى إسطنبول التي ستُوحِّد المسلمين”.

الذكرى السنوية المئة على إبرام المعاهدة في 6 آب/أغسطس ستتشهد إقامة احتفالية في العاصمة أنقرة يُشارك فيها حُكّام البلد وعموم الناس، ثم يعود الجميع إلى منازلهم من دون أن يتغيّر شيء مهم في واقع بلادهم!

على الرغم من محاربة مصطفى كمال “أتاتورك” لهذه الأفكار التي تُشكّك في المعاهدة، وبالتالي في حكمه وجمهوريته، انتشرت أفكار “أتيلهان” و”كيساكوريك” بين عموم الشعب التركي. دفع الأول ثمن أفكاره باعتقاله لسنوات طويلة، فيما كان مصير الثاني إغلاق مجلاته ومصادرة كتبه ولجوءه إلى باريس لسنوات طويلة خوفاً على حياته، إلا أن القمع “الأتاتوركي” لم ينفع في وقف انتشار “الأفكار المؤامرتية”، إلى أن تحوّلت المؤامرة مع الوقت من “نظرية تؤمن بها الانتلجنسيا إلى حقيقة يؤمن بها الناس”، حسب الأكاديمي التركي “غوخان تشيتينسايا”.

في المقابل، يؤمن بعض الأكاديميين الأتراك، ولا سيما من ينتمي منهم إلى المدرسة الواقعية، بأن الظروف التي حكمت التوصّل إلى “معاهدة لوزان” كانت كفيلة بظهور التباس كبير حولها. فصحيح أن المعاهدة أتت على أنقاض “معاهدة سيفر” المذلة للأتراك، إلا أن مضمونها لم يأتِ حسبما تمنوه. الصدمة العميقة التي أحدثتها “معاهدة لوزان” لعموم الأتراك، وخسارتهم للكثير من الأراضي التي كانت لهم سابقاً، أدت إلى ظهور تبرير أخذ شكل المؤامرة التي، في نهاية المطاف، تعبّر عن رفض للمعاهدة.

تزدهر المؤامرات الخيالية غير المسندة إلى الحقيقة في تركيا تماماً كما تزدهر في كل مكان من العالم. إلا أن مؤامرة “إلغاء معاهدة لوزان والكشف عن بنودها السرية” سرعان ما سيتم دحضها، إذ أن الذكرى السنوية المئة على إبرام المعاهدة في 6 آب/أغسطس ستتشهد إقامة احتفالية في العاصمة أنقرة يُشارك فيها حُكّام البلد وعموم الناس، ثم يعود الجميع إلى منازلهم من دون أن يتغيّر شيء مهم في واقع بلادهم!

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  روسيا وتركيا وآيا صوفيا.. الدين وأشياء أخرى
تركيا ـ جو حمورة

كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  أردوغان ينتشر في إدلب.. فيختفي الجولاني