كواليس اغتيال القرشيّ: استثمار تركي.. ورد أميركي!

تفصل بين حادثتي إغتيال زعيم تنظيم "داعش" السابق أبو بكر البغدادي وزعيم التنظيم الحالي أبو إبراهيم القرشي، سنتان وثلاثة أشهر فقط زمناً، وحوالي 24 كيلومتراً مسافة على أرض الشمال السوري نفسها، غير أن تداعيات وظروف كل حادثة منهما تبدو مختلفة عن الأخرى.

السيناريو يتكرر. مقتل زعيم تنظيم “داعش” بإنزال جوي أميركي. مكان الحادثة بالقرب من الحدود التركية وضمن منطقة نفوذ “هيئة تحرير الشام”. لا تبعد بلدة أطمة التي قتل فيها القرشيّ، أمس (الخميس) سوى 24 كيلومتراً عن بلدة باريشا التي شهدت مقتل البغدادي في خريف عام 2019.

عندما قتل البغدادي كان “داعش” في أضعف حالاته بعد ما خسر كل الجغرافيا التي كان يسيطر عليها واصبح مشرداً فوق رمال الصحاري والبوادي على الضفتين السورية والعراقية يبحث عن ملاذ يأوي إليه ليضمد جراحه ويلملم فلوله في محاولة للبقاء على قيد الحياة.

مقتل القرشيّ جاء في ظرف مختلف. “داعش” يستعيد عافيته وقوته ويراكم الانجازات من أفريقيا وصولاً إلى سوريا والعراق. لذلك إذا كان مقتل البغدادي يعدّ بمثابة تخلص من عبء بات يجثم على صدر التنظيم، فإن مقتل القرشي يمكن اعتباره بمثابة قطع الرأس المخطط لتجديد دماء التنظيم وإعادة بثّ الحياة في مفاصله.

وقد تُرك أبو ابراهيم القرشي طوال مدة خلافته المزعومة يمارس هوايته في استنزاف الجيش السوري وحلفائه وسط “شماتة وتفاخر” أميركيين بأن منطقة شرق الفرات تشهد انحسار التنظيم على خلاف منطقة البادية التي كانت خلايا “داعش” تستغل طبيعتها الوعرة لتسديد ضربات موجعة إلى الجيش السوري والقوات الروسية والايرانية. ولسبب أو لآخر كان تنظيم “داعش” قد أوقف بالفعل عملياته في منطقة سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) طوال ثلاثة اشهر امتدت من سبتمبر/ايلول إلى مطلع ديسمبر/كانون أول الماضي، فيما كان يصعد هجماته ضد الجيش السوري والقوات الحليفة.

مقتل القرشيّ جاء في ظرف مختلف. “داعش” يستعيد عافيته وقوته ويراكم الانجازات من أفريقيا وصولاً إلى سوريا والعراق. لذلك إذا كان مقتل البغدادي يعدّ بمثابة تخلص من عبء بات يجثم على صدر التنظيم، فإن مقتل القرشي يمكن اعتباره بمثابة قطع الرأس المخطط لتجديد دماء التنظيم وإعادة بثّ الحياة في مفاصله

في شهر حزيران/يونيو عام 2021 سقط قاسم غوللر المعروف بلقب أبي اسامة التركي ويشغل منصب والي تركيا في “داعش” في قبضة قوات الأمن التركية، وبعدها بأيام قليلة اعتقلت قوات سورية مقربة من تركيا أبو عبد الرحمن السقا والي “داعش” في سوريا، لتكرّ سبحة الاعتقالات نتيجة اعترافات القياديين المعتقلين وتشمل ما يقارب 61 شخصاً بينهم 56 سورياً من قادة “داعش” وكوادره.

قد يكون قرار “داعش” بوقف نشاطه ضد “قوات سوريا الديموقراطية” بمثابة رسالة اعتراض موجهة إلى السلطات التركية مفادها أن اعتقال قياداته من قبل قوات الأمن التركية سيؤدي إلى رفع ضغوط التنظيم العسكرية عن العدو اللدود لأنقرة ممثلاً بالقوات الكردية التي تعتبر العمود الفقري لـ”قوات سوريا الديموقراطية”، وهو ما يفسر جمود نشاط التنظيم في مناطق سيطرة “قسد” طوال شهور ثلاثة.

على خلاف قاسم غوللر الذي احتفلت أنقرة بالقبض عليه، لم يتم الإعلان عن اعتقال السقّا، لكن معلومات كثيرة تسربت بخصوص الاعتقال الذي كان يشبه في الواقع الإقامة الجبرية، وهمس بعض نشطاء المعارضة السورية ببعض الأسرار حول مفاوضات يجريها ضباط استخبارات أتراك مع والي “داعش” المعتقل للوصول إلى أرضية مشتركة للعمل في سوريا.

وفجأة، أنهى “داعش” إضرابه عن استهداف القوات الكردية، بل بدأ موجة متصاعدة من النشاط في منطقة شرق الفرات وصلت إلى أوجها في 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي مع تنفيذه هجوماً نوعياً في مدينة البصيرة بدير الزور، الأمر الذي اضطر القوات الأميركية لتنفيذ إنزال جوي في المدينة لصد الهجوم وإنهائه. كان ذلك الهجوم ايذاناً بأمرين اثنين:

الأول؛ أن “داعش” عاد للنشاط ضد قوات “قسد”، وهو ما اعتبره نشطاء سوريون إشارة إلى نجاح المفاوضات بين ضباط الاستخبارات الأتراك وقيادة “داعش” في سوريا.

الثاني؛ أن “داعش” انتقل من استراتيجية “الاستنزاف” إلى استراتيجة “سيطرة الظل” التي تقترب خطوة من استراتيجية “التمكين” ولكن من دون تحمل تكاليفها وأعبائها.

هل يشير اغتيال القرشي إلى تراجع أنقرة عن الاستثمار في “داعش” بهدف التقارب مع واشنطن خصوصاً في ظل تصاعد أزمة أوكرانيا بين روسيا والغرب بما يمكن اعتبارها نافذة لعودة أنقرة إلى حلف الناتو كعضو فعال ومنضبط، أم أن الإغتيال يشي بإمكان تصاعد الخلاف الأميركي التركي في سوريا؟

وعكست تصريحات بعض المسؤولين الأميركيين مدى انزعاج واشنطن من عودة نشاط التنظيم في مناطق تواجدها، ولا سيما أن هذه العودة تزامنت مع ضغوط أخرى تعرضت لها القوات الأميركية مع مرور الذكرى الثانية لاغتيال قائد القائد العسكري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، حيث كانت قواعدها في سوريا تحت مرمى الصواريخ والطائرات المسيرة، ما اضطرها إلى تنفيذ إعادة انتشار واسعة بهدف تجنب وقوع خسائر في قواتها.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": العراق "صديقٌ" أم "حليفٌ" لأميركا؟

وتجرّأ “داعش” ونفّذ “غزوة سجن الصناعة” التي وضعت القوات الأميركية في مرمى الانتقادات نتيجة عجزها عن اكتشاف الهجوم قبل وقوعه، برغم حيازتها على معلومات كانت ترجح حدوثه، وكذلك نتيجة عدم قدرتها على التصدي للهجوم قبل أن يحقق “داعش” أهدافاً نوعية منه تمثلت في تهريب العشرات من قادته وكوادره، وفق ما أعلنت صحيفة “النبأ” التي تصدر عن ديوان الإعلام المركزي لدى تنظيم “داعش”.

ومما له دلالته أن “قوات سوريا الديموقراطية” التي وزعت الاتهامات يميناً وشمالاً في ساعات الهجوم الأولى، استقرت بعد ذلك على اتهام السلطات التركية في تسهيل هجوم “داعش” على السجن الذي يحوي العدد الأكبر من قيادات “داعش” على مستوى العالم. وتحدث إعلام القوات الكردية الرسمي عن سيناريو انطلاق المهاجمين من مناطق سيطرة تركيا في راس العين وتل أبيض باتجاه السجن.

ونظراً للمعطيات السابقة حول تفاوض الاستخبارات التركية مع قيادة “داعش” لإعادة تفعيل نشاط التنظيم في سوريا، تصبح الاتهامات الكردية لتركيا ليس اتهاماً سياسياً، بل اقرب إلى تشخيص الواقع الذي يؤكد وجود تواطؤ تركي في تنشيط التنظيم وتمكينه من تفعيل عملياته النوعية الأخيرة. كما من المستبعد أن تكون واشنطن بعيدة عن التوجه الكردي في التصويب نحو أنقرة واتهامها بمساعدة “داعش” في تنفيذ هجوم سجن الصناعة.

وبعد انتهاء “غزوة السجن” التي ما يزال الغموض يلف الكثير من ملابساتها ونتائجها، استأنفت انقرة عملية “نسر الشتاء” لاستهداف قيادات القوات الكردية عبر طائرات تركية مسيرة. وقد اعتبر مراقبون أكراد ذلك بمثابة دليل جديد على تورط أنقرة في دعم تنظيم “داعش” من خلال العمل على استكمال تحقيق الأهداف التي لم يستطع تحقيقها عبر “غزوة السجن”.

مربط الفرس في ذلك أن قيام واشنطن باغتيال أبي بكر البغدادي تزامن في حينه مع قيام أنقرة بتنفيذ عملية “نبع السلام” التي احتلت بموجبها أراض كانت تسيطر عليها حليفتها “قوات سوريا الديموقراطية”. واليوم يتزامن اغتيال القرشي مع قيام أنقرة بتنفيذ عملية “نسر الشتاء”.

وعليه بقدر ما كان اغتيال القرشي صفعة موجهة لتنظيم “داعش” بهدف رد الصاع صاعين على تجرؤه على استهداف مناطق النفوذ الأميركي، بقدر ما كان أيضاً رسالة موجهة إلى تركيا وإن بشكل مبطن. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يشير اغتيال أبو إبراهيم القرشي إلى تراجع أنقرة عن الاستثمار في “داعش” بهدف التقارب مع واشنطن خصوصاً في ظل تصاعد أزمة أوكرانيا بين روسيا والغرب بما يمكن اعتبارها نافذة لعودة أنقرة إلى حلف الناتو كعضو فعال ومنضبط، أم أن اغتيال القرشي يشي بإمكان تصاعد الخلاف الأميركي ـ التركي في الملف السوري؟.

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله سليمان علي

كاتب وصحافي سوري، وباحث في شؤون الجماعات الإسلامية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  حقان فيدان.. "رجل تركيا الأخطر"