تدرك واشنطن وطهران جيدا ألا شيء الآن يمكن أن يعيد اتفاقية فيينا 2015 إلى الحياة، وذلك بعد أن أطلقت الحرب الروسية على أوكرانيا رصاصة أدخلتها في غيبوبة دائمة، لذا فإن ما يحدث هو القليل الذي يمكن أن يُبقي سقف التصعيد عند حد مفيد للطرفين، لا سيما إذا مُنحَ الطرفان مكاسب ظرفية بحجم إطلاق سراح سجناء في حالة أميركا، وتحرير أموال محتجزة في حالة إيران، أما بالنسبة للمنطقة فالتأثير محدود، إلا إذا كان التقييم مستندًا إلى معيار المصالح الخاصة بالدول التي ستنعكس عليها الصفقة، كالعراق على سبيل المثال، الذي سيتحرر من الضغط والضغط المضاد المتعلق بالأموال الإيرانية المحتجزة لديه. أما قطر فهي تدخل مساحة الوساطات الناجحة مجددا من بوابة كبيرة بحجم الملف النووي الإيراني، وهو ما يثبتها كشريكة موثوقة بين أميركا وإيران إلى جانب سلطنة عُمان التي استمرت لسنوات أكثر الوسطاء اعتمادا بين الطرفين.
صفقة الدوحة التي طال التباحث حولها لعامين على الأقل، كما نقلت “سي إن إن” الأميركية، والتي أكد وزير الخارجية الإيراني حسين أميرعبد اللهيان أنها تمت في شهر آذار/مارس الماضي قبل أن تنفي ذلك الولايات المتحدة الأميركية، شكلت نموذجا جديدا من التواصل الأميركي الإيراني في مرحلة ما بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خروج بلاده من الإتفاق في العام 2018.
في الشكل، هذا أول تواصل بين فريق الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وإدارة الرئيس جو بايدن، أي بين الحكومة التي يتهمها الغرب بأنها مقربة من القائد الأعلى علي خامنئي والحرس الثوري وبين واشنطن، بعدما اعتاد العالم على كون التسويات أو الصفقات بين أميركا وإيران تحصل دائما في ظل الحكومات الإصلاحية أو المقربة من الإصلاحيين.
في المضمون، تطوي الصفقة صفحة السجناء الأميركيين من أصول إيرانية في السجون الإيرانية، والأموال الإيرانية المجمدة في غير بلد يتمتع بعلاقات مع واشنطن، والأهم أنها تعطي مؤشرا بأن معادلة النووي خرجت من المساحة الصفرية السابقة. هنا يمكن الترجيح بأن واشنطن وطهران بدأتا فعليا بتجربة المساحة الرمادية للعلاقة بينهما، حيث أن اللا إتفاق النووي لا يعني بالضرورة عدم اللجوء إلى محادثات غير مباشرة حول ملفات جانبية.
ربما تفتح هذه الكوة (الصفقة) الباب أمام محادثات مباشرة قد تمهد لاحقا لبناء اتفاق جديد، لأن غير ذلك سيكون مضيعة للوقت والجهد. وليس بالضرورة البدء من الصفر، فاتفاق فيينا يمكن أن يشكل مرجعية للاتفاق الجديد بما فيه من أمور جرى التوصل إليها سابقا. إلا أن التطورات والزمن لا يسمحان بعد اليوم بالعودة حرفيا إلى الاتفاق السابق
ستسمح المليارات المفرج عنها لطهران بضخ بعض الحياة مجددا في اقتصادها المنهك بآثار العقوبات المتواصلة، إلى جانب تأثره بغياب سياسة اقتصادية ناجعة منذ سنوات. مجموع الأموال المحولة سيكون على الشكل التالي، نحو 6 مليارات من كوريا الجنوبية ستحول إلى المصارف القطرية و12 مليار من العراق إلى المصارف العمانية، إضافة إلى 5 مليارات في اليابان من المفترض أن تكون ضمن الصفقة أيضا، وتقول مصادر “جاده إيران” إنها قد تحول إلى الإمارات، ما يجعل المجموع يوازي 23 مليار دولار أميركي. لكن هذه الأموال ستبقى في حسابات إيرانية خارج البلاد تستفيد منها في شراء بضائع غير خاضعة للعقوبات، بما في ذلك مواد طبية وإنسانية. هذا يشبه تماما ما حصل عندما أفرجت طهران في آذار/مارس عام 2022 عن البريطانيين من أصول إيرانية نزانين زاغري راتكليف وأنوشه أشوري مقابل نصف مليار دولار محتجزة في بريطانيا منذ نهاية عهد الشاه محمد رضا بهلوي.
هذا الأسلوب في الإفراج عن الأموال ليس محبباً لدى طهران، فهي لا تحصل على أموالها بشكل مباشر، وإن كانت تختزنه في حسابات مصرفية تابعة لها في مصارف الدول المحوّلة إليها، لكنه في ظل الظروف الحالية والعقوبات الأميركية المستمرة، الحل الوحيد الذي يمكن من خلاله أن تتصرف إيران بمداخليها الخارجية، ولعله يتحول إلى فرصة لبناء استثمارات مالية في الدول الجارة، بينما تستمر في تطوير برنامجها النووي ضمن سقف لا يتخطى الخطوط الحمر للمجتمع الدولي.
الفائدة الأخرى المرجوة من الصفقة تجميد التوتر عند حده أو حتى احتواءه لتمر بسلام جلسة مجلس الأمن السنوية المخصصة في تشرين الأول/أكتوبر القادم لمناقشة قرار 2231 الذي تبنى اتفاق فيينا النووي عام 2015، حيث تطمح طهران أن تمر الجلسة من دون طرح مسألة اعادة العقوبات الأممية التي سبقت الاتفاق النووي والتي لا تخضع لحق النقض الذي يمكن لروسيا أو الصين استخدامه في مجلس الأمن.
إذا هي صفقة الضرورة بالنسبة للطرفين الرئيسيين، وخطوة خفض توتر في إطار ثنائي كما قال مصدر أوروبي رفيع لـ”جاده إيران”، ربما تسمح على حد قوله بتجربة وسائل جديدة مع صعوبة إحياء الاتفاق النووي في هذه الفترة ولا سيما أن واشنطن بدأت تستعد للدخول في عام الإنتخابات الرئاسية.
ومن يدري؟ ربما تفتح هذه الكوة الباب أمام محادثات مباشرة قد تمهد لاحقا لبناء اتفاق جديد، لأن غير ذلك سيكون مضيعة للوقت والجهد. وليس بالضرورة البدء من الصفر، فاتفاق فيينا يمكن أن يشكل مرجعية للاتفاق الجديد بما فيه من أمور جرى التوصل إليها سابقا. إلا أن التطورات والزمن لا يسمحان بعد اليوم بالعودة حرفيا إلى الاتفاق السابق، فالكثير من بنوده إما اقتربت من حدها الزمني الموضوع سابقا، أو فقدت واقعيتها بحكم التطور الذي طرأ على برنامج إيران النووي، ولا يمكن، هنا، تجاهل حقيقة أن عالم ما بعد الحرب في أوكرانيا لم يعد هو الذي كان قبلها.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“