الحقيقة أن الإستحقاق الرئاسي ليس إلا إتفاقًا على تقاسم “الجبنة”.. والجبنة المتبقية القابلة للتقاسم ستكون عائدات النفط والغاز عندما ستُعلِن شركة “توتال” عن نتائج الإستكشاف.
لذا فإن الإستحقاق الرئاسي لا يتعلق بشخص الرئيس بل بسلة متكاملة للحكم بدءًا من رئاسة الجمهورية، إلى الحكومة إلى حاكمية المصرف المركزي إلى وزارة الطاقة إلى الهيئة الناظمة وإلى عائدات النفط والغاز.
في العهد الماضي، عَلِمَ جميع المسؤولين أن الإنهيار آتٍ وأن الاستقرار المالي يعيش أيامه الأخيرة. فمنذ الهندسات المالية أدركوا أنه لا بد من خديعة مزدوجة يستمر بها النظام، أولًا للمانحين وكانت الآمال على مؤتمر “سيدر”، وثانيًا للمودعين بتطمينهم بعبارات مثل الليرة بخير وأن الوضع ممسوك ورياض سلامة أفضل حاكم لمصرف مركزي عرفه العالم.
انطلت الخديعة على المودعين عبر الفوائد العالية والتطمينات بقوة القطاع المصرفي، لكنها لم تنطلِ على المانحين. ونذكر تمامًا أن مؤتمر “سيدر” إنتهى فعليًا بمجرد أخذ الصورة التذكارية للرئيس إيمانويل ماكرون والرئيس سعد الحريري وجان إيف لو دريان، ولم تأتِ أموال “سيدر” لأن الحكومة اللبنانية لم تكن قادرة على الالتزام بأية إصلاحات كانت من شروط الجهات المانحة ولم تكن راغبة بإجرائها على أي حال، والجهات المانحة كانت تعرف بذلك ولم تكن تنتظر صراحة النائب سليم سعاده.
من المعروف أن الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز تأتي بالحروب والويلات على دول العالم الثالث التي تملك هذه الثروات. ولا شك أن القانون الدولي وسيادة الدول وحق الشعوب بتقرير المصير، هي شعارات تُمارسها الدولة ذات المنحى النيو-استعماري لتبرر سطوتها على الموارد الطبيعية لهذه دول.
فأي مُدقّق بإقتصاد دول أفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية، سيُلاحظ أن عملتها الوطنية هي الأسوأ، ولا ثقة بمصارفها وأنظمتها تكون عادةً هشة والفساد فيها مستشرٍ. وهي تنطبق كلها على لبنان لا سيما منذ الإنهيار الكبير المُدبّر.
جان إيف لو دريان “الرجل الأبيض” الذي يعرف سياسيي لبنان منذ مؤتمر “سيدر”، لن يُسمي رئيسًا ولا يهمه إذا كان الرئيس خريجًا جامعيًا أم لا، عسكريًا أم لا، إقتصاديًا أم لا، فهذه مواصفات تصلح لسيرة ذاتية لمركز وظيفي، وليس لمنصب رئاسي
وهذه الآفات في الدول النامية الغنية بالموارد هي ما تتّكل عليه القوى النيو-استعمارية، لأنها تُحكم سيطرتها على حُكّام هذه الدول وتفرض عليهم ما تريد سواء بالترهيب أو الترغيب.
عائدات النفط والغاز هذه، هي “الجبنة” التي ستُطيل عمر النظام اللبناني الطائفي المُتحاصص. عليها تُبنى الخرافات وأشهرها: “إعادة أموال المودعين”، وعليها تتكل المنظومة لشراء الأصوات، وإغداق الوعود للمحسوبين والأزلام، بالتوظيف والإستفادة من الأعمال والوظائف الهائلة الموعودة. فكما وعد الرئيس سعد الحريري بتسعمائة ألف وظيفة جديدة، هكذا تعِد أحزاب السلطة اليوم أزلامها بالنعيم الآتي.
إنما، وكما في أغلب دول العالم الثالث الغنية بالموارد والموبوءة بالفساد، لم تأتِ عائدات النفط والغاز بالرخاء والوفرة للشعب، فبدل الخوف من أن يحُل بلبنان “المرض الهولندي” (Dutch Disease) بمجرد قبض عائدات النفط والغاز، ستتم سرقتها على الأرجح أو هدرها على المؤكد، تمامًا كما حصل مع تدفقات الأموال التي دخلت لبنان سواء من مؤتمرات باريس، أو تحويلات المغتربين أو الأموال التي جرى تهريبها من دول الجوار إلى النظام المصرفي اللبناني. الحقيقة أن هذه العائدات – وإن لم تصل إلى أكثر من 5% من ثمن النفط والغاز- ستعود للمنظومة فقط.
لا يشك أحد أن سياسيي لبنان يُعانون من “عقدة الرجل الأبيض”، أي قناعتهم أن خلاصهم وحل مشاكلهم لن يأتي سوى على يد الأجنبي؛ فالحياة السياسية الآن متوقفة على انتظار “عودة جان إيف لو دريان” وكأنه المُنقذ وحامل العصا السحرية.
وجان إيف لو دريان “الرجل الأبيض” الذي يعرف سياسيي لبنان منذ مؤتمر “سيدر”، لن يُسمي رئيسًا ولا يهمه إذا كان الرئيس خريجًا جامعيًا أم لا، عسكريًا أم لا، إقتصاديًا أم لا، فهذه مواصفات تصلح لسيرة ذاتية لمركز وظيفي، وليس لمنصب رئاسي.
إن ما يهم الغرب هما أمران فقط:
الأمر الأول هو استقرار سياسي ومجتمعي يضمن استمرار استخراج وتصدير الغاز والنفط، بمعنى ألا يكون لبنان محكومًا مثلًا من مسؤولين قد يتراءى لهم تأميم الموارد الطبيعية لخير شعوبهم؛ فـ”الرجل الأبيض” لا يريد أن يُعيد تكرار إنقلاب عام 1953 في إيران عندما تراءى لمحمد مصدق أن يستعيد السيطرة على موارد بلاده من خلال تأميمها.
المطلوب إذاً أن تكون السلطة الحاكمة تستجيب لشركات التنقيب وتعمل على تخدير الشعب ببضعة إصلاحات أساسية مثل تحسين الطرقات وتأمين الكهرباء والانترنت والقمح. وهنا يُفهم أيضًا لماذا جلّ ما سيعطينا إياه صندوق النقد الدولي هو مبلغ ثلاثة أو أربعة مليارات دولار أميركي تكفي لهذه الإصلاحات، بينما كان لدى مصرف لبنان المركزي احتياطي يفوق عشرة أضعاف هذا المبلغ وتم تبديده دون أي اصلاح.
والأمر الثاني هو الاستقرار الأمني للبنان وإسرائيل معًا، لأنهما أصبحا المُصدّرين الجُدد للغاز إلى أوروبا. وهذا الاستقرار الأمني قد يحصل على مراحل، سواء “على البارد” مثل التنازل عن حدود لبنان البحرية (الترسيم) وإن تم تصويره كإنجاز، أو “على الساخن” مثل ترسيم الحدود البرية. فهذا الترسيم يحتاج إلى تسخين ثم إلى تبريدٍ وحل، أي إلى سيناريو مُشابه لحرب العام 1973!
أمام هذا الواقع، لا يتوهمنَّ أحدٌ أن الاستحقاق في لبنان هو “رئاسي” أو أن أيًا من المعسكرين الوهميين (8 و14) له القدرة على التأثير بالاستحقاق. ولا يتوهمنَّ أحدٌ أيضًا أن الوضع الإقليمي ذو تأثير على لبنان، أو أن لأحد المرشحين حظوظًا أكثر من الثاني.
الإستحقاق إذاً ليس إلا لتقاسم جبنة عائدات النفط والغاز وفق الشرطين المذكورين أعلاه اللذين يهُمان الغرب. فقبل أن يعرف المتقاسمون حجم الجبنة هذه، لن يتمكنوا من المطالبة بحصصهم بموجبها ليعرفوا كيف يخرّجون الاستحقاق الرئاسي والسلة المتبقية من المناصب.
فهل يشك أحد أن منصبي وزير الطاقة وهيئة إدارة هيئة قطاع النفط والغاز هما أهم من رئاسة الجمهورية والحكومة مجتمعين؟
من هنا تُفهم المطالبة الحثيثة بصناديق ستُدير هذه العائدات وباللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، فليس “البلوك 9” هو الأول أو الأخير، وسيأتي دور “البلوك 4” وغيره. ومن قال إن اللامركزية الإدارية والمالية لا تشمل البحر؟ لربما من هذه الخلفية جاءت عبارة “الموسعة”، لكي يجتهدوا في تفسيرها لتطبيقها لاحقًا على البحر والبر.
من يهتم لرئاسة جمهورية تدوم لست سنوات خالية من الإنجازات، بينما يمكنه الحصول على حصة تدوم لسنين وتدر الملايين وتبقيه زعيمًا يُحافظ على طائفته إلى حين؟
فاللامركزية المالية دونها عقبات في التطبيق. فهل ستُطبق على مستوى كل بلدة أو على مستوى القضاء أو المحافظة؟ هل من قضاءٍ أو محافظة صافية ومن لونٍ واحد؟ وهل يريد أي زعيم أن يفرض على ناخبيه وجمهوره أن يدفعوا الضرائب كاملةً؟
الأسهل إذاً تطبيقها على “الجبنة” وليس على الرسوم البلدية والضرائب.
لذا فمن يتمتع من هذه المنظومة ببُعد النظر أكثر من غيره، يعمل على تكبير حجم قطعته قبل أن تصغر حجم كتلته ويصبح مضطرًا أن يقبل بما يُقسم له بدلًا مما يمكنه أن يحصل عليه الآن.
من يهتم لرئاسة جمهورية تدوم لست سنوات خالية من الإنجازات، بينما يمكنه الحصول على حصة تدوم لسنين وتدر الملايين وتبقيه زعيمًا يُحافظ على طائفته إلى حين؟
من هنا، يجب إنتظار عودة جان إيف لو دريان كما يقول زياد الرحباني: “وأيمتى جايي الحكيم؟”؛ وانتظار الاتفاق الإيراني السعودي المكتمل؛ وانتظار الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب؛ وانتظار عودة السياح والمغتربين بحملة “وأهلا بهالعين الكحلا”؛ والأهم من كل ذلك إنتظار نتائج الحفر الإستكشافي.
فالإنتظار هو جُلّ ما يتقنه اللبنانيون وليس المحاسبة الحقيقية وحُسن الإختيار.