التمجيد الانتصاري والشماتة الردحية أو التبرير.. والتبرير المضاد!

يتنابذ إعلاميون/ ناشطون/ أحزاب، وأكاد أقول كل الناس بوصف ما حدث لطرفي الصراع (حزب الله وإسرائيل) بعد وقف اطلاق النار: إنتصار أم هزيمة، الأمر الذي يُستعاد معه الإطلاق السائد في أحكامنا، فما معنى الإنتصار أو الهزيمة؛ الربح أو الخسارة في السياسة واستتباعاً في الحرب، سواء أكانت امتداداً لها حسب كلاوزفيتز أو العكس، حسب فوكو؟

لا بد من التذكير ببديهيات: الأولى؛ أنّ النصر أو الهزيمة لقوى تتصارع. الثانية؛ أنّ الصراع يجري في حقل، وهو حقل سياسي. الثالثة؛ أن النصر أو الهزيمة يترواح بين حدين: حد إنهاء الخصم وحدّ إيلامه. الرابعة؛ أنّ الهدنة، أي هدنة، مشروع تسوية قد يتحول إلى تسوية وقد لا يتحول، والتسوية، أي تسوية، مؤقتة تتحكم بها موازين قوى مرجحة للتغيرالمستمر، سلباً أم ايجاباً، لطرفي الصراع.

والحقل السياسي المتعارف عليه والمسلم به هو الدولة، كإطار لصراع قد يكون عسكرياً أو سياسياً بين قوى ضمنها أو بين بعضها والسلطة، سواء أكانت وطنية أو مُستعمِرِة، وقد يكون بين دولة ودولة أخرى. فالدولة هي الأساس في الشكلين: الصراع بين مكوناته الداخلية أو الصراع مع دولة أخرى.

والحقل السياسي يتجاوز الطرفين المتصارعين لوجود قوى تُعبّر عن فئات مجتمعية في الحقل يتفاوت انخراطها فيه بين الرفض والتأييد، سواء أكانت قوى داخلية ضمن الحقل الداخلي أو دول أخرى بين دولتين.

وقد كان حقل الصراع الفلسطيني إستثناء، وبخاصة بعد اغتصاب جزء من أرض فلسطين في العام 1948، فهو حقل رجراج، لا هو حقل داخلي ولا هو بين حقلين؛ إذ انطلق الفلسطينيون من حقول أخرى، أذوا وتأذّوا ولم يتمكن العدو من حسم الصراع لصالحه الإ عندما حوّل الصراع مع حقل سياسي آخر (لبنان)، وكان الفلسطينيون فاعلين فيه، كما لم يتمكن الفلسطينيون من إستعادة دورهم الاّ عندما عادوا إلى الصراع في داخل حقلهم (الإنتفاضة الأولى وما تلاها).

وقد يكون هذا التوصيف للحقل جامدا أو مضى عليه الزمن، فقد أصبحت حقول الصراع مفتوحة على الخارج، دولاً وقوى، سياسية وعسكرية واقتصادية، لكن ذلك لم يلغِ الدولة كحقل صراع، وإن أضعفها.

والصراع الذي أٌوقف إطلاق النار هو حقل سياسي رجراج، فلا هو حقل داخلي بين قوى لبنانية ولا هو صراع الحقل، بقواه، مع حقل آخر، فهو حقل يشمل بعض الحقل اللبناني مع بعض الحقل الفلسطيني، حاول دعاته إفتراض حقل له هو “وحدة الساحات” ( إيران، العراق، سوريا، اليمن، لبنان وفلسطين) وكان افتراض دعوي ودعائي أكثر منه سياسي، وكان الحقل المضاد حقلاً واحداً بسلطة واحدة ومؤسسات واحدة وجيش واحد.

والنصر أو الهزيمة، كما ذُكر آنفاً، بين حدين: إنهاء الخصم أو إيلامه، ويُقاس تبعاً للهدف المعلن أولاً، ولوقعه المباشر وغير المباشر ثانياً. وسنرى ذلك في المثل الذي كُتِب التحليل على وقعه: الحرب بين حزب الله واسرائيل.

ففي الهدف المعلن، أعلن حزب الله مساندة غزة هدفاً وأعلنت اسرائيل العودة الآمنة لمستوطني شمالها إلى مستوطناتهم هدفاً. وقد تعدل الهدف في مجرى الصراع، فأصبح عند حزب الله الدفاع عن لبنان إضافة إلى مساندة غزة، وفي هذا إنزياح عن الهدف الأول يحمل مسحة تراجعية، وأضافت اسرائيل هدفين آخرين: إنهاء حزب الله وتغيير خريطة الشرق الأوسط، وفي الإضافة هذه تكبير للهدف المعلن.

إذا كان المعروف إقدام إسرائيل على إجراء مراجعة لحروبها، فإنّ مراجعة حزب الله لتجربته ضرورية، وأُقدّر أنه راجع تجربته في حرب 2006، وإن لم تُعلن، واستفاد منها كثيراً. وقد تكون مساهمة غير الحزبيين في المراجعة تُغني العمل السياسي، بعامة، وتجربة الحزب، بخاصة، وذلك خارج منطق التبرير والتبرير المضاد: التمجيد الانتصاري والشماتة الردحية

وفي وقع الحرب، لم ينهِ أيٌ من الطرفين خصمه، لكن وقعها تفاوت بينهما:

ففي تحقيق الهدف، تراجع حزب الله عن هدفه واستنجد بالقوى اللبنانية، وعلى رأسها مؤسسة الدولة، وقد ثبت ذلك في الهدنة المعلنة وحتى في خطابات “النصر”، فقد رجع إلى لبنانيته في الدفاع وفي الوعد بالموافقة على إحياء مؤسسات الدولة وبالإيجابية تجاه المكونات المجتمعية والسياسية، وفي هذا نصر لبناني، وإن حمل التراجع عن استهدافه. بدورها، بالغت إسرائيل في إضافة أهداف أخرى بدت فيها “منتصرة”، لكن الهدنة قد تكون حقّقت الهدف المعلن، لكنها لم تحقق الهدفين المضافين، وإن كان من المبكر الحكم عليهما في انتظار مرور الـ 60 يوماً.

وفي وقع الحرب على طرفي الصراع، كلاهما تضرر، بشرياً وعسكرياً وإقتصادياً، إلا أنّ تضرر حزب الله أكثر بما لا يقاس من تضرر إسرائيل؛ إن بمقاتليه أو بقدراته العسكرية أو ببيئته البشرية والإقتصادية، ويُضاعف ذلك إنفتاح قنوات تعويض الخسائر لإسرائيل، وبخاصة منها الأميركية، وشبه انغلاقها عربياً بوجه الحزب ما عدا الدعم الإيراني البديهي للحزب وجمهوره.

وبهذا يُمكن القول إن قول الفريقين بالنصر كإنهاء للخصم وتفاوت نسب النصر في نتائجها، لا يمنع من القول إن كلا الطرفين منتصر ومهزوم، والعبرة في المقبل من الأيام وفي مراجعة هذه التجربة. وإذا كان المعروف إقدام إسرائيل على إجراء مراجعة لحروبها، وحينها يُبدى الرأي، فإنّ مراجعة حزب الله لتجربته ضرورية، وأُقدّر أنه راجع تجربته في حرب 2006، وإن لم تُعلن، واستفاد منها كثيراً. وقد تكون مساهمة غير الحزبيين في المراجعة تُغني العمل السياسي، بعامة، وتجربة الحزب، بخاصة، وذلك خارج منطق التبرير والتبرير المضاد: التمجيد الانتصاري والشماتة الردحية.

إقرأ على موقع 180  تقنية "فايزر" للقاح كورونا: مصنع بروتينات في جسم الإنسان

ومن موقع القناعة العميقة الجذور بخطر إسرائيل المتجاوز لفلسطين وعنصريتها ومن خلال التقدير لنضال الفلسطينيين التاريخي والراهن في مواجهة مشاريع إسرائيل ولنضال كل من تصدى لها، عربياً وعالمياً، وأحد أبرز هؤلاء هو حزب الله، يُمكن التمعن بمآله والقول:

  1. إنّ مواجهة المشاريع الإسرائيلية والصهيونية وكل المشاريع المُهدّدة للإنسان وهويته ومصالحه بالقتل والإبادة والاستغلال، على أنواعه، تتطلب بناء قوى ووضع مشاريع لذلك في حقل محددٍ، فلا يكفي الخطاب الأيديولوجي، وإن كان بعضه ضرورياً لشحذ الهمم.
  2. إنّ حقل الصراع بين اسرائيل وحزب الله حقل رجراج وغير متوازن؛ فالحقل الإسرائيلي تحكمه سلطة واحدة وقانون واحد ومؤسسات فاعلة يحكم إشتغاله قانون واحد تتباين قواه تحت سقفه. بالمقابل، فإن حقل حزب الله يتأرجح بين حقلين: بعض حقل واقعي هو لبنان متفلت حضور الدولة فيه، وبعض التفلت منه بغياب الإجماع على سياساته وسلاحه، لا بل التناقض حوله، وحقل متوهم هو حقل الأمة غير المتجسد بدولة، ولم يلبِ شعار “وحدة الساحات” شروط توفر وحدة الحقل وفعاليته.
  3. إنّ طرفي الصراع متباينان بأدواتهما ووسائلهما، فإسرائيل دولة وحربها حرب جيوش وحزب لله حزب يُفترض أن تكون حربه حرب عصابات، برغم أنه لجأ إلى أسلوب حرب الدولة (الجيوش)، التي ثبُتَ أن اللجوء إليها كان مختلفاً عن أسلوب حرب العصابات الأكثر جدوى.
  4. إنّ ميزان القوى يُحسب لحظوياً، ويُبنى باستراتيجيات تُوصل إلى اللحظة، ومع أهمية ما يشي في اللحظة الراهنة لبناء استراتيجي تاريخي، فلا يُعوّل عليه في لحظة احتدام الصراع، وحدود التعويل هو الحد من الخسائر.
  5. لم تفلح “وحدة الساحات” في دعم حماس ولا حزب الله لأنها ساحات ولكل منها حساباته ومصالحه في ساحته وارتباطاته الحامية لهذه المصالح.
  6. لم تفلح سلطة حماس في غزة ولا اعتماد حزب الله الأساليب الكلاسيكية في الحرب في الحؤول دون تدمير واسع في غزة وفي بيئة حزب الله. إنّ حرب العصابات في غزة وصمود المقاتلين في الجنوب اللبناني هو الذي أبقى على حماس وأعاد حضور حزب الله، وهذا طبيعي بالنظر إلى طبيعة التنظيمين الشعبية وغير الدولتية.
  7. لا تستطيع قوةٌ أو حزبٌ أو طائفةٌ القيام وحدها بأعباء مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين، والأمر أعقد وأصعب إذا كانت القوة خارجها ولا خيار لها إلا العمل العنفي، وخيارها السليم العمل الديموقراطي لبناء سلطة وطنية في ساحتها تنسق للمواجهة، مع ساحات أخرى بنيت السلطة فيها وفق المعيار نفسه.
Print Friendly, PDF & Email
فارس اشتي

أستاذ جامعي متقاعد، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الأجدر بنا أن نحكم على سجل بايدن.. لا ترامب!