“البامياء”.. رمزاً وطنياً!

لاحظ سياسي سويدي، كان التقى عدداً من العراقيين اللاجئين إلى السويد، هرباً من نظام صدام حسين، أنّهم يختلفون في كلّ شيء تقريباً: السياسة والدين، المجتمع والدولة، أنماط العيش، والموقف من الغرب والإقليم إلخ وانّ ذلك الاختلاف يتجسد خلافاً وأحياناً قطيعة في التوجهات والمواقف، ولكنَّ؛

يتفق هؤلاء اللاجئون في أمرٍ واحدٍ تقريباً وهو وجود “البامياء” على موائدهم جميعاً، إلى درجة أنَّ السياسي السويدي اقترح وضع صورة أو رسم “البامياء” على علم الدولة العراقية، على ما قال عالم الإجتماع العراقي فالح عبد الجبار[1]. فهل يفعل العراق ذلك؟ وهل ينسحب الأمر على “الملوخية” بالنسبة للمصريين، و”القات” بالنسبة لليمنيين، و”الكسكس” بالنسبة للتوانسة؟ وأما السوريين فيختلفون في تفضيل ألوان الطعام، كما يختلفون في كل شيء تقريباً!

إذا فعل العراقيون أو غيرهم ذلك، كل حسب وجبته المفضلة، فلن يكونوا أول من جعل من النبات رمزاً وطنياً له. ثمَّة مجتمعات ودول أخرى تضع رموزاً نباتية على أعلامها الوطنية وعملتها النقدية: “شجرة الأرز” في لبنان، وورقة “القيقب الأحمر” في العلم الوطني لكندا، ونبات “الأقحوان” في الشعار الوطني لليابان، وفروع وأوراق شجرة “البلوط” مع “الجوز” في الوسام الوطني لبلغاريا، ونبات الغار في شعارات دول مثل الأرجنتين واليونان والسلفادور إلخ..

لكنَّ المسألة بالنسبة للعراق، وهذا ينسحب على سوريا وليبيا واليمن وتونس ولبنان وغيرها من المجتمعات والبلدان العربيّة، تتعدى المشترك في أنماط الغذاء إلى مشتركات أخرى كثيرة في أنماط القيم، وأنماط العيش، والفضاء الحضاري والتاريخيّ؛ لكنَّها تحت إجهاد كبير، وفي حالة مواجهة مستمرة منذ عدة سنوات أو عدة عقود، لدرجة صار من الصعب الحديث عن فكرة مجتمع وأفق مجتمع، وخاصَّة في لحظات النزاع والحرب.

ويواجه السوريون والعراقيون والليبيون والسودانيون وقائع وتسميات وألوان وخرائط وأعلاماً لا تبرر نفسها، بما هم سوريون أو عراقيون أو ليبيون أو سودانيون، وإنما بما هم مجال صراع وموت، جماعات ومِلَل ونِحَل وقبائل وطوائف وعصائب وميليشيات إلخ.. تتنازع في ما بينها، كما تتنازع مع فكرة مجتمع ودولة. مجتمعات وشعوب مستباحة، من الداخل والخارج، تراجيدية دائمة تتابع فصولاً ولا أفق أمامها سوى العنف والموت، وبالطبع الهجرة واللجوء لمن استطاع إليها سبيلاً.

مجتمعات ودول تحتفظ بأسماء واعتراف “بحكم العادة” و”قوة العطالة” و”القانون الدولي” و”سنن التدافع” بين الأمم، بل لعل بقاء الدولة في عدد من الحالات المذكورة، لا يعود لعوامل القوة الداخليّة أو الذاتية، بقدر ما يعود لتأثير التوازنات والتجاذبات الإقليمية والعالمية، كما لو أنَّ الدولة العربيّة نشأت بقرار دولي، قبل أكثر من مئة عام، ولا تنتهي إلا بقرار دولي!

هل يستطيع “قرن البامياء” أو “شجرة الأرز” أو “القات” أو “الملوخية” وحتى “التوت الشامي”، في حال توافق السوريون على عده رمزاً مشتركاً.. أن يفعل ما لم تستطعه قرون عديدة من التاريخ المشترك، وكلّ المشتركات الأخرى، في الثقافة والجغرافيا والحضارة، بين شعوب المنطقة، وداخل كل منها؟

عودة إلى “البامياء”، وهي جديرة بأن تكون رمزاً وطنياً، وربما قومياً ومشرقياً، يتناولها (ويحبها) العرب والترك والفرس والكرد، المسلمون والمسيحيون واللادينيون، ومختلف المذاهب والطوائف والقبائل والجماعات والأفراد. وتجدها على موائد مختلف الشرائح الاجتماعية والطبقية، وفي المدن والأرياف، داخل أسوار المدن وخارجها، في القصور وفي أحزمة البؤس ومدن الصفيح.

يقول ثرباتنس: “لم أجد حباً أصدق من حب الطعام”، فهل يؤدي التقاء الناس على حب شيء ـ حتى لو كان بامياء ـ إلى توافق على أنهم يحبون أو يفضّلون أمراً ما، أو أنهم لا يختلفون في كل شيء، وبالتالي النظر إلى ما يحبون، من طعام أو شراب أو غيره، بوصفه “نقطة التقاء” على مستوى وطن؟

الواقع أن التفكير في “البامياء” أو أي أمر مشابه، فيه نوع من المفارقة البلاغية والرمزية، وخاصة بالنسبة لأصحاب المقولات والسرديات الكبرى، الذين يفكرون في أوضاع المنطقة انطلاقاً من مرجعيات فكرية وتاريخية ذات طابع إمبراطوري، دينياً أو قومياً، فهل يعقل ـ من هذا المنظور ـ أن نفكر في نبات أو شراب رمزاً لأوطان ومجتمعات ودول، تاركين البطولات والمعارك والملاحم التاريخية؟

إننا أمام ظواهر أو وقائع مخيالية وعاطفية وقيمية مختلفة، تتمركز حول القبيلة أو الطائفة أو المنطقة أو العرق أو العصبة أو الجماعة الخ.. وليس المجتمع بالمعنى الحديث أو الوطن والدولة، وهذه القيم المختلفة تدفع الأطراف للتنازع والصراع، تنازع ومصارع عشاق ومحبين لأنفسهم وأناهم وما يخصهم، كارهين لما يمثل تهديداً وربما مجرد اختلاف، فتكون السلطة هي الغنيمة والوطن هو الضحية!

والآن، هل يستطيع “قرن البامياء” أو “شجرة الأرز” أو “القات” أو “الملوخية” وحتى “التوت الشامي”، في حال توافق السوريون على عده رمزاً مشتركاً.. أن يفعل ما لم تستطعه قرون عديدة من التاريخ المشترك، وكلّ المشتركات الأخرى، في الثقافة والجغرافيا والحضارة، بين شعوب المنطقة، وداخل كل منها؟

صحيح أنَّ طعم البامياء جيد، ومثلها “التوت الشامي”، إلا أنَّ المهمَّة الملقاة على عاتقه تبدو ثقيلة بعض الشيء!

إقرأ على موقع 180  روسيا وسورية: الفروق الدقيقة في علاقات الحلفاء

([1]) فالح عبد الجبار، “بناء أو تفكك العراق في إطار نظريات سوسيولوجيا القوميّات والأمم”، محاضرة في نادي الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، (17 اذار/مارس 2017): https://www.youtube.com/watch?v=4MpyU0Vra ــ w

-انظر أيضاً إلى كتاب: رفعت الجادرجي، حوار في بنيوية الفن والعمارة، (بيروت: دار الريس للكتب والنشر، 1995).

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "فاغنر"... من حماية منشآت النفط السورية إلى "استثمارها"؟