أردوغان يُفجّر الشارع.. أيُّ نموذجٍ سيحكم تركيا مستقبلًا؟

القادة الإستراتيجيون يُدركون عادة أهميّة تقدير اللحظة المناسبة، لأنّ التسرع أو الإبطاء بالنقلة المطلوبة قد تكلّف صاحبها أثمانًا باهظة، بل أكثر من ذلك، قد تتحوّل تلك الخطوة من فرصةٍ للتقدم والإرتقاء إلى محطةٍ مفصلية للتقهقر؛ الأمرُ عائدٌ لاختيار لحظة الإقدام، حتى تكون صائبة ودقيقة.. وإلاّ كانت النتيجة معاكسة.

لا شكّ بأنّ خطوة حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان، ضدّ رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو، تُعتبر خطوة مصيريّة؛ هناك ما يُشبه الإنقلاب العسكري، بل يؤسّس له ويشرعنه. الإنقلاب العسكري واضح شكلًا ومضمونًا: ضباطٌ وجنود يستعملون سطوة السلاح والقوّة في وجه القوى المدنية السياسيّة من أجل السيطرة على السلطة. أمّا ما يجري اليوم في تركيا، فهو انقلاب من السلطة الحاكمة المستندة إلى شرعيّة شعبية على قوى المعارضة لقمعها ومنعها من تهديد استمرارية الحكم القائم.. مستقبلًا!

ليس من الحكمة الدخول في متاهة الإتهامات التي ساقها القضاء التركي ضدّ رئيس بلدية إسطنبول، فالتقييم يحتاج إلى سلطة محايدة يبدو أنّ تركيا باتت تفتقدها وتحديدًا منذ محاولة الإنقلاب الفاشلة عام 2016؛ محطةٌ شكّلت مناسبة لتطهير إدارات الدولة من معارضي حزب العدالة والتنمية، من المنتمين وغير المنتمين إلى تنظيم فتح الله غولن، فالإتهام قد يكون موضوعيًا وقد لا يكون، لكنّ محاكمة الشكل والمضمون في بعدها السياسي تبقى متاحة وممكنة.

كان بإمكان السلطة الحاكمة أن تظهر بعضًا من أدلّتها “الدامغة” ضد الشخص والذي “للمصادفة” هزم أردوغان في ثلاث جولات انتخابية متتالية (إنتخابات إسطنبول)، والمرشح الرئاسي المتفوق على أردوغان بحسب استطلاعات الرأي التي نشرتها مؤسسة Area للأبحاث في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2024، وأن تستدعي شخصيّة بحجم رئيس بلدية إسطنبول للإمتثال بشكلٍ محترم أمام القضاء، وفي حال تمنعه، كان بمقدورها تجييش الرأي العام ضده من خلال الإعلام الذي يسيطر على غالبيته حزب العدالة والتنمية (راجع النص أدناه). لكن السؤال ـ “السر” الذي يُطرح بإلحاح: ما هي اللحظة التي جعلت أردوغان يُقدم على هكذا قرار مصيري منذ الآن، بما سيكون له من تبعات تُحدّد مستقبل تركيا في المرحلة المقبلة؟

تحديّات أردوغان المستحقة

من يُتابع الحراك السياسي داخل تركيا، يستشعر حيويّة متجددة في الحياة السياسية في البلاد، وبخاصة في العقدين الماضيين؛ حيويّةٌ تلامس حدود هواجس الإنزلاق نحو هاوية الصراع، لكنّها في كلّ مرّة تعود لترسو في سلام بفضل صناديق الإقتراع. هذه الحيويّة السياسيّة مدينةٌ لحزب العدالة والتنميّة الذي ساهم بنقل تركيا من عالم الإنقلابات العسكرية إلى عالم الإنتخابات، ومن هنا تظهر المفاجأة، أنّ الحزب الذي صارع الإنقلابات وعانى رئيسه من سطوة السلطة التي سجنته عام 1999 بسبب بروزه كشخصيّة قادرة على تهديد النظام الأتاتوركي السابق، عندما كان رئيسًا لبلدية اسطنبول، عاد ليُمارس ضدّ خصومه الأساليب نفسها التي إستُخدمت ضده.

وباستثناء الوهج الكبير الذي نالته القيادة التركية مع سقوط النظام السوري السابق والاتيان بنظام جديد ساهم الأتراك في تدريبه وتحضيره، ثمة تحديات مصيريّة أمام الحلف الحاكم بقيادة أردوغان:

أولاً؛ الملف الإقتصادي: تتفاقم الأزمة الإقتصادية برغم كلّ محاولات الإنعاش التي أدارها وزير المالية المخضرم محمد شيمشك، في سعيٍ منه لوقف التضخم والتدهور في الأزمة الإقتصادية الذي زاده إعتقال أكرم إمام أوغلو قتامة وسوءًا، وجعل شعبية الحزب الحاكم أكثر تراجعًا.

ثانياً؛ الملف السوري: تحوّل من أداة تحرّكها أنقرة بوجه خصومها الإقليميّين لاستنزافهم، إلى إستحقاق يتعيّن عليها النجاح في إدارته، مع ظهور تحديّات جديدة أهمها رفع العقوبات الغربية الخانقة عن دمشق، ومواجهة “الجوار الإسرائيلي” المستجد، وحلّ الملف الكردي وإعادة النازحين السوريين، وبالتالي تثبيت دعائم النظام السوري الجديد ليصبح عونًا لتركيا بدلَ أن يكون عبئًا عليها.

ثالثاً؛ المسألة الكردية: يقف أردوغان عاجزًا عن حلّ هذه المسألة حتى الآن، برغم كلّ الأجواء الإيجابية التي أشاعها موقف زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي لحلّ المسألة، والإستجابة السريعة من القائد التاريخي للأكراد المسجون عبدالله أوجلان، ثم توقيع تفاهم حسن النوايا بين مظلوم عبدي قائد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) والرئيس أحمد الشرع، قائد الإدارة السورية الجديدة.

تركيا أمام مفترق طرق، فإن استطاع أردوغان استيعاب ردّة فعل المعارضة، والمضي في إنهاء دور أبرز منافسيه السياسيين، فهو بذلك يكون قد ضمن استمرارية حكمه مع دستوره الجديد. أمّا في حال استطاعت المعارضة تحويل التهديد إلى فرصة، ونجحت في فكّ رقبة أكرم إمام أوغلو من تحت مقصلة الإعدام السياسي، فإنها ستستثمر تراجع الحكومة لتفرض وقائع جديدة مدفوعة بشعبيّة آخذة بالتعاظم

رابعاً؛ تحدي الإمساك بالسلطة: يجاهر أردوغان بشهيته المفتوحة في البقاء على رأس السلطة في تركيا، وهي شهيّة يقول خصومه إنّها تماثل شهيّة الملوك والمشايخ والأمراء والزعماء الإنقلابيين، الذين عادى بعضهم ثم عاد وتودد لهم، وهو ما يتطلب تعديلًا دستوريًا أضحى ملحًا جدًا اليوم قبل الغد، وبخاصة مع استمرار تآكل شعبيته بسبب الأزمات الآنفة الذكر، والتي لا يبدو أنّ هناك أفقًا واضحًا لحلّها، وهو ما يستدعي مسح المنافس الأبرز وشطبه من الحياة السياسيّة، متكئًا على التسوية المنشودة مع الأكراد، ولعل المفارقة الأبرز أن واحدة من التهم الموجهة إلى إمام أوغلو هي التواطؤ مع “منظمة إرهابية”، أي مع حزب العمال الكردستاني الذي تفاوضه السلطات التركية حالياً!

المستقبل الغامض

وتبدو المعارضة التركية مصممة على عدم الرضوخ لإرادة السلطة الحاكمة في أنقرة، حيث خاطب زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل الرئيس أردوغان أمام مئات الآلاف من الغاضبين قائلًا: “بالأمس أثناء مشاهدتك هنا، قمت برمي جهاز التحكم وكسرته يا سيد طيّب، قلت: إذا تجمعوا غدًا، سأعزل الوالي ومدير الأمن، أنظر، اليوم نحن 300 ألف شخص، حتى لو جئت إلى إسطنبول وكنت الوالي، سنجتمع مرّة أخرى، سنجتمع مرّة أخرى”.

إقرأ على موقع 180  الإسلاميون والعلمانيون.. هل يتصالحون ضمن دولة مدنية؟

من جهة أخرى، لا تبدو حكومة حزب العدالة والتنمية في صدد التراجع، بل هي أكثر تصميمًا على تحدّي إرادة ملايين الناخبين الذين صوّتوا لأكرم إمام أوغلو، وذلك من خلال تعيين نائب وزير الداخلية السابق، منير كارال أوغلو، وصيًا على بلدية إسطنبول، وحظر وسائل التواصل الإجتماعي وإيقاف وسائل النقل العمومية وحظر التجمعات والتظاهرات في البلاد، ومع صدور قرارٍ من المحكمة بتوقيف إمام أوغلو فإنّ تصاعد الموقف أصبح حتميًا.

ويستعير الكاتب في صحيفة “جمهوريت” عشق قانصو كلام أوزغور أوزيل، الذي رأى أنه في حال عدم التصدي لهذا الإنقلاب اليوم، فلن تكون هناك انتخابات مرة أخرى، معتبرًا أنّ السبب الوحيد للإستعجال في الوصول إلى هذه النقطة بعد ربع قرنٍ من التقدم، هو ظهور خيارٍ قويٍ وحازم يدعمه الشعب في مقابل الحاكم الفرد في القصر.

أمّا زميله في الصحيفة نفسها مصطفى بلباي، فقد اعتبر أنّ هناك “سبع جرائم” حقيقيّة ارتكبها إمام أوغلو، أبرزها هزيمة أردوغان مرات عديدة في إسطنبول، وتقديمه مساعدات إجتماعية في بلديته تجاوزت ما يقدمه حزب العدالة والتنمية، ووضعه “رؤية 2050” لمدينة إسطنبول والتي تعتبر مقدمة لرؤيته كمرشح رئاسي جدي في مواجهة أردوغان.

وعلى المقلب الآخر، يُدافع الكاتب في صحيفة “حرييت” أحمد حاقان عن قرارات القضاء، مُذكرًا المعارضة بسلوك أردوغان حين تمّ اعتقاله في نهاية القرن الماضي، حيث امتثل بهدوء وصبر لقرار القضاء، مع أنّه كان يعلم أن القرار كان ظلمًا واضحًا.

لا تقتصر المسألة اليوم على حزب الشعب الجمهوري فقط، بل باتت تهم كلّ الأحزاب والقيادات والنخب السياسية في البلاد. وبغض النظر عن دقّة الملفات التي قدمها القضاء الخاضع لحزب العدالة والتنمية، فإنّ استعمال نفوذ وسلطة وأجهزة الدولة لتصفية الحسابات السياسيّة، تنقل تركيا من إنجاز العدالة والتنمية الأهم على مرّ العقدين كما ذكرنا، إلى المربّع الأول حيث تتم تصفية الخصوم السياسيين عبر أدوات الأمن والقضاء.

من الواضح أنّ تركيا أمام مفترق طرق سيُحدد مستقبلها لسنوات عديدة مقبلة، فإن استطاع أردوغان استيعاب ردّة فعل المعارضة، والمضي في إنهاء دور أبرز منافسيه السياسيين، فهو بذلك وبتقدير أولي يكون قد ضمن استمرارية حكمه مع دستوره الجديد. أمّا في حال استطاعت المعارضة تحويل التهديد إلى فرصة، ونجحت في فكّ رقبة أكرم إمام أوغلو من تحت مقصلة الإعدام السياسي، فإنها لن تكتفي بهذا الإنجاز، بل ستستثمر تراجع الحكومة لتفرض وقائع جديدة مدفوعة بشعبيّة آخذة بالتعاظم حتى الآن.

يقول أحدهم: كنّا نطمح بأن تصبح تركيا نموذجًا يُحتذى به في الدّول العربيّة التي تُعاني من الأنظمة الدكتاتورية، لكن يبدو اليوم، أنّ العدوى بدلًا من أن تنتقل من تركيا إلى تلك الدول، انتقلت من تلك الدول إلى تركيا!

أيٌّ النموذجين سينتصر؟ نموذج حزب العدالة والتنمية الذي أزاح سطوة الجيش والقضاء وكرّس التعددية، أم نموذجه الجديد الذي يُؤبد حكم الزعيم على طريقة كل الديكتاتوريين في العالم؟

______________________ 

“العدالة والتنمية” يستحوذ على معظم الإعلام

استطاع حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال سنوات حكمه أن يقضم وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، لتصبح الغالبية العظمى منها تحت سلطته أو تدور في فلكه. وبحسب التقرير الصادر عن “مرصد ملكيّة الإعلام” عام 2022 فإنّ 90 بالمئة من القنوات التلفزيونية والصحف الكبرى تسيطر عليها مجموعات مقربة من حزب العدالة والتنمية، وهو ما عاد وأكد عليه تقرير لمنظمة “مراسلين بلا حدود” عام 2023. أمّا “مركز ستوكهولم للحرية”، فقد لاحظ في تقرير له عام 2023 أنّ 95 بالمئة من المنافذ الإعلاميّة الوطنية “محاصرة” بسياسات حكومية مباشرة وغير مباشرة.

وكمثال على تلك السيطرة، تبرز “مجموعة دمير” الإعلامية إحدى أكبر المجموعات الإعلامية في تركيا، والتي تأسّست بداية كمجموعة مستقلة تعمل في مجال الإعلام والصحافة، لتصبح تباعًا أكثر ميلًا نحو دعم السلطة ولا سيما بعد العام 2018 حيث تم بيع المجموعة إلى رجل الأعمال اليهودي “أوميت كوهين”، الأمر الذي أثار جدلًا واسعًا يومها داخل تركيا لاعتباره مقرّبًا من الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية، وبالتالي تم تسخير إمكانات هذه المجموعة التي تضم عددًا كبيرًا من الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية، أبرزها صحيفة “حرييت” وقناة “كانال دي” في خدمة الحزب ورئيسه، مع الإشارة إلى أنّ مالك المجموعة اليوم ينتسب للأقليّة اليهودية في تركيا، والتي تعتبر على علاقة وثيقة بالكيان الإسرائيلي، حيث شارك بعض رعاياها في القتال مع الكيان خلال حربه على غزة، ما استدعى تحركًا من بعض الناشطين هدفت لمحاكمة اليهود الأتراك من حاملي الجنسية الإسرائيلية وإسقاط الجنسية التركية عنهم.

وفي السياق نفسه، طلبت السلطات التركية من منصة «أكس» حظر أكثر من 700 حساب تعود إلى مؤسسات صحافية وصحافيين وشخصيات سياسية (معارضة) وطلاب وأفراد آخرين في تركي، حسب المنصة التي اعتبرت أن هذا القرار «ليس غير قانوني فحسب، بل يمنع أيضاً ملايين المستخدمين الأتراك من الوصول إلى المعلومات و(خوض) النقاش السياسي في بلدهم”.

  

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تركيا "الإستباقية" في ليبيا.. مواجهات بالجملة والمفرق!