موضوع التاريخ قصّةٌ شائكة. ليس فقط لأنّ المنتصرين يكتبونه في النهاية حسب أهوائهم، بل لأنّ معظم الصراعات تُبنى على تصوّرات تاريخيّة لـ”الهويّة” لا علاقة لها غالباً بالحقائق القائمة في الواقع. والصراع في أوكرانيا وعليها أكبر مثالٍ على ذلك. فمن هو الروسيّ والأوكرانيّ والأوروبيّ في بحر الدماء المهدورة اليوم؟
القصّة ليست جديدة. فعندما تداعت الامبراطوريّة العثمانيّة، قامت الشعوب التي طالما انضوت تحت لوائها باستنهاض تواريخ مُحدَثة، وبينها الترك والعرب والكرد، كلٌّ من طرفه. لقد استدعى الأتراك تاريخ الخانات والإمارة السلجوقيّة التركمانية، بل أيضاً الأصول الأقدم من ذلك لقبائل غرب الصين الغازية لآسيا الوسطى وأسطورة الذئبة الأمّ أشينا. واستنهض العرب شعراء الجاهليّة وجذور الحضارة العربيّة-الإسلاميّة لابتكار “نهضةٍ عربيّة”. كما استنهض الكُرد أصولاً تعود لأساطير جبالهم ولفارس القديمة التي قامت بين حناياها لهجاتهم. لقد كان الزمان حينها يخصّ ابتكار الدول.. “القوميّة”.
لكنّ فعلَ هذا الاستنهاض كان مختلفاً بين هذه الشعوب التي امتزجت إثنيّاً في الماضي ولم تُفرّقها سوى لغاتها ومناطق انتشارها. إذ أخذت “القوميّة التركيّة” إلى مواجهةٍ مباشرة مع التراث العثمانيّ الإسلاميّ ذي الصبغة السنيّة وكذلك مع تراث الأناضول الأوسط ذي الصبغة الشيعيّة (من يسمّون اليوم علويّو تركيا) وكذلك مع اليونانيين والآشوريين والأكراد الذين كانوا يشاطرونهم البلاد التي أصبحت لاحقاً تركيا.. فإن هذا الاستنهاض سينتهي بمصطفى كمال أباً لتركيا وبقوميّة لم تتصالح مع تراثها العثمانيّ والإسلاميّ إلاّ مؤخّراً… ولأسبابٍ مختلفة.
في المقابل، ابتكر العرب “قوميّةً عربيّة” قديمة الأزل جهدَت كي تتخطّى تنوّعات معتقداتهم الدينيّة والمذهبيّة، الإسلاميّة والمسيحيّة واليهوديّة وغير ذلك الكثير، كما تخطّت اختلاف مواقعهم الاجتماعية بين البداوة (العرب بالمعنى الأوّل للتعبير) والريفيّة والمدينيّة. تخطٍّ جاء بناؤه نتيجة قوّة لغتهم وتراثها، ليس فقط لأنّها لغة القرآن الكريم بل لأنّها لغة مؤسِّسة لحضارة تاريخيّة كبرى، على غرار الحضارتين اليونانيّة والرومانيّة، لم تكُن في النهاية عربيّة صرفة ولا إسلاميّة صرفة. لقد أعاد روّاد “نهضة” تلك “العروبة” قراءة تاريخهم وتراثهم وغالباً بشكلٍ نقديّ لما كانت عليه الأفكار السائدة حينها. وعلى عكس ذلك، تجاهل آباء “القوميّة العربيّة” الكثير من نواحي تاريخهم وتراثهم، ضمن الحيّز الجغرافيّ العربيّ وفي مراحل الحضارة العربيّة-الإسلاميّة المختلفة.
لم يُكتَب لمشروع “الدولة القوميّة العربيّة” النجاح، لا في زمن “الثورة الكبرى” التي انطلقت من الحجاز ولا حين تبنّت مصر ـ ذات الخصوصيّة في إرثٍ أقدّم في التاريخ الفرعونيّ ـ العروبة حتّى الصميم. هكذا لم يُصبِح لا الشريف حسين ولا جمال عبد الناصر “أباً للعرب”، برغم أنّ الأخير اقترب من تحقيق ذلك قبل أن يُهزَمَ الحلم الذي جسّده في 1967 كما هُزِمَ حلم الشريف حسين والملك فيصل عام 1920. بالتأكيد كان للقوى الخارجيّة دورٌ كبير في ذلك الإحباط ولكنّ الأمر كان له أيضاً أسبابه الذاتيّة داخل المجتمعات العربيّة وتنوّعاتها التي لعب عليها الخارج ولم يكُن تخطّيها ممكناً.
تشهد البلدان العربيّة اليوم تزامناً بين هويّة عربيّة ترسّخت شعبيّاً وبين هويّات “وطنيّة” بل وأيضاً اثنيّة وطائفيّة ومذهبيّة ومناطقيّة لم تكن يوماً فاعلة بهذه الحدّة، حتّى داخل كلّ دولة عربيّة. ما يؤسّس لصراعات لا نهاية لها مثلما كان عند تداعي الإمبراطوريّة العثمانيّة
لاحقاً، صعدت “قوميّات وطنيّة” في الدول العربيّة التي نشأت بعيد الحرب العالميّة الأولى، كلٌّ لها أساطيرها الخاصّة، برغم استمرار مشاعر شعبيّة قويّة بالانتماء إلى “هويّة عربيّة” انطلاقاً من الجراح المؤسِّسة في “نكبة” اغتصاب فلسطين عام 1948. وقد ظهر ذلك واضحاً سواءً في الانتفاضات التي تتابعت في “ربيعٍ عربي” يبقى التساؤل قائماً لماذا انتشر عربيّاً؟ كما ظهر أيضاً في أناشيد المشجّعين المغاربة لفريقهم لكرة القدم في مونديال قطر ولحماسة “العرب” لفوز فريق هذا البلد في “المغرب الأقصى”.
هكذا تشهد البلدان العربيّة اليوم تزامناً بين هويّة عربيّة ترسّخت شعبيّاً وبين هويّات “وطنيّة” بل وأيضاً اثنيّة وطائفيّة ومذهبيّة ومناطقيّة لم تكن يوماً فاعلة بهذه الحدّة، حتّى داخل كلّ دولة عربيّة. ما يؤسّس لصراعات لا نهاية لها مثلما كان عند تداعي الإمبراطوريّة العثمانيّة.
إنّ الخروج من هذا المأزق يستدعي عودةً إلى ذهنيّة ثقافة “عصر النهضة”. خاصّةً وأنّ تقدّم الأبحاث التاريخيّة وسبر الآثار يفتحان آفاقاً لم تكن متوفّرة في القرن التاسع عشر ويفسحان مجالاً لقراءة نقديّة لكثيرٍ من الأساطير السائدة اليوم لدى جميع الفئات في البلاد العربيّة. أبحاثٌ يجري أغلبها خارج هذه البلدان حيث يُمكِن “للآخر” إسقاطها أساطير مشوّهة مؤسّسة لشرذمة وهيمناتٍ جديدة.
أغلب مواطني البلدان العربيّة يجهلون تاريخهم وتراثهم. ولا عناية حكوميّة إلاّ نادراً وانتقائيّاً بحفظ التراث وبتحفيز نبش تعقيدات التاريخ، القديم والحديث، سويّةً. ولا جرأة في مواجهة تناقضات الهويّات الجزئيّة لوضعها في النقاش العام لكسر استغلالها من قبل “الخارج” ولتحفيز التأقلم معها في عيشٍ مشتركٍ حقيقيّ.
أغلب المصريين يجهلون اليوم تاريخ الفاطميين والمماليك المؤسّسين لبلادهم. وأغلب السوريين يجهلون أنّ أسرة من حمص حكمت الامبراطوريّة الرومانيّة عقوداً كما يجهلون تاريخ الحمدانيين والأمراء الأتراك على السواء. وأغلب السعوديين يجهلون تاريخ اليمن والحبشة والشام وفارس والترابط مع تاريخ الجزيرة العربيّة.
وهناك أسئلة حول التاريخ تؤسّس الإجابات عليها انطلاقاً من الأبحاث الحديثة لما هو أسمى من تناقضات هويّات اليوم. مثل السؤال لماذا انضوت مصر القبطيّة في الفتح العربيّ دون ذاكرة معركة واحدة، كما الأندلس؟ ولماذا قصد الخليفة عمر بن الخطاب “الجابية” في حوران وليس دمشق ليضع العهدة العمريّة؟ ولماذا كانت حرّان هي المكان التي ترجمت فيه الثقافة اليونانيّة القديمة إلى السريانيّة ثمّ العربيّة قبل أن تنتقل عبر الأندلس إلى اللاتينيّة نحو الغرب الذي تبنّاها كأسطورة مؤسّسة لنهضته؟ وما التفاعلات التي جرت بين هذه الثقافة اليونانيّة وتلك التي تسمّى اليوم عربيّة-إسلاميّة؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثقافة الفارسيّة أو الهنديّة، حيث أسّس مسلمون عظمة مدينة دلهي.
هناك جهود ملحوظة تبذل هنا وهناك، في تونس، في مصر، في سوريا وغيرها حول نبش التاريخ والتراث. إلاّ أنّ هذه الجهود لم تتراكم كفايةً كي تؤسّس لنقاشٍ عام بحجم ذلك الذي حصل في عصر النهضة. ولا بدّ من القول إنّ انتشار وسائل الإعلام، وخاصّة المرئيّة منها، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعيّ بشكلٍ واسع يساهم أكثر في نشر الأساطير بدلاً من تفكيكها.