أسطورة المصري.. السعيد

كان مثيراً نبأ وصول خبيرة علم السعادة، جين ليم، إلى مصر في أواخر شهر يوليو/تموز الماضي، لتزويد المصريين بخبرتها ونشر مفهوم السعادة بينهم، كما أوردت مواقع إعلامية مصرية عديدة.

فعلاً، يا لهُ من خبرٍ يُمكن أن يكون خبراً عادياً وتافهاً من بين أخبار كثيرة تتداولها المواقع الإخبارية، لكن في حالة مصر قد يكون تضخيمه جزءاً من “عدة الشغل” أو ربما يتقاطع مع ما يشغل بال شعب يتبوأ مركزاً متأخراً على سلم مقياس السعادة، حسب تقرير السعادة العالمي الصادر عن إحدى هيئات الأمم المتحدة، وكان آخرها تقرير العام 2023 حيث احتلت مصر المركز 121 على السلم الذي يضم 150 دولة، بعدما كانت قد احتلت المركز 138 في تقرير العام 2020. تأتي زيارة الخبيرة الدولية بعد سعي رسمي دؤوب لعكس الحقائق الواردة في ذلك التقرير، وأكثرها تعبيراً رسالة مسؤول مصري يُهنئ رئيسه بارتقاء الشعب المصري أعلى درجات السعادة، وكأن زيارة الخبيرة ورسالة “المستشار” ستجعلان الشعب المصري سعيداً أو تُغيّران ما جاء في تقرير الأمم المتحدة!

***

عملياً، تستمر سياسة طمس الحقائق والتعمية على الواقع بهدف الهروب من المشكلات القائمة والمتفاقمة والمزمنة. ولا نستطيع إدراك حجم الخطر الذي تشكله هذه السياسات إلا حين نعلم أن من يتّبعها ليس السلطة التنفيذية فحسب، بل أيضاً السلطة التشريعية ممثلةً بمجلس النواب خلافاً لصلاحياتها الدستورية التي تنص على مراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها. وكانت واحدة من مظاهر هذه السياسات رسالةً أرسلها رئيس مجلس النواب، حنفي جبالي، للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، يطلعه فيها على درجات السعادة التي بلغها الشعب المصري، في وقت هناك حوالي ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر، ويُروِّج إعلامهم لأرجل الدجاج لإطعامهم، واعتمادها بديلاً عن الأغذية الأخرى التي صارت عزيزةً. وإضافة إلى أنها تُعدُّ مؤشراً على الهروب من مواجهة الواقع المخيف، فإن هذه الرسائل الخادعة تُعدُّ أيضاً دافعاً للسلطة للاستمرار في تجاهل المشكلات والأزمات.

وفي سياق الحديث عن السعادة في مصر، كانت وستبقى لافتة للإنتباه تلك الرسالة التي أرسلها جبالي لتهنئة السيسي بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة، إذ كانت مناسبةً ليطلعه فيها على أحوال الشعب المصري فيقول له إنه يرسلها “وقد ارتقى شعب مصر أعلى مراتب السعادة والرخاء، ويرفُل في ثياب العزة والمنعة والأمن والأمان”. ثم يؤكد له أن مصر تخطو مع رئيسها “خطوات الواثق على درب التطور والتنمية، مستشرفة غداً واعداً نزرع فيه الأرض الخصب، ونقيم عليها مزارع ومصانع، ونحقق رغد العيش لكل مواطن”. وهذه واحدة من الرسائل الكثيرة التي اعتاد جبالي أن يوجهها للسيسي في مناسبات تخطر أو لا تخطر على البال. ولكثرة هذه الرسائل، ظهر مصطلح جديد في مصر هو “رسائل المستشار حنفي”. غير أن هنالك من ذكَّر حنفي بأن ثمة معايير ومقاييس لقياس مؤشرات، ليس أقلها نصيب الفرد من ناتج بلاده القومي، وتمتعه بقدر ما من الحرية، وهي التي تحدد مدى تمتع شعبٍ من الشعوب بالسعادة.

وكان جبالي قد وجَّه قبلها رسالة للسيسي، في 4 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بمناسبة الانتهاء من بناء مدينة المنصورة الجديدة، وهي من المدن الجديدة التي صُممّت على شاكلة العاصمة الإدارية، وستكون مخصصة للأغنياء والمقاولين و”البطانة”. وقد مهَّد لرسالته بالقول إن هذه المدينة، وغيرها من المدن المشابهة، ستساعد البلاد على الحد من المشكلات التي تنشأ بسبب تسارع النمو السكاني. فجاء الحل عبر ما أسماها “المدن الذكية”، والتي تعرف بـ”مدن الجيل الرابع”، وكأن المصري الغلبان، المتهم دائماً بالتسبب بـ”مشكلة” زيادة النمو السكاني، قادر على الحلم بتملك رقعة صغيرة في هذه المدن باهظة الثمن.

وما كاد الشارع المصري، ووسائل التواصل الاجتماعي، يهدأون بعد الفضيحة التي أثارها “المعهد القومي للتغذية”، في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عندما نصح المصريين بتناول أرجل الدجاج، كونهم يبحثون عن أغذية غنية بالبروتين تكون بديلة عن الدجاج واللحوم التي فقدوا القدرة على شرائها، حتى جاءت رسالة جبالي التي تتحدث عن الشعب المصري السعيد برخائه، لكي تجعله يعود للسخرية من هذه الطبقة التي تحكمه ويتحدث عن مدى انفصالها عن واقع حاله المأساوية. وقال خبراء مصريون إن فضيحة أرجل الدجاج ورسالة جبالي تتعديان حقيقة انفصال الطبقة الحاكمة عن الواقع، لتندرجان ضمن سياسة احتقار الشعب، وضمن نظرة الاستعلاء التي ينظرون فيها إليه، وصولاً إلى تصنيف الشعب في أسفل الدرج لدرجة أنهم ينصحونه بأكل ما يأنفون هم عن ذكره.

ويظهر تعمُّد السلطة سياسة احتقار الشعب من ترويج وسائل إعلامها، من صحافة وتلفزة وأذرع إعلامية، لنصيحة المعهد القومي للتغذية بتناول أرجل الدجاج، مرددين الكلام عن حسناتها وفوائدها حتى يتقبل المواطن الفكرة مما يسهل عليه استهلاكها. يحصل هذا بينما تحاول السلطة أن تتحلل من مسؤولياتها عما آلت إليه حال الشعب والبلاد من فقر وبطالة وغلاء ومصاعب معيشية، نتيجة الأزمة الاقتصادية وعجز الميزان التجاري وتسببهما بانخفاض قيمة العملة المصرية والتضخم الكبير، ولجوئها إلى تعويم الجنيه، الأمر الذي يدل على إستمرار تناقص إحتياطي العملة الصعبة. كما تريد أن تتهرب من فشلها في تمويل استيراد الأغذية وعلف الحيوانات بسبب تحويل الأموال إلى المشاريع العملاقة، على شاكلة القصور الرئاسية والسجون الضخمة والمدن الذكية والعاصمة الإدارية إلخ.

إقرأ على موقع 180  سوريا والمشرق.. لعنة الجغرافيا أم دُرَّتُها (2)؟

ولا تكتفي السلطة باحتقار الشعب من خلال تجويعه، بل تتعمد ضرب رموز رفعته وحسه الوطني فتبيع أصول الدولة، وتتنازل عن أراضيها وجزرها وعن حقوقها التاريخية في مياهها لصالح أثيوبيا، وغيرها من أساليب الإذلال وإهانة الحس الوطني لديه، ثم يأتي من يتحدث عن “ثياب العزة والمنعة والأمن والأمان” التي يرفل بها الشعب المصري.

ومن المعروف أن الحكومة فشلت مرة في إيجاد التمويل اللازم لإدخال بضائع بقيمة 300 مليون دولار كانت محتجزة في الموانئ المصرية، ومن بينها مواد غذائية وأعلاف ولحوم وزيوت وبقوليات. ونتيجة لنقص الأعلاف اضطر مربو الدواجن إلى إعدام الفراخ الصغيرة لعجزهم عن تغذيتها، ما سبب نقصاً في كميات الدواجن في الأسواق. وهنا تفتقت مخيِّلة المعهد القومي للتغذية وابتدع نصيحة تناوُل أرجل الدجاج، لأنها غير مكلفة، ثم زيَّن النصيحة بحديثه عن فوائدها العالية، بفضل غناها بالبروتين وبالكولاجين الضروري لتجديد خلايا البشرة وتأخير علامات الشيخوخة، كما ادعى في منشوره على “فيسبوك”.

في هذا السياق، تتقدم أدوار شخصيات مثل رئيس مجلس النواب الذي لم يجد غضاضة في نقض حكم مجلس الدولة الذي أبطل اتفاقية التنازل عن جزيرتي “تيران” و”صنافير” سنة 2018، كما نراه يساهم في واحدة من رسائله إلى رئيسه في إيهام الشعب بقرب الانتصار في معركة سد النهضة، وهي المعركة التي حُسمت يوم أعطى السيسي موافقته لإثيوبيا على إنشائه، فشرعت الأخيرة في تعبئته حتى وصلت إلى المرحلة الرابعة والأخيرة قبل أيام، غير مبالية بأثر خطوتها على مصر التي باتت تعاني شحاً في المياه والكهرباء المولدة من السد العالي.

في الخلاصة، الأمن القومي المصري يبدو مهدداً من الغرب (ليبيا) والجنوب (السودان وأثيوبيا) والشرق (سيناء وغزة)، لكن الأخطر هو عدم وجود إرادة بإعادة إنتاج دور مصر الإقليمي، ومدخله الأساس وضع هذا البلد العربي الكبير على سكة الديموقراطية والتنمية. من هنا تبدأ السعادة وليس من عند “المستشار حنفي”.

Print Friendly, PDF & Email
مالك ونّوس

كاتب ومترجم سوري

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  بين الانزالات والتصفيات.. حروب أمنية بين "داعش" و"قسد"