سهرة الخميس.. وحكايتي مع أم (ن)!

كانت للخميس مع تجارب حياتنا طقوس اختلفت باختلاف النوع فليس كل ما كان يحق للصبيان يحق بالضرورة للبنات. اختلفت أيضا باختلاف العمر فما استحق لى فى مطلع شبابى لم يكن مسموحا لى على امتداد سنوات المراهقة، وما مارست واحترمت من طقوس ومتع مؤسسة على مصروف مقرر سلفا من أهلى حلت محلها طقوس ومتع أخرى معتمدة على دخل أو دخول مقابل أعمال أو خدمات قمت بها، بمقتضاها توقف مصروف الأهل وبالتالى تحررت الطقوس والمتع ولأول مرة من سلطة الأهل.

أذكر أيضاً أننا، سواء كنا فى سن المراهقة أو الشباب، لم نختبر الطفرة عند الانتقال من مرحلة فى الطقوس والمتع المتاحة إلى أخرى. لا شك أننا مررنا داخل كل مرحلة كبرى بمراحل أصغر فالمراهقة فى حد ذاتها مجموعة مراحل. مثلاً علمت من أمى فيما بعد أن صحة أبى تراوحت صعوداً وهبوطاً مع مفاجآت سنوات مراهقتى. كان “قلوقاً” إن صح التعبير أو على الأقل هذا ما فهمت عندما فاجأتها ذات مرة، وما أزال طالباً بالثانوية، بما انتويت فعله. أشفقت على زوجها من الصدمة. تحدثنا وانتهينا إلى حال ألفة جميلة بقيت معنا حتى رحلت المسكينة عن عالمنا.

***

الخميس كان «نص يوم» دراسى. نذهب إلى المدرسة فرحين. فاليوم الدراسى قصير وقد خططنا لما بعده. لم يكن لى أصحاب من المدرسة أو على الأقل لا أّذكرهم إن وجدوا. ربما يكمن السبب فى أن أمى لم تكن ترحب بالغرباء، ومنهم رفاق المدرسة وهؤلاء لم يخضعوا للفحص الذى خضع له أصحابى من الحى. غريب أمر أمى. أمى على امتداد عشرين عاماً، مدة إقامتنا، لم تقم علاقة مع أى عائلة خارج بيتنا ذى الشقق الثماني. ولكنها ومن موقعها فى الشرفة المطلة على شارعين رئيسيين استطاعت أن تجمع معلومات شافية عن كل عائلة سكنت فى دائرة قطرها يزيد عن الكيلومتر الواحد. لم أفلح فى التوصل إلى مصادرها. أنكرت دائماً أن يكون لها مصادر غير المراقبة عن بعد. أصدقائى فى الحى تعرفهم بالاسم وبالسير الشخصية والعائلية واجتهادهم فى الدرس والتحصيل وحسن «ملافظهم» أثناء اللعب أو الدردشة. كانت فى هدوء الليل تسمع ما نحكيه فيما بيننا على ناصية الطريق غافلين عن حقيقة أن الصوت يمكن أن يصعد مسموعاً حتى شرفات الطابق الثالث.

***

مع اقتراب الصيف كنا، أقصد تلاميذ الحى، ننتقل خلال الليل مع مصابيحنا الكهربية وكتبنا والكراريس إلى الشرفة لندرس حتى ساعات متأخرة. أذكر أنها لم تفوّت ليلة دون أن تمر على شرفتى لتطمئن. تعرض أن تعد كوباً من الشاى وشطيرة مزودة بما تخزنه لمثل هذه الظروف. أو لمجرد أن تتأكد من أن النعاس لم يغلبنى. أو، وهو الأهم كما تيقنت فيما بعد، أن شاغلاً معيناً عاد يشغلنى عن تحصيل دروسى. أما الشاغل فهو غرفة نوم مضاءة فى بيت عبر شارعنا تنام فيها وتذاكر دروسها فيها فتاة فى مثل عمرى كانت تفضل المشى ذهاباً وإياباً فى الغرفة وفى يدها كراستها. كنا فى الحى نعرف أنها مجتهدة فى مدرستها ومستقيمة فى سلوكها وعلاقاتها. كان لأمى رأى آخر وأظن أنه سبب وجيه لزياراتها الليلية المتكررة. قالت ذات مرة، وكأن الأمر لا يعنيها، «إن (ن) متميزة خَلقاً وخُلقاً، وهى مهتمة بك ولكنى أعرف أنك منشغل عن هذه الأمور بدراستك. رغينا كتير، أسيبك ترجع إلى مذاكرتك. بس أنا خايفة عليك تبرد، قوم ذاكر جوه». عادت إلى غرفتها وتركتنى أتعامل مع أمر فى شكل النصيحة من أم رحيمة.

***

فى الليلة التالية، زارتنى أمى كالمعتاد وفى يدها صينية نحاسية تعرف أننى أفضلها على كل الصوانى المتراصة فى خزائن مطبخنا. قالت وهى تزيح إحدى كراساتى لتضع الشاى والشطائر المعدة خصيصاً وعيناها لا تغيبان أطول من اللازم عن شرفة زميلتنا (ن)، «أعلم يا حبيبى أن أمها تسعى للاجتماع معك لحاجة فى نفسها، فهى كما تعلم عاشت محرومة من أن يأتيها صبى. أعلم أنها ترتاح لك لطيبة تربيتك وسمعتنا فى الحى». أزحت بوجهى بعيداً عن حيز إبصارها دليلاً مكشوفاً عن نيتى ممارسة كذب أبيض. قلت هامساً «لا أظن يا أمى».

***

غريب أمر أمى. كانت تقرأنا. مرات كثيرة كانت تقاطعنى فى وجود أبى حتى لا أسترسل فى خطأ أوشكت أن أقع فيه. مرات كثيرة تدخلت عند أبى ليفاتحنى فى أمر ترددت فى إطلاعهما عليه. كانت تعلم ما فى النفوس وكل ما نخفيه عنها. أخفيت عنها قصة لقائى مع السيدة أم (ن). التقيتها بالصدفة المحضة على محطة الترام فى أول شارع خيرت، ابتسمت لها محيياً. جاءت ناحيتى ومدت يدها. قالت بصوت خفيض هل يمكن أن أراك مساء اليوم؟ أقابلك على أول طريق الشيخ ريحان لنتكلم خلال الطريق إلى مقر عملى. فى العاشرة مساء اعتذرت من الأصدقاء عن الذهاب معهم إلى السينما واعداً بأن أنضم لاحقاً. قابلتها ومشينا نحو شارع عماد الدين. قالت «أعرف أنك تعرف أين أعمل. لن نناقش هذا الموضوع. كل ما يهمنى فى هذه الدنيا ابنتى. أريد لها النجاح فى دراستها كما تنجحون، وأتمنى أن تساعدها فى بعض المواد التى أعتقد أنها فى حاجة لمن يقرأها معها. أنا أعرفك وأثق بك ولبيتكم فى الشارع مكانة محترمة. فكرت فى مدرس خاص خارجى ولكنى أخشى من مغبة أن يدخل رجل غريب بيتى وأنا غير موجودة. هل تقبل هذا التكليف وأنا مستعدة لدفع أى مكافأة ترى أنك تستحقها؟». قبلت التكليف بدون مقابل طبعاً.

إقرأ على موقع 180  خريف الصحافة المصرية.. وربيعها المتجدد

***

هناك فى هذه الشقة البسيطة عرفت أن للشرف معانٍ متعددة وله مضامين شتى، كلها كريمة. عرفت أن المظهر لا يعكس بالضرورة واقع الحياة والأفضل تجاهله عند تقييم الناس.

***

تعلمت أن أغفر قبل أن أعلم وقبل أن أقرّر وقبل أن أحكم.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  من كان ليُصدّق ما يحدث في أمريكا اليوم؟