يتضمن تدريب المجندين في وحدة الاستطلاع التابعة للجيش الإسرائيلي، “سايريت ماتكال“، سلسلة من التدريبات المكثفة الخاصة بعلم “الملاحة” (قراءة الخرائط ومهارات التنقل بسرعة وفقا لجدول زمني محددة)، وإعداد كل مجند ليصبح مؤهلاً على تنفيذ أي مهمة تتعلق بـ”الملاحة” وتحمل المسؤولية الكاملة بمفرده. هذا يعني أن يصبح كل مجند في وحدة النُخبة هذه قادراً على اختيار التدريبات التي تتناسب مع احتياجات المهمة، وتحديد الأهداف، وتقرير الأسلوب والجهود المطلوبة.
رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من بين قُدامى محاربي “سايريت ماتكال”. لكن يبدو أنه، وبعد مرور 50 عاماً على تقاعده من الخدمة، أصبحت بوصلته مُعطلة بالتأكيد. فبينما يُخطط لإضفاء طابع رسمي على العلاقات بين بلاده والسعودية، يبدو نتنياهو مثل التائه في فناء منزله الخلفي وميؤوس من أمره. كما أن ائتلافه الحاكم يستعد لتقويض كل خططه، وخصوصاً تلك المتعلقة بإقامة سلام إقليمي.
إن التوصل إلى اتفاق سعودي إسرائيلي بمثابة “الجائزة الكبرى” للدبلوماسية المعاصرة في الشرق الأوسط. ولذلك أصر مسؤولو إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، على أن تنظيم رحلات مكوكية بين الرياض وتل أبيب للتفاوض على “صفقة” تلعب فيها واشنطن دوراً أساسياً وتعود بفوائد واضحة على الدول الثلاث.
قائمة مطالب
يحتفظ ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بـ”قائمة” مطالب خاصة به كشروط لإتمام “الصفقة”. ومن هذه “المطالب” إبرام اتفاقية أمنية مع واشنطن، امتلاك برنامج نووي مدني، وإعادة تأهيل صورته في المجتمع الدولي عامة وفي الولايات المتحدة بشكل خاص (في إشارة إلى طي صفحة حادثة تصفية الصحافي السعودي جمال خاشقجي عام 2018، والذي تقول وكالة الاستخبارات الأميركية إنه قُتل بأوامر من محمد بن سلمان).
نجاح المساعي الأميركية لتحقيق العبور إلى ضفة التطبيع بين السعودية وإسرائيل يتطلب من كل طرف أن يتحمل أثقال مسؤولياته بنفسه
بالنسبة لنتنياهو، فإن إبرام “صفقة” مع السعودية سيكون بمثابة نقطة تحول تساعد في إطلاق العنان لإمكانات وآفاق اقتصادية ودبلوماسية كبيرة تمتد من أفريقيا إلى آسيا، وجعلها في متناول إسرائيل. ويأمل نتنياهو أيضاً أن يؤدي تطبيع العلاقات مع الرياض إلى صقل أوراق اعتماده وتحسين وضعه كرجل دولة في وقت يتركز فيه الاهتمام بدلاً من ذلك على خطط حكومته المثيرة للجدل فيما يتعلق بتقويض سلطة القضاء الإسرائيلي.
بدوره، يأمل بايدن، بتحقيق فوز مهم في السياسة الخارجية، وأن تُحفز صفقة التطبيع بين تل أبيب والرياض المزيد من التكامل في الشرق الأوسط، وربما الأهم من ذلك، تسجيل “انتصار” أميركي ضد النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة. ويأمل بايدن كذلك في إستعادة “اليد الطولى” في قرارات منظمة “أوبيك” من أجل تعويض الخسائر التي تكبدتها بلاده بسبب أسعار الطاقة المرتفعة. بالإضافة طبعاً إلى تحسين فرصه في حملة إعادة انتخابه المتعثرة.
.. وعقبات
وبرغم أنه يبدو أنيقاً على الورق، فإن العقبات التي تعترض التوصل إلى اتفاق إسرائيلي سعودي كثيرة ومعقدة. ويجري الآن طرح حلول إبداعية لمعالجة بعض هذه النقاط الشائكة. مثل اقتراح باستخدام “برامج تكنولوجية سرَّية” لضمان عدم إعادة توجيه أي برنامج نووي سعودي (مرتقب) مصرح به لأغراض عسكرية. كما يقترح نتنياهو أن يتوسط، بشكل شخصي، لدى أصدقائه المشرعين الجمهوريين لمساعدة البيت الأبيض في الحصول على أغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ والتي ستكون ضرورية لإبرام معاهدة دفاع مع السعودية (كما يطلب بن سلمان). لكن كل هذه الحلول وأمثالها لن تكون كافية لعبور خط النهاية، حتى لو كانت المحاولة مفيدة لكل الأطراف.
نجاح المساعي الأميركية لتحقيق العبور إلى ضفة التطبيع بين السعودية وإسرائيل يتطلب من كل طرف أن يتحمل أثقال مسؤولياته بنفسه. سيتعين على الرئيس الأميركي، مثلاً، أن يمنح مباركته المطلقة للنظام السعودي؛ النظام نفسه الذي كان بايدن (في حملته الرئاسية في عام 2019) قد تعهد بـ”عدم بيع المزيد من الأسلحة لهم”.. وجعلهم يدفعون ثمن فعلتهم.. ووصفهم بـ”المنبوذين”.
بالمقابل، سيتعين على ولي العهد السعودي الاعتراف رسمياً بدولة إسرائيل (التي لا ترد على الخرائط الرسمية للمملكة). إدارة بايدن تحرص على التوضيح بأنها تتوقع من إسرائيل مساهمات إيجابية تؤدي إلى “نتائج مهمة في مصلحة الفلسطينيين” إذا ما وافقت السعودية على تطبيع العلاقات.
تجدر الإشارة هنا إلى أن السعوديين ليسوا في وارد خسارة موقعهم من القضية الفلسطينية، وهم حذرون جداً من أن ينتهي بهم المطاف ليصبحوا متساوين في هذا الأمر مع الإمارات، التي حاولت تبرير توقيعها على “اتفاقات أبراهام” على أنه “مقايضة” لحث إسرائيل على وقف “قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية”. فالسعوديون يعتبرون أنفسهم أصحاب “أفضل” مبادرة سلام تحفظ للفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم المستقلة (مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز في بيروت عام 2002، وكان وقتها ولياً للعهد).
التصالح مع المشكلة
إن نجاح التطبيع يتطلب من الأميركيين أولاً أن يضمنوا انتزاع تنازلات من الإسرائيليين لصالح الفلسطينيين، وفي مقدمة هذه التنازلات الموافقة على إقامة دولة فلسطين المستقلة. وهذا أمر محوري بالقدر نفسه من أجل حشد الدعم المطلوب بين المجتمع الديموقراطي الذي يشعر بما يكفي من الحذر من أي إذعان للمطالب السعودية. فأعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الديموقراطي يحذرون من أن “اتفاق التطبيع الإسرائيلي-السعودي قد يموت في الكونغرس إذا تجاهل الفلسطينيين”، وأن الفلسطينيين يجب أن يحضروا بشكل بارز في أي صفقة محتملة يتوسط فيها بايدن بين تل أبيب والرياض.
ومن المؤكد أن هذه الرسالة الأخيرة تم تثبيتها عندما التقى بايدن بنتنياهو على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، يوم الأربعاء الماضي (20 أيلول/سبتمبر). وبحسب قراءة البيت الأبيض لهذا اللقاء، فقد “دعا بايدن جميع الأطراف للوفاء بالتزاماتهم التي سبق وتعهدوا بها خلال الاجتماعات”، في إشارة إلى إجتماعات العقبة التي عقدت في شباط/فبراير الماضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين بحضور ممثلين عن الولايات المتحدة والأردن ومصر. وركز البيان الختامي لاجتماع العقبة على “وجوب الامتناع عن اتخاذ المزيد من الإجراءات الأحادية الجانب، ووقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية لمدة 4 أشهر، ووقف الترخيص لأي بؤر استيطانية جددية لمدة 6 أشهر”. يُذكر أن نتنياهو يومها رد بنبرة تحدي، قائلاً إن “البناء والترخيص لإنشاء مستوطنات في يهودا والسامرة ستستمر وفقاً للتخطيط الأصلي.. ومن دون أي تغيير”.
ما هو واضح، ومؤكد، أكثر من أي شيء آخر هو أن نتنياهو ليس لديه حرية القرار لتنفيذ الحد الأدنى من الإلتزامات المطلوبة منه تجاه الفلسطينيين. وهذه المشكلة تصالحت معها الرياض للتو وبوضوح. فبرغم إصرار نتانياهو على القول إن “الحكومة تتبع السياسات التي أقررها أنا بنفسي”، فإن الحقائق تشير إلى خلاف ذلك كلياً.
– ترجمة بتصرف عن “فورين بوليسي“.