أثار هذا التصريح مخاوف من أن يكون الهدف الإسرائيلي إرغام قسم كبير من سكان غزة على التوجّه نحو الحدود المصرية وإحياء مشروع توطينهم في صحراء سيناء، خصوصاً في ضوء التصريحات التي أدلى بها نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، داني أيالون، لقناة “الجزيرة”، والتي قال فيها: “توجد مساحات لا نهاية لها تقريباً في صحراء سيناء على الجانب الآخر من غزة ويمكنهم (الفلسطينيون) أن يتركوا (قطاع غزة) إلى تلك المساحات المفتوحة حيث سنعدّ- نحن والمجتمع الدولي- البنية الأساسية ومدن الخيام، وسنمدهم بالماء والغذاء”[2].
تهديد عمره من عمر النكبة
منذ نكبة فلسطين، والحركة الصهيونية، التي أرادت الأرض من دون شعبها، ترى في صحراء سيناء مساحة واسعة يمكن تهجير الفلسطينيين إليها وتوطينهم فيها.
كانت الحكومة المصرية، التي انبثقت عن ثورة 22 تموز/ يوليو 1952، لا تزال تبحث عن طريقها على صعيد السياسة الخارجية، ومشدودة لقضاياها المحلية، عندما وافقت في عام 1953؛ وعقب شهور من المفاوضات مع وكالة “الأونروا”؛ على مشروع يقضي بتوطين نحو 12 ألف أسرة من لاجئي قطاع غزة على أراض في شمال غرب صحراء سيناء. بعد جعلها صالحة للزراعة، عبر إيصال نسبة من مياه نهر النيل سنوياً إليها. وقد خُصص لهذا المشروع، الذي حظي بدعم الإدارة الأميركية آنذاك، 30 مليون دولار. عندما بدأت الصحف المصرية بالتلميح إلى المشروع، في أيار/مايو 1953، انطلقت التحركات الشعبية في قطاع غزة ضده. ثم اتخذت هذه التحركات أبعاداً جديدة عقب العدوان الإسرائيلي الواسع على القطاع، في 28 شباط/فبراير 1955. آنذاك، انطلقت، في الأول من آذار/مارس، تظاهرة حاشدة من مدرسة “فلسطين الرسمية” في مدينة غزة، شارك فيها الأساتذة والطلاب وسائقو السيارات والباصات وأصحاب الدكاكين. وعلت هتافات تردد: “لا توطين ولا إسكان/ يا عملاء الأمريكان”، “كتبوا مشروع سيناء بالحبر/ وسنمحو مشروع سيناء بالدم”. يومها تصدت قوات الشرطة المصرية للمتظاهرين بالرصاص الحي، وسقط أول شهيد، حسني بلال، وكان عامل في مصانع النسيج في مدينة المجدل ولاجئ إلى مدينة غزة.
التظاهر تخطت حدود مدينة غزة، وانتشرت في بقية مدن القطاع وقراه ومخيماته؛ من بيت حانون شمالاً حتى رفح جنوباً. وجرة تشكيل “اللجنة الوطنيَّة العليا” للإشراف على الحراك الشعبي وتأطيره” ممثلة من شيوعيين وإسلاميين وقوميين ومستقلين. وجرى اختيار مندوبين عن تلك التظاهرات في كل مخيم من مخيمات القطاع. كما تشكّلت لجان لحراسة المتظاهرين، الأمر الذي أجبر السلطات المصرية على تفويض مدير المباحث في القطاع، سعد حمزة، بالتفاوض مع اثنين من “اللجنة الوطنية العليا” هما الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني في القطاع الشاعر معين بسيسو وعضو قيادة جماعة الإخوان المسلمين فتحي البلعاوي. وإثر تلك المفاوضات، قررت السلطات المصرية إلغاء مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء، واتخذت قراراً بتدريب وتسليح الفلسطينيين في المخيمات[3].
بعد قيام إسرائيل باحتلال قطاع غزة، خلال عدوان الخامس من حزيران/يونيو 1967، طرح الوزير يغال آلون مشروعاً لنقل أعداد من اللاجئين من قطاع غزة إلى ثلاث مناطق في منطقة العريش المصرية، بتمويل إسرائيلي، على أن تبدأ المرحلة الأولى بـ 50 ألفاً منهم. بيد أن ذلك المشروع رفضته مصر رفضاً قاطعاً. فعاد قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، أريئيل شارون- الذي كان يشن، في سنة 1971، حملة دموية لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة- وطرح مشروعاً لاقتلاع 12 ألف لاجئ من مخيمات القطاع ووضعهم في محطات لجوء أخرى في صحراء سيناء. لكن مصر رفضت بشدة هذا المشروع كذلك، و”أصبح رفض التوطين في سيناء جزءاً راسخاً من العقيدة الأمنية والسياسية للدولة المصرية”[4].
منذ نكبة فلسطين، والحركة الصهيونية، التي أرادت الأرض من دون شعبها، ترى في صحراء سيناء مساحة واسعة يمكن تهجير الفلسطينيين إليها وتوطينهم فيها
عشية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في خريف سنة 2012، برزت مخاوف من قيام إسرائيل بتنفيذ خطة “تهدف إلى ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى سيناء كوطن بديل”، و”تحويل الأزمة الفلسطينية نحو الجارة المصرية، في مواجهة تفاقم حالة الفشل الأمني في سيناء”. وذكرت تقارير أن الخطة الإسرائيلية تقضي “بترحيل نحو 1.5 مليون فلسطيني من غزة إلى سيناء والعريش”. وتعليقاً على تلك الخطة، قال رئيس مؤسسة تنمية سيناء محمد شوقي رشوان للصحافيين إن “مشروع سيناء كوطن بديل للفلسطينيين يمكن أن يتحقق إذا لم نمضِ قدماً في تنمية المنطقة”. بينما صرّح عادل سليمان، مدير المركز الدولي للدراسات الاستشرافية والاستراتيجية، بأن “مشروع الوطن البديل يشجعنا على مراجعة خطة التنمية طويلة المدى لسيناء واختيار خطة عاجلة تهدف إلى تطوير الطرق المؤدية إلى سيناء، وتسهيل انتقال سكانها إلى مناطق مصر الأخرى”[5].
رفض مصري حازم
تباينت مواقف المحللين الغربيين إزاء مشروع توطين قسم من سكان قطاع غزة في سيناء، عقب إعادة طرحه في هذه الأيام. البعض رأى أن هناك أسباباً تشجع مصر على قبول مثل هذا المشروع، الذي قد يعني “زيادة المساعدات العسكرية الأميركية والدعم الغربي إليها، والتمويل من وكالات الأمم المتحدة”. وقدّر آخرون أن الثمن الذي ستدفعه مصر، مقابل قبولها هذا المشروع، سيكون “سمعة مصر في العالم العربي والإسلامي”، فضلاً عن “التحدي من الشارع المصري”، ناهيك عن أن مصر “دولة مكتظة بالسكان واقتصادها هش، وهي لا تريد، في الواقع، أن ترى كتلة جديدة من الفقراء تدخل أراضيها”[6].
وبرغم المعاناة الشديدة التي يعيشونها جراء العدوان الإسرائيلي المستمر، عبّر سكان القطاع عن تخوفهم من أن تلحق بهم نكبة جديدة في حال نجاح ترحيلهم إلى سيناء. وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حازماً عندما دعاهم إلى البقاء على أراضيهم. وأعلن، يوم الخميس في 12 تشرين الأول/أكتوبر، أن سكان غزة يجب أن يظلوا “حاضرين في أراضيهم”، معرباً عن مخاوف مصر من سعي إسرائيل إلى “إفراغ غزة” من سكانها[7].
وخلال استقباله المستشار الألماني أولاف شولتس في القاهرة، الأربعاء الماضي، ألقى السيسي خطابه “الأكثر شمولاً وعنفاً” حول هذه القضية، إذ قدّر أن دفع الفلسطينيين إلى مغادرة أراضيهم هو “طريقة لإنهاء القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار”. وقال: “إن فكرة إجبار سكان غزة على الانتقال إلى مصر ستؤدي إلى تهجير مماثل للفلسطينيين من الضفة الغربية، الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وهذا سيجعل إقامة دولة فلسطين أمراً مستحيلاً … ومن شأنه أن يجر مصر إلى حرب مع إسرائيل”، فضلاً عن أنه “من خلال نقل الفلسطينيين إلى سيناء، فإننا ننقل المقاومة والقتال إلى مصر. وإذا انطلقت هجمات من أراضيها، فعندها سيكون لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها (…) وستضرب الأراضي المصرية”. وخلص السيسي إلى أن السلام الموقع بين إسرائيل ومصر عام 1979 “سوف يذوب بين أيدينا”، وأنه “إذا كانت الفكرة هي التهجير القسري، فهناك النقب…ويمكن لإسرائيل بعد ذلك إعادتهم (إلى غزة) إذا أرادت ذلك”[8].
من جهته، حذَّر العاهل الأردني عبد الله الثاني، الأسبوع الماضي، من “أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من كافة الأراضي الفلسطينية أو التحريض على تهجيرهم”، مضيفاً أنه “يجب ألا تمتد الأزمة إلى الدول المجاورة وتؤدي إلى تفاقم قضية اللاجئين”. كما أعلن أن إجلاء سكان غزة: “هو أمر غير مقبول وسيدفع المنطقة نحو كارثة أخرى ودورة جديدة من العنف والدمار”، مؤكداً أنه “لن يكون هناك لاجئون في الأردن ولا في مصر”، وأنه من الضروري معالجة “الوضع الإنساني في غزة والضفة الغربية”.
كذلك حذر الرئيس الفلسطيني محمود عباس وزير الخارجية الأميركي، خلال لقائهما في عمان، من أن تهجير وطرد المزيد من الفلسطينيين من غزة “سيكون بمثابة نكبة ثانية”[9].
– بالتزامن مع (مؤسسة الدراسات الفلسطينية).
[1] https://www.bfmtv.com/international/moyen-orient/israel/bande-de-gaza-pourquoi-l-ordre-d-evacuation-lance-par-israel-semble-difficile-a-suivre_AV-202310130094.html
[2] https://www.alhurra.com/egypt/2023/10/15/غزة-سيناء-جدل-توطين-فلسطينيين-مقابل-حوافز-يعود-للواجهة
[3] https://www.palquest.org/ar/highlight/21229/هبة-آذار-مارس-1955-في-قطاع-غزة
[4] https://www.youm7.com/story/2023/10/19/أرشيف-الدستور-الأردنى-يفضح-المخطط-القديم-لتهجير الفلسطينيين-قصة-مانشيت/6344303
[5] https://news.gnet.tn/archives/revue-de-presse-internationale/israel-veut-faire-du-sinai-une-patrie-de-substitution-pour-les-gazaouis/id-menu-957.html
[6] https://www.lefigaro.fr/international/conflit-israel-hamas-pourquoi-l-egypte-refuse-d-accueillir-les-refugies-de-gaza-20231017
[7] https://www.courrierinternational.com/article/ultimatum-evacuation-de-la-bande-de-gaza-les-palestiniens-redoutent-un-nouvel-exil-force
[8] https://www.rfi.fr/fr/moyen-orient/20231018-pour-sissi-accueillir-des-gazaouis-rendra-impossible-l-%C3%A9tablissement-d-un-%C3%A9tat-de-palestine
[9] https://www.i24news.tv/fr/actu/israel-en-guerre/1697622496-transferer-des-refugies-gazaouis-dans-le-sinai-reviendrait-a-entrainer-l-egypte-dans-une-guerre-avec-israel-dit-sissi