إلى البعض من أحبتي اللبنانيين.. لسنا في موناكو!

أحزنُ كثيراً، في داخلي، عندما أتحاور مع بعض أهلي اللّبنانيّين، خصوصاً منهم الشّباب، وفي سياق ما يجري حولنا اليوم، لا سيّما في غزّة الحبيبة وفي فلسطين المحتلّة. لا أُبدي هذا الحزنَ أمامَهم دائماً، ولكنّني مقتنعٌ بأنّنا أمام مشكلة حقيقيّة وعميقة.. وكبيرة في هذا المجال.

تعيشُ بيئات لبنانيّة معينة في وهمٍ عجيب؛ وكأنّ لبنان “جزيرة” سياحيّة وترفيهيّة معيّنة، وهناك من يُخرّب لنا “الحفلة” المستمرّة، على الدّوام.. من فلسطينيّين وسوريّين وعراقيّين وما إلى ذلك من أناس أغراب وغرباء وعرب وأعراب مخرّبين.. يأتون من فضاءٍ ما، أو من “يابِسةٍ” ما، أو من جُزُرٍ أخرى بعيدة عن “جزيرة لبنان” السّياحيّة والتّرفيهيّة الساحرة!

وضمن سياق ما يجري من مذبحة تاريخية غير مسبوقة في غزّة حاليّاً: ينتفضُ عليك بعض هؤلاء عندما تذكُرُ أمامَهم أهمّيّة ما قامت به المقاومة الفلسطينيّة في غزّة، أو ما يُمكن أن تقوم به إلى جانبها – على الأرجح – حركات المقاومة في لبنان وفي المنطقة.. ولو بالتّدرّج.

لسانُ حالٍ أعجبُ من الحَال!

يقول لك هؤلاء، في لبنان، وعلى الدّوام أو عند كلّ محطّة إقليميّة كبرى تقريباً:

  • لماذا يُقحَم لبنان في “حربٍ لا تعنيه”؟
  • ما دخلنا في حروب فلسطين، ومنها حربُ غزّة الحاليّة؟
  • أتركونا وشأنَنا ودعونا نعيش! نُريد أن نستمتع بالحياة وأن نسبح ونتشمّس ونغنّي ونرقص ونسهر.. لماذا يُخرّب لنا “حزب الله” وأصدقاؤه الفلسطينيّون والسّوريّون والعراقيّون واليمنيّون والإيرانيّون (وغيرهم) هذه الـParty؟
  • فعلاً، لماذا تُخرّبون لنا هذه الجزيرة الخياليّة التي اسمها “لبنان”. إنّها جزيرة منفصلة عن الجغرافيا والتّاريخ والجيو-سياسة.. فلماذا تُقحمونها في حروبكم دائماً؟

بالله عليك، أيّها القارئ العزيز: هل نحنُ أمام خطاب يستوي في العالم الواقعي والحقيقي؟ حتّى ولو تركنا فلسطينَ وأهلَها (وما إلى ذلك من قضايا).. هل يستوي هذا التّموضع المجنون، الذي يعتبر – في وعيه ولا وعيه على السّواء – أنّه يعيش إمّا على “جزيرة غربيّة” وسط هذه المنطقة المشرقيّة.. أو أنّه يعيش على كوكبٍ وهميٍّ مُبين؟

***

الخطاب.. مسؤوليّة نخبة وقادة معيّنين

من الواضح أنّ العامّة تتْبَع النّخبة والقيادات السّياسيّة والدّينيّة بشكل خاص (لا سيّما في مشرقنا الحبيب). فأيّ نُخبةٍ هذه وأيّ قياداتٍ مجنونة: قد ربّت أصحاب هذا الخطاب “اللالا لاندي” على تلك الأوهام المجنونة منذ نشوء الكيان اللّبناني العجيب؟

أيُّ جنونٍ هذا؟

يا أحبتي؛ أنتُم لستُم في موناكو هنا ولا في دبي ولا في إحدى الجزر السّياحيّة التّرفيهيّة! أنتم هنا على الحدود المباشرة لإحدى أكبر معضلات العالم والإنسانيّة: قضيّة فلسطين وقضيّة شعب فلسطين. أنتم على بُعد كيلومترات من القدس، من حيفا، من عكّا، من يافا.. ومن غزّة!

أنتم على بُعد بعض الكيلومترات من عاصمة آراميّة وبيزنطيّة وعربيّة عظمى، لم تقُلْ كلمَتَها الفاصلة بعدُ في هذا الزّمان: دمشق! وإن لم تُريدوا الإصغاء إليّ، فاسمعوا من سعيد عقل (وهل أكثر “لُبنانَويّةً” من سعيد عقل الزَّحليّ مولانا؟):

قرأتُ مجدَكِ في قلبي، وفي الكُتُبِ/ شآمُ، ما المجدُ؟ أنتِ المجدُ لم يغِبِ!

إلى بعض إخواننا من اللّبنانيّين: لكي نبقى على هذه الأرض، علينا أن نعيش ضمن واقعها وفي كلّيّته.. وإلّا سيكون بقاؤنا هنا مُهدّداً على الدّوام: إمّا بالحروب والمشاكل وعدم الاستقرار المُزمن.. أو بالرّحيل بلا عودة (إلى مكان ترفيهيّ حقيقيّ هذه المرّة)

أنتم في بقعة ليست ببعيدة عن مراكز تواجد “الدّواعش” وغيرهم من وحوش العصر الحديث. أنتم في موقع ليس ببعيد عن دولة ذات طموح وماضٍ إمبريالي كبير كتركيا.

وخلفَها، إلى الشّمال، روسيا: ذات الجيش الذي إذا رأيتَ أوّلَه.. فلنْ تُرى آخرَهُ إلّا إذا كنتَ ذاْ بأسٍ شديد كبير!

أنتم أبناء هذا الشرق. أنتم في بقعة قريبة جدّاً من إيران، ومن الخليج العربي، ومن مركز توتّر نفطي و”طاقَوي” عالمي! أنتم قريبون جدّاً من المشكلة الكردّية ومن المشكلة اليمنيّة ومن المشكلة المصريّة الكامنة (خصوصاً منذ كامب دايفيد).. وقريبون – بشكل شبه مباشر – من مشكلة التّواجد العسكري والأمني الأميركي في منطقتكم!

أنتم، يا سيّدات ويا سادة: في قلب الكارثة المتأتّية من مؤامرة سايكس-بيكو.. ومن مؤامرة انشاء الكيان الإسرائيلي الغاصب على أرض غيره، والمحرّف لتاريخِه ولتاريخِ غيره!

أنتم وباختصار: تماماً.. إلى جانب البركان الدّيني والإثني والجيو-سياسي والاقتصادي والعسكري العظيم! فأيّ واهمٍ قد أقنعكم بأنّكم تقيمون على “جزيرة”؟

لا تقومُ بذلك إلّا نُخبٌ فاسدة، لكن أيّ نُخبٍ هذه التي تُقنع بيئاتٍ كاملة بأنّها بمنأىً عن الواقع الجغرافي والتّاريخي والجيوسياسي التي تعيش ضمنه؟

هذه، برأيي الخاص، ليست نُخباً: وإنّما هي أدوات لترويض وتنويم الشّعوب.. تسهيلاً لاستعمارها الفكري والسّياسي والاقتصادي.

فعلاً، نحن أمام مشكلة حقيقيّة في بعض البيئات في لبنان.. والتّعويل هو على الأجيال الشّابّة الجديدة، وعلى بعض القادة السّياسيّين والرّوحيّين المتنوّرين.

لا يُمكن أن يستمرّ هذا الوهم وهذا التّوهّم (بل هذا النّفاق): إلى أين تذهبون بشبابكم من خلال هذا الخطاب ومن خلال هذه التّربية المجنونة؟ هذا الخطاب وهذه التّربية لا يوصلان برأيي إلّا إلى:

إقرأ على موقع 180  الآثار السورية في مهب "الريح التركية"!

١/ قلّة المناعة، عموماً، أمام المستعمرين والأعداء وذوي الفتنة والحروب الأهليّة على مختلف أشكالهم؛

٢/ قلّة المناعة أمام الخطاب العنصري والفاشي (وما هذا باكتشاف جديد في لبنان، وللأسف)؛

٣/ اليأس من البقاء في هذه الأرض بسبب الاصطدام الحتميِّ الحصول: مع الواقع ومع حقيقته؛

٤/ وبالتّالي؛ الهجرة وترك هذه الأرض، عاجلاً أم آجلاً (وما هذه بالملاحظة الجديدة أيضاً، وللأسف).

***

إنّنا، جميعاً، نعيش في منطقة دقيقة جدّاً ومتقلّبة جدّاً. كياناتنا الوطنيّة ما زالت هشّة في الأعمّ الأغلب. هويّاتنا الوطنيّة والقوميّة ما زالت هشّة أيضاً وفي الأعم الأغلب: ولم تتخطَّ بعدُ مرحلةَ التّكوّن. ما زالت أغلب دولنا تعيش تحت استعمار ضمني و/أو ظاهر.

في وسط منطقتنا: زُرع كيانٌ عسكري وأمني وسياسي واقتصادي كغدّة سرطانيّة زُرعتْ وسط خلايا الجسم. لا تَواجُده طبيعي، ولا مُحيطه يستطيع أن يتقبّله. في منطقتنا أيضاً: تَصولُ وتَجولُ جيوشٌ وأساطيل استعماريّة كبرى، بهدف السّيطرة على موارد الغاز والنّفط بشكل خاص.

في منطقتنا أيضاً: إمبراطوريات تاريخيّة عظمى، لا زالت نائمة، أو بدأت تستفيق تدريجيّاً.

في منطقتنا كذلك: قضايا إنسانيّة كبرى.. من القضيّة الفلسطينيّة، إلى مختلف القضايا المتعلّقة بالأقلّيّات. أضف إليها جميعَها: تواجدنا في وسط النّضال الإنساني المستمرّ ضدّ بعض المفاهيم الدّينيّة والمذهبيّة الرّجعيّة والمتخلّفة.

هذا كلّه في منطقتنا. ومنطقتنا فيها أيضاً مختلف الجوانب الايجابيّة والثريّة والمشرّفة (جغرافيّاً وتاريخيّاً وإنسانيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً واقتصاديّاً.. وليس ذلك موضوع حديثنا هنا).

نعيش في منطقة دقيقة جدّاً ومتقلّبة جدّاً. كياناتنا الوطنيّة ما زالت هشّة في الأعمّ الأغلب. هويّاتنا الوطنيّة والقوميّة ما زالت هشّة أيضاً وفي الأعم الأغلب: ولم تتخطَّ بعدُ مرحلةَ التّكوّن

ولكن؛ لا يمكننا أن نعيشَ على أرض كهذه الأرض – عظيمة الثّروات وعظيمة التّحدّيات معاً – من خلال وهمٍ، وتحدٍّ دوغمائي للواقع. علينا أن نتقبّل هذه المنطقة كما هي، تماماً كما علينا أن نتقبّل هذه الحياة الدّنيا: بسلبيّاتها وبإيجابيّاتها.

هل يدفعُ عاقلٌ نفسَه إلى الرّحيل من أرضه، وبفعل يدِه؟ علينا أن نتنبّهَ سريعاً إلى خطورة هذه العقليّة وإلى جنون هذه المفاهيم.. التي تفرض على الفرد وعلى المجتمع: اصطداماً مرضيّاً – حتميّاً ودائماً، واعياً ولا-واعياً – مع الواقع من حولهما!

***

لذلك، أنصح بعض إخواني وأعزّائي من أهلي اللّبنانيّين، كما أسلفت، بالتّنبّه وسريعاً. وأنصحهم بالخروج فوراً من هذه الأوهام المسمومة والمدسوسة عمداً.. والتي ما فتئتْ بعض الجهات “السّياديّة” تُسوّقها – مثلاً – في السّياق اللّبناني الرّاهن.

إلى بعض إخواننا من اللّبنانيّين: لكي نبقى على هذه الأرض، علينا أن نعيش ضمن واقعها وفي كلّيّته.. وإلّا سيكون بقاؤنا هنا مُهدّداً على الدّوام: إمّا بالحروب والمشاكل وعدم الاستقرار المُزمن.. أو بالرّحيل بلا عودة (إلى مكان ترفيهيّ حقيقيّ هذه المرّة).

فهلْ من متّعِظٍ يتَّعظُ.. في يومٍ ما، في زمنٍ ما؟

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  "أمريكا العمياء".. مع إسرائيل بلا حدود