هل يُصبحُ “الأمير محمّد”.. “ملكَ العرب”؟

نعم، من الممكن لوليّ العهد السّعودي، الأمير محمّد بن سلمان، أن يشكّل نقطة فاصلة في التّاريخ العربي المعاصر. لا يحولُ دون ذلك، برأيي، سوى اتّخاذ قرارات استراتيجيّة (كبرى وخطيرة) صحيحة.

بعيداً عن التّوهّم والمجاملة، فالحقّ أنّ محمد بن سلمان قد فاجأ الكثيرين في الآونة الأخيرة، سواء في الداخل السعودي، أم خارج المملكة، ومنهم من يُعتبرُ من خصوم آل سعود التّاريخيّين.. أقله بالمعنى الثقافي أو العقائدي. وإذا عدّدنا أبرز التمايزات نتلمس الآتي:

  • توجّهات ولي العهد السّعوديّ الدّاخليّة والتي تأخذ – حسب بعض المعلومات الواردة – طابعاً جذريّاً (لم أكن أتوقّعه شخصيّاً، لا سيّما على المستويات الثّقافية والدينية والتّنموية).
  • إعادة تموضعه الدّولي الجريء جدّاً، برغم جزئيّته حتّى الآن، لا سيّما في تعاطيه مع الخلاف الرّوسي-الأميركي الرّاهن، وفي القضايا المتعلّقة بمنظّمة أوبك+ وأمن الطّاقة العالمي.
  • شبه الانقلاب الذي قام به إقليميّاً من خلال توقيع اتّفاق علني، وتحت رعاية صينيّة واضحة وبيّنة، مع الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران (بالفعل، أظهر هذا التّطوّر للكثيرين أنّهم – ربّما – يستخفّون بالعقل الاستراتيجي للأمير الشّاب).
  • محاولته لعبَ دورٍ أساسيّ وحقيقيّ في قيادة المشهد العربي، ولو تطلّب ذلك الانفتاح على سوريا بعكس الإرادة الأميركيّة مثلاً (الظّاهرة على الأقل).

فهل يمكن اعتبار الأمير محمّد بن سلمان ليس فقط مشروعَ ملكٍ للسّعوديّة، بل مشروعَ قائدٍ جديدٍ وجدّيٍّ للعرب.. أو بطريقة أكثر شاعريّةً ووضوحاً في الوقت عينهِ: هل يمكن لـ”الأمير محمّد”.. أن يُصبحَ “ملكَ العرب”؟

لمَ لا؟

يملك الأمير الشّاب ما لم يملكْه السّابقون من الذين حاولوا بناء مشروعٍ عربيّ وحدويّ ونهضويّ جدّي: الموقع الإقليمي المحوري؛ انتماؤه إلى الطّائفة التي تشكّل الأكثريّة المذهبيّة ضمن المجتمعات العربيّة والإسلاميّة؛ رمزيّة “خدمة” الحرمَين الشّريفَين (بالنّسبة إلى عددٍ من المسلمين)؛ الإمكانات الماليّة الهائلة، ذلك المالُ الذي لا تُحرقه النّيرانُ على حدّ تعبير البعض.

القدرات والإمكانات وهوامش التّحرّك التي بحوزة الأمير الشّاب هائلة، وفي ظلّ انعدام أيّ مشروعٍ عربيٍّ جدّيٍّ آخر، يمكنه بالطّبع أن يطمح للوصول إلى حلم تزعّم العرب في طريقهم نحو نهضتهم ووحدتهم (التي قد تأخذ أشكالاً مختلفة طبعاً). وفي خطابه المستجدّ تلميحٌ صريحٌ إلى هذه الفكرة العامّة.

نعيد تأكيد إيماننا بأنّ “الأمير محمّد”، نعم، قادرٌ على أن يُصبح “أمير العرب” وقائدهم وزعيمهم وفي هذا التّوقيت بالذّات. ولكنّ عليه أيضاً، برأينا، أن يُثبت أنّه قادرٌ على القيام بثوراتٍ استراتيجيّة وتاريخيّة. فرصةٌ كهذه لا تتحقّق كلّ يوم.. ونحن ربّما أمام فرصة، ونأمل أن يكون “الأمير محمّد” متنبّهاً إلى ما تعنيه، وخصوصا إلى ما تتطلّبه

ولكنّ تحقيق هذا الحلم تحكمه ـ برأيي ـ شروطٌ صعبةٌ أشدَّ الصّعوبة، ومرتبطةٌ جميعُها بخيارات استراتيجيّة كبرى، يتوقّف تحقيقها على جرأة الرّجل وشجاعته وصبره وحنكته في آنٍ معاً (وليس فقط على الإعلانات والتّصريحات ذات الصّوت التّرويجي المدوّي، كما تعوّدنا من ناحية بعض الأنظمة العربيّة).

خيارات استراتيجيّة كبرى 

لا تهمّ خلافاتنا واختلافاتنا في ما يخصّ مُلكَ العائلة السّعوديّة الحاكمة، وفيما يخصّ تأويلنا السّلبي أو الإيجابي للدّور الذي لعبته هذه العائلة خلال ما يقارب القرن والنّيف من الزّمن إلى اليوم. لا يتحرّك التّاريخ دائماً بهذه البساطة: فقد تحدُثُ “قفزاتٌ” مفاجئة في مسير الأمور ومجريات الأحداث.. وقد تظهر “الثّورة” من آخر مكانٍ نتوقّعه وفي زمانٍ لم نتوقّعه أبداً.. وقد يخرج “الثّائر” من نظامٍ وعائلةٍ لم يتوقّعهما أحد! كما رأينا في المقالات السّابقة، وفي الغالب: لا يسير التّاريخ بشكل خطّي، ولا تحدثُ التّغيّرات الكبرى حسب التّوقّعات المبنيّة على دراسة معطيات الماضي.

نعم، يُمكن للأمير الشّاب أن يصبح “ملكَ العرب”، وفي هذا التّوقيت السّعودي والإقليمي والدّولي بالذّات، إذا ما أخذ الخيارات الاستراتيجيّة الكبرى الصّحيحة، برغم صعوبتها وخطورتها الجمّة. وأهمّها ـ برأيي ـ الآتي:

أولاً؛ القضيّة الفلسطينيّة:

 لا يمكن لمشروع “ملك العرب” أن يبقى محبوساً ضمن سياسة: أنّ إيران، وقبلَها جمال عبد النّاصر، “يزايدان” علينا في مسألة مواجهة ومقاومة إسرائيل. ما الذي يمنع العرب عن أن يزايدوا على إيران في هذه القضيّة أصلاً؟ بالطّبع، هذا كلام بعيد عن الاقناع، ولا يُمكن لمن يبغي قيادة المشروع العربي الجديد أن يحمل هكذا خطاب.

قضيّة فلسطين هي معيار العروبة في هذا الزّمان، كما سبق وأوضحنا في مقال سابق، ولا يمكن لمشروع قائد العرب إلّا وأن يتموضع بشكل صحيح في ما يخصّ هذه القضيّة: فمن الضّروري وضع خطّة استراتيجيّة للضغط على الغرب في هذا الإطار بهدف الوصول إلى حلّ عادل وجذري.. وإلّا فما الذي يمنعُ مشروع “ملك العرب” ـ مثلاً ـ من أن يموّل ويدعم حركات مقاومة حاليّة أو مستقبليّة؟ فليحاولْ مشروعُ قائدِ العربِ الضّغط بالأشكال الدّبلوماسيّة (والماليّة) المتاحة، لا ضرر في ذلك. ولكن، إن استمرّت الحالة الظّالمة واستمرت فلسطين بالصّراخ “واعرباه! وامَلِكاه! وامَشروعاه!”، فلا بدّ من السّير ـ مقاومةً وعسكرةً ـ على قول أبي تمّام رّبما (مع دراسة لخطّة العمل طبعاً):

بِيضُ الصّفائحِ لا سودُ الصّحائفِ، في مُتونِهنَّ.. جلاءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ

لا مجال للمسايرة في ما يخصّ القضيّة تلك. فلا بدّ من الذّهاب في اتّجاه حلّ جذري وعادل للقضيّة الفلسطينيّة: إنّه المعيار الأوّل والأهم في هذا الزّمان كما سبق وفصّلنا، وإلّا يكون مشروع قيادة العرب هذا مجرّدَ مضيعة للوقت.

ثانياً؛ الاستعمار الجديد والمتجدّد:

من الضّروري الإفلات والخروج من تهمة وصبغة التّبعيّة العمياء للاستعمار البريطاني (القديم) والأميركي (الجديد). أظنّ أنّ الشّعوب العربيّة لا تكره الشّعبَين البريطاني والأميركي على الإطلاق، ولكنّها تعتبر أنّ السّياسات الاستعماريّة والمهيمنة لحكومات البلدَين ظالمةٌ لشعوبنا. من المهمّ أن نحافظ على علاقة ممتازة مع الشّعوب الغربيّة ومع النّخب المنفتحة في الغرب: ولكن من الضّروري أيضاً أن نخرج من واقع وصبغة التّبعيّة لأي مشروع استعماري. وهذا لا يتحقّق بمجرّد “التذاكي” على الأطراف المتنافسة (كالصّين وأمريكا مثلاً)، وإنّما من خلال العمل الجدّي على التّحرّر من سطوة الجميع: عسكرةً، وسياسةً، واقتصاداً، ونفطاً، وتكنولوجيّا.

إقرأ على موقع 180  بزشكيان إلى حكومة وسطية.. لا إصلاحية ولا أصولية؟ 

ثالثاً؛ تنويع الإنتاج (وعدم الاتّكال على موارد الطّاقة الطّبيعيّة فقط):

برأيي، على مشروع قيادة العرب المعاصر أن يعمل على فكّ اتّكاليّة اقتصادات العرب – والخليج بشكل خاص – على صادرات النّفط والغاز خصوصاً. ولا يكون ذلك من خلال تشييد أبنية شاهقة ومناطق حرّة فقط: وإنّما، خصوصاً، من خلال استخدام الأصول الهائلة للدّول الخليجيّة والعربيّة في سبيل تحويلنا إلى اقتصادات منتِجة.. ومتفوّقة تقنيّاً.

من الضّروري بالنّسبة إلى أي مشروع نهضوي خليجي و/أو عربي أن يضع خطّة جدّيّة وواضحة وملموسة لتنويع الصّادرات والعائدات والأصول:

(١) كيف نوظّف الأصول الحاليّة والمستقبليّة بشكل استراتيجي (لا على شكل قفزات اعلاميّة وسياسيّة قصيرة الأمد)؟؛

(٢) ما هي الصّناعات التي علينا أن نتخصّص فيها لنتحوّل من خلالها إلى اقتصادات منتِجة لا غنى عنها في أسواق المستقبل؟

يتطلّب الأمر، بالطّبع، تشكيل فرق عملٍ متخصّصة (خاصّة وحكوميّة)، ووضع خططٍ حكوميّة – محلّيّة وإقليميّة – منسّقة، تكون بدورها واضحة وملموسة ومنظّمة.. لا مجرّد النّداء بذلك وترداده في الصّحف والخطابات.

رابعاً؛ تنمية الدّول العربيّة ككلّ:

برأيي الخاص، من يريد قيادة العرب، عليه أن يُبيّن لهم كيف سيستخدم إمكاناته الهائلة في سبيل تأسيس خطّة تنمويّة عامّة للبلاد العربيّة. من المؤكّد أنّ التّوظيف المناسب للأصول الماليّة الهائلة التي تملكها الدّول الخليجيّة الشّقيقة يُمكن أن يتسبّب بنهضة تنمويّة واقتصاديّة عامّة.. ليست فقط في هذه الدّول وإنّما أيضاً في مختلف الأقطار العربيّة.

 أنظر مثلاً إلى سياسة الصّين الذّكيّة جدّاً والاستراتيجيّة جدّاً في ما يخصّ الاقتصادات المجاورة لها: تحاول الصّين خلق أسواق واستهلاك لإنتاجها (ونفوذها)، حيثُ ـ ربّما ـ لا سوق ولا استهلاك حاليّاً. والهدف هو التّحسّب لاستبدال الاستهلاك الأميركي في حال وقوع أيّة قطيعة جدّيّة مع الولايات المتّحدة و/أو الغرب. ما الذي يمنع الأموال العربيّة من السّير في الاتّجاه نفسه، مع تعديلات مناسبة؟

أظنّ أنّه علينا – كعرب – أن نخرج من فكرة أن نشتريَ أمننا السّياسي والعسكري والاقتصادي.. من خلال الاستثمار غير المثمر (كما حاولنا في الماضي مع دونالد ترامب وغيره). على دولنا، برأيي، أن توجّه الإمكانات والأصول الماليّة بما يحقّق لها أمنها المستقلّ عن هذه الإمبراطوريات ذات الأجندات الاستعماريّة كلّها.

قضيّة فلسطين هي معيار العروبة في هذا الزّمان، كما سبق وأوضحنا في مقال سابق، ولا يمكن لمشروع قائد العرب إلّا وأن يتموضع بشكل صحيح في ما يخصّ هذه القضيّة: فمن الضّروري وضع خطّة استراتيجيّة للضغط على الغرب في هذا الإطار بهدف الوصول إلى حلّ عادل وجذري

خامساً؛ النّهضة الفكريّة والثّقافيّة العربيّة-الإسلاميّة:

لا يمكن لمشروع “ملك العرب” أن يسجن نفسه ضمن أي إطارٍ فكريّ سلفيّ (من أي مذهب كان). لا يطلب أكثر العرب الرّجوع إلى القرون الهجريّة الأولى.. وإنّما يطلبون السّير والقفز نحو القرون المقبلة (بما يحترم قيم السّلفِ الصّالح الأساسيّة طبعاً). لا يمكن لمشروع “ملك العرب”، برأيي، أن يسجن نفسه ومشروعه ضمن أيّ إطار سلفيّ أو تكفيريّ: فعلى “ملك العرب” وقائدهم أن ينفتح عليهم جميعاً.. لا أن يأتي إليهم (أي إلى العرب) بمن يُكفّر بعضهم، ويهدر دم بعضهم الآخر، ويحرّض بعضهم على بعض دون توقّف.

على أيّ مشروع قياديّ ونهضويّ عربيّ أن يأخذ بعين الاعتبار ضرورة:

(١) القيام بنهضة اصلاحيّة دينيّة وثقافيّة عامّة (لا تختصّ بمذهب دون آخر)؛

(٢) التّقريب الجدّي ـ لا الإعلامي والتّرويجي ـ بين مذاهب العرب والمسلمين، من خلال الحوار الحضاري والبحث العلمي الجدّي؛

(٣) إيقاف مهزلة بروباغندا الصّراع السّنّي-الشّيعي، والتي بدأت عند الاحتلال الأميركي للعراق خصوصاً. على “ملك العرب”، برأيي، أن يُثبت أنّه قادرٌ على أن يكون ملكَهم جميعاً.. لا ملكَ الوهّابيّة ـ مثلاً ـ دونَ الشّيعة وبعض الأشاعرة والصّوفيّة (وما إلى ذلك من أمثلة طبعاً).

يحتاج العرب والمسلمون إلى من يوحّدهم وينهض بفكرهم وحضارتهم واقتصاداتهم وجيوشهم. يحتاجون إلى من يحرّرهم من الاستعمار ومن التّبعيّة، وإلى من يحرّر أرضهم.. وعقلَهم.

الأجندة المتخيّلة سهلة البيان، ولكنّها صعبة التّحقيق والتّطبيق بلا شكّ.

ولكن، بالمقابل: هل يُمكن أن تُصبحَ ملكاً وقائداً لأمّة بلا تضحيات جمّة وآلامٍ كبرى ومجازفاتٍ عُظمى؟

بالطّبعِ لا.. ولذلك، نعيد تأكيد إيماننا بأنّ “الأمير محمّد”، نعم، قادرٌ على أن يُصبح “أمير العرب” وقائدهم وزعيمهم وفي هذا التّوقيت بالذّات. ولكنّ عليه أيضاً، برأينا، أن يُثبت أنّه قادرٌ على القيام بثوراتٍ استراتيجيّة وتاريخيّة كالتي ذكرناها. فرصةٌ كهذه لا تتحقّق كلّ يوم.. ونحن ربّما أمام فرصة، ونأمل أن يكون “الأمير محمّد” متنبّهاً إلى ما تعنيه، وخصوصا إلى ما تتطلّبه.

قد تحصلُ عجيبةٌ كهذه، (لمَ لا؟)، ويظهرُ “ملِكٌ” للعربِ في هذا العصر. وهل نحنُ في شكٍّ من عجائبِ هذا الوجود وقفزاته المباغِتة؟

أمّا إنْ لم يأذن اللهُ بعدُ بظهورِ ملكٍ عربيٍّ كهذا: فلينتظروا، بصبرٍ وتوكّلٍ، “ملكَهم” من مكانٍ وزمانٍ آخر ربّما..

وكما تحدّثنا في مقالاتٍ سابقة: فللهِ وحدَهُ تُرجعُ – قفزاتُ[1] – الأمور.

 [1] نغمزُ هنا، طبعاً، من زاوية ما تحدّثنا عنه سابقاً عن أنّ حركة التّاريخ لا تأخذ شكل سيرٍ خطّيّ في أكثر الأحيان.. بل شكل “قفزاتٍ” وجوديّة (تأتي مباغتةً في أكثر الأحيان وأهمّها).

(*) الرسم منقول عن “فايننشال تايمز”

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  فلسطين "اليوم التالي".. ماذا عن "يوم سابق" لم يُغادرها؟