حكاية رحيل وترحال.. زيتون وجوري وريحان

هل يقوى الرحيل على السفر؟ وهل السفر مطية للرحيل؟ وهل الرحيل هو السفر أو العكس؟

لطالما تبادلت العجوزتان في دار المسنين هذا السؤال المتفرع من سؤال واحد. ولطالما لم تلتقيا على جواب واحد، ما عدا تنهدات تستدعي ماضٍ حُبِكت حوله سرديات الرحيل الأولى.. وحكايات الترحال الثانية، في انتظار الرحيل الأخير عن الحياة الدنيا، وليس عن هذي الأرض. الأرض التي وُلدوا وكبروا فيها. زرعوا فيها التين والزيتون، وشاركوا في حلقات الدبكة في مواسم الحصاد الصيفية، وقطفوا الزعتر البري في مواعيد اللقاءات الأولى، ونثروا وريقات الجوري والريحان في الأفراح والأتراح.

سنرحل، كما رحلنا مرتين. ولكن في المرتين السابقتين بقينا في أرضنا – تقولان – وفي الرحلة الأخيرة سنبقى تحت ترابها. إنها حكاية الرحيل الذي لا يقوى على السفر، ولا السفر الذي يقوى على الرحيل.

نعم، إنها حكاية الرحيل الذي لا يهنأ على مضنيات الإسترحال، بالقوة أو باللين، ولا باحتمال عطف ذوي القربى، وحبهم للضيافة التي اشتهروا بها، كعادة تَقيهم لفحات الغدر وتركيب التحالفات المؤقتة، المبنية على أوتاد ورياح. فأصول الضيافة – تقول إحداهن – وقد عادت بها الذاكرة إلى سنوات الصبا، عندما كانت تجود النفوس بتكريم الضيوف بأكثر مما تتيحه الإمكانيات. قالت، وسكتت، وتنهدت، ثم استجمعت القليل من الكلام تُطرّي به روحها المُتّقدة، المُتوقّدة على جمر الهسيس من الكلام الدائر حول ترحيل وترحال. حول سفر وتسفير ملغوم. سفر وترانسفير.. هذا الترانسفير تذكره العجوزتان جيداً، فقد نزحتا سيراً على الأقدام ما بين البحر والنهر، وعبثاً كانت محاولات اقتلاعهما، وكان الفشل متلازمة الاقتلاع.. فالرحيل – تقول الثانية – هو نصف الموات في روح الإنسان، فكيف إذا ما اقترن بالترحيل. تتابع، وتفرك أصابعها النحيلة، كما وجهها المحفور بجروح النكبة وويلات المشاهدات على مجازر متنقلة ما بين البحر والنهر، وعلى امتداد عقود أسّست لكيان مستورد بأساطير التزوير والدعايات المُمّوّلة من أساطين مرتكبي المحارق وبائعي الأوهام.

على الشاطئ في الرحلة الثانية، ساهمت العجوزتان الأرملتان بفقدان الزوجين وهما الثكلتان باستشهاد عدد من أولادهما في إحدى المجازر التي ارتكبتها عصابات بني صهيون. ساهمتا في تثبيت الأعمدة الخشبية. فكان مخيم الشاطئ في غزة. وكانت بيوت وغرف وممرات تفصل وتتلاقى بين الأزقة، وشجيرات تشرب ملوحة البحر، وأطفال يبنون على الرمال قصورهم، ويعجنون من حبيباته ومياه المد طينة أحلامهم. ومن عجائن الدهر خبزت العجوزتان حكايات الوطن، والأرض، والحواكير، والزيتون وأشبعتا نهم الصغار في الليالي الباردة بقصص تدفئهم بنار الحب، والتمسك بالحق كالخبز اليومي، واحتضان الأمل، وأسرار العشق لهذا التراب الممتد ما بين البحر والنهر.

لم تكن العجوزتان بمنأى عن سماع هسيس تدبيرات الرحيل أو الترحيل كما وصفوها، وأن هذه التدابير يقودها ذوو القربى، بما لا يدع للشكوك مكان تأفف، فالأهل أهل وإن جار الزمن، والأهل من أصحاب الدار وذوو القربى هم الضيوف، وبيوت الضيق تتسع لألف صديق، وأن وأن وأن..

وعلى مرأى من حابكي هسيس تلك التدابير، وقفت العجوزتان شامختي الكلمة، منتصبتا الرأي، منحنيتا الظهر بأثقال الزمن، واكتفتا بالقليل: فليكن ذوو القربى هم ضيوفنا.. وأهلا بالضيف.

(*) الرسمان بريشة الزميلة منى سكرية

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  نصف قرن على رحيله.. عبد الناصر يدافع عن عبد الناصر
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": القرار النهائي بشأن النووي السعودي يُتخذ في واشنطن