في الأيام الأولى لـ”طوفان الأقصى”، خرج صوتٌ إسرائيليٌ يقول صراحة ما مضمونه: سوف نُهجِّر الفلسطينيين من غزة إلى سيناء ولن تستطيع مصر الرفض لأنها تعاني أزمة اقتصادية حادة.
إذاً هذه هي كلمة السر في خطة الحرب الإسرائيلية على غزة، أي استغلال إسرائيلي للأزمة الاقتصادية التي تعانيها مصر ومن خلالها فرض خطة جديدة ـ قديمة تقضي بتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وهي الخطة التي يبدو أن الإسرائيليين لم يتوقفوا يوماً عن التفكير بها. وهم استعانوا بالإدارة الأميركية، ترغيباً وترهيباً، لثقتهم أن لديهم من الأدوات ما يجعل المصريين يخضعون للإملاءات الأميركية الغربية.
وبدلاً من رفض المصريين القاطع للفكرة، ظهر هوانٌ، وربما قلة حيلة، في الموقف المصري، استغله الإسرائيليون الذين يستشعرون ضعف ضحاياهم، فينقضون عليهم، سواء مباشرة أو بشكل غير مباشر، لفرض شروطهم التي لا تنتهي. وحين تحدث الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في حضرة المستشار الألماني، أولاف شولتس، في القاهرة، في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة إلى شمال سيناء، لم يرفض التهجير من حيث المبدأ، بل اقترح بديلاً عن ذلك تهجيرهم (مؤقتاً) إلى صحراء النقب، إلى حين انتهاء الإسرائيليين من “القضاء على الإرهاب”، كما وصف السيسي المقاومين في غزة، ثم إعادتهم إلى غزة، بعد الانتهاء من تلك المهمة “إذا شاء الإسرائيليون”، كما قال. واستند في اقتراحه ذلك إلى توقعاته أن “الإرهاب” سينطلق من سيناء إلى قطاع غزة إذا أعاد الإسرائيليون احتلال القطاع ولم يسمحوا للفلسطينيين بالعودة إليه.
في المقابل، كان موقف الأردن من تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إليه مختلفاً عن الموقف المصري. وقد استمر الأردنيون بترداد رفض الفكرة على لسان الملك الأردني عبدالله الثاني، وصولاً إلى تصعيد موقفهم عبر إعلان وزير خارجيتهم، أيمن الصفدي، الخميس في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، موقفاً شجاعاً، بتَّ فيه بمصير اتفاقية “تبادل الطاقة مقابل المياه” (مع الإسرائيليين) والتي كانت قد واجهتها معارضة شعبية، حين صرّح أن بلاده لن توقِّعها. وأردف أن الظروف الحالية لن تسمح بأي تفاعل مع الإسرائيليين، ولهذا السبب فإن اتفاقية السلام بين الطرفين ستصبح “وثيقة يتراكم عليها الغبار”. وهو تهديد نوعي، يأتي في وقته ليوحي للإسرائيليين بأن الأمور ستعود إلى المربع الأول قبل التطبيع.
ولم يكد يمضي يومان حتى عاد الصفدي وعزّز موقف بلاده من قضية التهجير حين قال: “لن نسمح أبداً بتهجير الفلسطينيين”، وأكد أن الأولوية هي لوقف الحرب والسماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة.
كرّر الإسرائيليون والأميركيون عبارة “حوافز اقتصادية” ومكاسب ستجنيها مصر إن وافقت على مشروع التهجير إلى سيناء. وجرى الكلام عن شطب الديون المصرية، ووعود بتقديمات مالية سنوية وتسريع عملية حصولها على قروض معلقة.. وكل هذه المعطيات والأرقام تشي بأن الإقتصاد المصري ليس بخير
لم تُحصِّن مصر، وربما دول عربية كثيرة، بيتها الداخلي في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية الماثلة أمامها، إذ أن هذا التحصين يتطلب اتخاذ قرارات صعبة، وأولها المصالحة مع شعوبها، وعدم مصادرة الحريات والحقوق، واعتماد التنمية البشرية المستدامة التي تحقق لهذه البلدان وشعوبها الاستقرار الاقتصادي الذي ينعكس قوة للبلاد. غير أن هذه الدول فعلت عكس ذلك حين استعْدَت شعوبها، وتغاضت عن الخطر الحقيقي المتمثل بالكيان الإسرائيلي، والتي اعتقدت أنها بتطبيع العلاقات معه سوف يتحول إلى حملٍ وديع تجتنب شروره. لذلك لم يسحب الإسرائيليون هذه الورقة، اعتقاداً منهم أن مصر في لحظة ما ستكتشف أنها ستكون مضطرة للقبول بتهجير سكان غزة إليها.
ولأن مصر لا ترفض فكرة تهجير سكان القطاع بشكل مبدئي، بل لأن ذلك سيُعدُّ بمثابة تصدير مشكلة لها، كما ترى قيادتها، لذلك لعب الأميركيون والإسرائيليون على هذا الوتر، محاولين التقليل من مخاطر تلك الخطوة إذا ما قورنت بمكاسب مصر التي ستجنيها من توطينهم في شمال سيناء، وهي التي تعاني من تضخم وصلت نسبته في أواسط أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى نحو 38%، في وقت وصل سعر صرف الدولار في السوق الموازية في نهاية الشهر الماضي إلى 50 جنيه مصري للدولار الواحد، إضافة إلى أن الإقتصاد المصري يواجه حالى من التضخم غير مسبوقة، فضلاً عن ضغط الديون المستحقة وفوائدها؛ إذ سيكون على مصر سداد أكثر من 29 مليار دولار خلال سنة 2024. وكرّر الإسرائيليون والأميركيون عبارة “حوافز اقتصادية” ومكاسب ستجنيها مصر إن وافقت على مشروع التهجير إلى سيناء. وجرى الكلام عن شطب الديون المصرية، ووعود بتقديمات مالية سنوية وتسريع عملية حصولها على قروض معلقة.. وكل هذه المعطيات والأرقام تشي بأن الإقتصاد المصري ليس بخير، لا سيما بعد استنزافه بمشاريع غير منتجة، مثل العاصمة الإدارية وأخواتها من المدن الجديدة المصممة على قياس طبقة ميسورة جداً.
وإذا أمعنا في واقعة قطع الإسرائيليين الغاز من حقلي تمار وليفياثان بشكل متدرج عن مصر، بعد حربهم على غزة، فلا يحيلنا هذا إلا إلى ما رشح عن دورٍ إسرائيليٍ ما في أزمة سد النهضة الإثيوبي، لأجل تقليص حصة مصر من مياه النيل لتقويض زراعتها وصناعاتها المعتمدة على الطاقة الآتية من السد العالي، ثم تكليل هذا الأمر بقطع الغاز لزيادة أزمة الطاقة فيها حدّةً وزيادة تأزم الاقتصاد المصري، ناهيك عن الجوع الذي يُمكن أن يُهدّد المصريين بسبب الجفاف. وليس مستبعداً أن يستعين الإسرائيليون بالأميركيين (سلاح القروض والمساعدات الأميركية السنوية المقررة لمصر) من أجل الوصول إلى مرادهم.
في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، طالبت مصر بضرورة إدخال المساعدات إلى القطاع، لكيلا يندفع مئات آلاف الفلسطينيين نحو حدودها طلباً للماء والغذاء، ما يخلق مشكلة لها. أما السكوت على رفْض الإسرائيليين مرور المساعدات عبر معبر رفح الخاضع للسيادة المصرية، فهو موقف لا يليق بدولة بحجم مصر وقوتها العسكرية وتاريخها، وحسناً فعل الرئيس المصري خلال مؤتمر صحفي في القاهرة، جَمَعه مع رئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا، في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بقوله: “لن نسمح بتهجير الفلسطينيين.. لأن ذلك يعني تصفية القضية الفلسطينية”.
وفي الوقت نفسه، لوحظ عودة الإعلام المصري لاستخدام مفردات “العدوان”، و”جيش الاحتلال”، بدلاً من عبارة “الأوضاع المتفجرة” التي دأب على استخدامها سابقاً. كما عاد لبثّ أغاني فترة حرب 1973، ما يدل على أن المصريين بدأوا يتحسسون رقابهم خوفاً من الوحش الذي لبس ثوب الحمل ولاعبهم طيلة سنوات التطبيع بانتظار اللحظة المناسبة للانقضاض عليهم، والتي قرر أنها قد حانت.. الآن.