“أبو عبيدة” أدخل في قواميس لغتنا السياسية مُصطلحاً مُبتكراً. فالنفق في عالم البناء والمواصلات غيره في مصطلح أبناء غزة. ونفق سجن جلبوع الذي حفره في العام 2021 ستةٌ من الأسرى الفلسطينيين بأصابع توقهم إلى الحرية وجَّه صفعة باسم كل المقاومين الأحرار لعدوهم الاستيطاني/الإحلالي المحتل. والنفق في العلم العسكري وسيلة اختباء وحماية وحياة، لكنه في مصطلح “أبو عبيدة” أكثر من ذلك. إنه نفق الحرية والتحرير. نفقٌ يُوغل في تضليل العدو وخرائطه الجغرافية والتقنية، وغلوّ ذكائه الاصطناعي، ووَهنْ جيشه الجبان.
تتباهى الدول بحفر الأنفاق لتسهيل عيش مواطنيها في تنقلاتهم. وتتنافس في بناء الأوسع والأطول والأكثر جمالاً كما شبكة أنفاق مترو موسكو التي تحوّلت إلى ما يُشبه المتحف بأرقى ما فيها من لوحات جدرانية ومنحوتات دالّة على حقبات تاريخية وثقافة موروثة لهذا الشعب الحضاري، وثمة أنفاق في العديد من دول أوروبا فيها ألق التاريخ أيضاً وتتميز بقدرتها على استيعاب حركة جمهور مليوني ذهاباً وإياباً. هكذا تصبح مُدن الأنفاق عالماً قائماً بذاته بحشد البشر من كل جنس وعرق ولون وروائح العطورات وعرق العمال وأولئك الفقراء المشردين.
ويحفل تاريخ العمليات العسكرية بحكايات الأنفاق التي كانت تُقام تحت القلاع والحصون والأسوار في الأزمان الغابرة، وهو مسار إستمر وشهدنا فصولاً له في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعرفناه أكثر مع تجربة ثوار فيتنام (الفيتكونغ) للإيقاع بخصمهم الفرنسي ثم الأميركي. وعرف اللبنانيون هذه الإنفاق إبان حروبهم الأهلية كما خلال حربهم ضد الإحتلال الإسرائيلي (1978 ـ 2000) وخلال تجارب الإعتقال في معتقلات أنصار والخيام.
ومنذ تحرير غزة في العام 2005، بدأت ترتسم معالم حكاية أنفاق فلسطينية لا مثيل لها في التاريخ، وربما يأتي اليوم الذي تُدرّس هذه التجربة في أرقى الكليات العسكرية. حتى أن المتديّنين الإسرائيليين وبينهم إيتمار بن غفير انخرطوا في “حرب” حفر الأنفاق تحت المسجد الأقصى بحثاً عن هيكلهم المزعوم، وغير المُثبت لدى كبار علماء الآثار، وهو الأمر الذي ينفيه القس سهيل سعود في كتابه الهام “القدس في الفكر المسيحي” وفيه يقول إن صعود السيد المسيح إلى السماء كرّس هيكل الله في الكنيسة وليس في هيكل سليمان الحجري (عن دار منهل للحياة).
واستنزف النفق مخيّلة الشعراء، فكتبوا للنور المنبعث من آخر ظلمته. وراجت أعمال أدبية وروائية عن النفق، وأبرزها “التنين الذي أرعب الصيّاد” للأسير الفلسطيني زكريا الزبيدي أحد أبطال عملية نفق الحرية بخروجهم من سجن جلبوع، وكذلك رواية “النفق” الصادرة في العام 1948 للأرجنتيني أرنستو ساباتو.. وتوارثت الأجيال مفردة النفق كدليل لمسير حياتهم نجاحاً أو فشلاً (فات بالنفق أو تجاوز النفق). ولكن النفق الذي أخرجه “أبو عبيدة” من الخدمة تدليلاً على إيمانه بسطوة الأنفاق التي تثير الرعب في نفوس بني صهيون وجيشهم المقهور هو غير النفق والأنفاق. إنه نفقٌ خارج الخدمة كي يثير إرباك العدو وخرائطه. والنفق هنا أيضاً ليس مشتقاً من النفاق، ونفوق الأجساد البلهاء، ونفوق الثروات المُكتسبة بعرق السرقة والاحتيال. نفق مختلف عن الأنفاق المغمورة بالتراب الأبدي، وعظام الأوابد. إنه نفقٌ من شعلة حرية، وصبر، وعقول مبدعة، ومقاومون ينيرون الأنفاق بأضواء أرواحهم، ونفوسهم الطاهرة، وفلسطينهم المحررة حتماً.
نفق خارج الخدمة يصلح عنواناً لعمل فني سينمائي، أو مسرحي، أو رواية أدبية، أو لتصاريح وزراء النقل والبنى التحتية، إلّا أن إشهار “أبو عبيدة” لهذه الكلمات الثلاث كأنما أطلق شعاراً ومصطلحاً في علم التفسير النفسي والعسكري والإعلامي. إنه عصر طوفان المعنى لمن لا يملك الدليل والحجة و.. الضمير.