تعيش الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على النظام الدولي، منذ ثلاثة عقود تقريباً، حالة من عدم وضوح الرؤية الإستراتيجية، في مرحلة إنتقالية بالغة الأهمية، وذلك لحضور عوامل طارئة شكّلت انزياحاتٍ واضحةً للهيمنة المطلقة لواشنطن على العالم؛ فهي تكافح اليوم جاهدة للحفاظ على مكانتها وكلمتها ومشاريعها ورؤيتها إلى عالم متكيّفٍ مع مصالحها الاستراتيجية، حتى لو كان ذلك عنوةً، وبالحديد والنار حينًا، وبالعقوبات الاقتصادية، والحصار حينًا آخر..
انتقلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من الانخراط في تفكيك الملفات المعقّدة في المنطقة، ابتداء من اليمن مرورًا بالملف النووي الإيراني وانتهاءً بالاستفادة من إنجاز إدارة دونالد ترامب في موضوع اتفاقيات أبراهام، إلى إعادة الانخراط في وحول الشرق الأوسط ومشاكله، بعدما روّجت إدارات الديموقراطيين للتخفّف من أحمال الشرق الأوسط ومتاعبه وأزماته!
لم يقتصر الأمر على الإدارة الديموقراطية؛ بل انسحب ذلك على إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، الذي قال عن هذه المنطقة “إنها منطقة رمل وموت”، وحاول الانسحاب من سوريا لثلاث مرات، قبل أن يتدخّل البنتاغون، وأصابع الدولة العميقة في واشنطن لمنعه من ذلك. ثم انخرط لاحقًا في رمال المنطقة ووحولها، فانسحب من اتفاقية العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) في الأول من أيار/مايو من العام 2018، وتوّج هذا الانقلاب باغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس على طريق مطار بغداد في مستهل العام 2020.
بعثرة الأولويات
يقول ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد “إنّ إدارة بايدن تتقن فن بعثرة الأولويات”. ويشير في مقال نشره في مجلة “فورين بوليسي” في العام 2021 وأعاد نشره مؤخرًا على منصة (X) إنّ على صناع القرار في الولايات المتحدة الأميركية إعادة النظر في العلاقة الخاصة بإسرائيل، وإنّ على الولايات المتحدة ألا تمنح إسرائيل بعد الآن دعمًا غير مشروط على الأصعدة العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، وأن فوائد هذه السياسة صفر، بينما تكلفتها في المقابل آخذة في الارتفاع.
يتابع ستيفن والت أن إسرائيل كانت في الماضي تُمثل رصيدًا إستراتيجيًا قيمًا للولايات المتحدة، على الرغم من اعتقاده بالمبالغة في تقدير هذه القيمة في كثير من الأحيان، غير أن قيمتها الإستراتيجية اليوم صارت أقل بكثير مما كانت عليه خلال فترة الحرب الباردة، وأن الدعم غير المشروط لإسرائيل أصبح يخلق مشاكل لواشنطن الآن أكثر مما يحلها.
شكّل العام 2022 علامة فارقة على مستوى الأحداث الدولية، ففيه قدّمت إدارة الديموقراطيين حرب أوكرانيا على المنافسة الاستراتيجية مع الصين، التي أكّدت عليها استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس جو بايدن في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 (بالمناسبة، فإنّ استراتيجيتي الأمن القومي لإدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب كانتا متطابقتين من حيث تشخيص التهديد الصيني للولايات المتحدة كأولوية) وهو ما تماشت معه الورقة الاستراتيجية الأمنية لحلف شمال الأطلسي المنعقد في مدريد في آب/أغسطس 2022، ولكن عمليًا اختار بايدن فتح الحرب مع روسيا، وقدّمها على أولوية المنافسة مع الصين.
الإدارة الأميركية لا تبذل جهدًا كافيًا لوقف الحرب، والانتقال إلى مرحلة التفاوض السياسي، طالما أنّ حركة حماس لم تخسر الحرب، وطالما أنّ إسرائيل لم تربحها؛ وبالتالي، فإنّ حالة من الارباك والتخبط وعدم اليقين واللاتوازن هي التي تتحكّم اليوم بالموقف الأميركي من الحرب، وعدم القدرة على ترتيب الأولويات، إضافة إلى افتقاد إدارة بايدن الإجابة عن سؤال اليوم التالي للحرب
خيارات المواجهة
تشكّل الصين الرأس الأول من الهرم، والهمّ الأبرز عند الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ إطلاق الرئيس أوباما نظرية “الاستدارة شرقًا” في العام 2010 وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قد أشار بشكل واضح في خطابه في جامعة جورج واشنطن في أيار/مايو من العام 2022 إلى “العشرية الحاسمة” في سباق المنافسة مع الصين، وأنّ الأخيرة هي الدولة الوحيدة في العالم التي لديها النيّة والقوّة الاقتصادية والتكنولوجية لإعادة تشكيل النظام الدولي.. وأنّها تشكّل “أخطر تهديد طويل الأمد على النظام الدولي”.
وطالما أن الولايات المتحدة تدرك أن صراعها اليوم هو مع الصين، وليس مع أي دولة في الشرق الأوسط، ولا حتى مع روسيا، لأنّ هذه الدول لا تشكّل منافسًا حقيقيًا لها، فلماذا تتلهّى بإعادة الانخراط بصراع في الشرق الأوسط، ما يُمكن أن يُعيق تفرغها لـ”الملف الصيني”؟ وهل صحيح أنّ الولايات المتحدة لم تسعَ إلى حربٍ في المنطقة، بل انساقت إليها بدافع الخوف على إسرائيل وعلى مصالحها في الإقليم؟ وما مدى صحة فرضية أنّ خصومها نجحوا في استدراجها إلى المنطقة؟ وماذا ستستفيد واشنطن من وقوفها الأعمى خلف إسرائيل ومن استفزاز كل الخصوم والأعداء دفعةً واحدة في المنطقة؟
الحرب الشاملة
يقول الكاتب والأديب الأميركي الأكثر شهرةً أرنست همنغواي في روايته “وداعًا أيها السلاح”: “لا يوجد أسوأ من الهزيمة، سوى النصر الذي يمكن أن يكون أسوأ في بعض الحالات”.. ونحن ننتقل إلى منطقة الاحتمالات، ثمة جملةٌ من الأسئلة طُرحت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على علاقة وثيقة بالولايات المتحدة ودورها وحضورها، وكونها الدولة الأكثر قدرة على إدارة الصراعات وتوجيهها وضبطها أو تفلتّها. ولكنّ لم تتم الإجابة على هذه الأسئلة بشكل مقنع، ربما لأنّ الموضوع ليس خاضعًا للتمنّع عن الإجابة، بقدر ما هو قصور عن ذلك.
من جملة هذه الأسئلة: هل تستطيع الولايات المتحدة منع فتح جبهة جديدة في منطقة معقّدة، عانت ما عانته في العقدين الأخيرين؟ وكان آخرها انسحاب الجيش الأميركي تحت النار من أفغانستان في صيف العام 2021، وما الذي تغيّر حتى تُبدّل واشنطن رأيها، ولا تقاوم بشكل فعّال إعادة الانخراط في صراعات الشرق الأوسط، وماذا ستستفيد واشنطن من إشتعال المنطقة، وهي على أبواب انتخابات رئاسية طاحنة في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الحالي؟ إضافةً إلى أنّ مكتسبات الولايات المتحدة في المنطقة وازنة جدًا، والمجازفة بالتفريط بها، أو بجزء مهم منها، مراعاةً للمصالح الإسرائيلية فقط، ستكون خطوة يشوبها الكثير من التسرّع والخفّة.
والسؤال الأبرز هو: هل تريد واشنطن فعلًا وقف الحرب في غزة، أم أنها تعتبر أنّ المضي قُدُمًا في دعم إسرائيل يحقق المصالح الأميركية؟ وهل صحيح أنّ إدارة بايدن لا تستطيع الضغط على حكومة بنيامين نتنياهو الذي يفضّل خصمه دونالد ترامب عليه؟
فإذا كانت الإجابة بنعم، فإنّ ذلك مؤشّر كبير على تراجع التأثير الأميركي على الحلفاء، بعدما تخطى الخصوم حواجز الرهبة من الردع، وباشروا عملية الاصطدام المباشر (العراق، سوريا، البحر الأحمر) فإذا كانت واشنطن فعلًا، لا تريد أن تتوسّع الجبهة، لتتحوّل إلى حرب شاملة في المنطقة، وهذا ما يُكرّره معظم المسؤولين الأميركيين، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فلماذا لا تبذل واشنطن جهودًا كافية لمنع إسرائيل من المجازفة بأمن منطقة حيوية ومعقّدة لدرجة كبيرة، بعدما منحت واشنطن كل الفرص لإسرائيل لاستكمال الحرب على غزة، ولكن بعد وضوح التعثّر أو الإخفاق في الحرب على قطاع غزة، وعدم تحقيق النتائج المرجوّة، من المستغرب أن تبقى واشنطن منساقةً خلف رغبة حكومة نتنياهو في القتل والتدمير والانتقام.
الدعم اللامحدود لإسرائيل
وفي خضمّ البحث عن أسباب عدم قدرة واشنطن على لجم تل أبيب، هذا إذا سلمنا جدلًا أنها تريد ذلك، لا يحتاج الباحث إلى كبير عناءٍ ليُثبت الدعم اللامحدود لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، ابتداءً من حضور الرئيس جو بايدن شخصيًا إلى تل أبيب، وهي المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي يحضر فيها رئيس أميركي إلى إسرائيل في أثناء الحرب مباشرة (ريتشارد نيكسون زار اسرائيل بعد فض الإشتباك غداة حرب أكتوبر 1973)، إضافة إلى خمس زيارات قام بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى تل أبيب، وتصريحه المفاجئ في الزيارة الأولى أنه يأتي إلى تل أبيب بصفته يهوديًا، وليس فقط كوزير للخارجية الأميركية، إضافةً إلى تفعيل بند الطوارئ في إرسال صفقة أسلحة الى إسرائيل من دون المرور عبر قناة الكونغرس.
وتجلى الدعم الكامل لإسرائيل على جميع المستويات، فاستخدمت واشنطن حق النقص (الفيتو) مرتين في مجلس الأمن، وعملت على تجويف الثالث، وعارضت قرار الأمم المتحدة القاضي بوقف إطلاق نار إنساني، بعدما صوّتت لصالح القرار 152 دولة. وقامت واشنطن بإرسال أكثر من 230 طائرة شحن عسكرية وثلاثين سفينة تحمل ذخائر (17 ألف طن من الذخائر حسب الإعلام العبري)، وما زالت تروّج لسردية أنّ لإسرائيل حق الدفاع عن النفس، وهي دولة محتلة، وتنفي أن يكون الجيش الإسرائيلي يقتل المدنيين عمدًا، وكأنّ أكثر من ثلاثة وعشرين ألف شهيد هم من المقاتلين، وبينهم أكثر من تسعة آلاف طفل.
خاتمة
بناءً على ما تقدّم، وإذا أخذنا في الحسبان عدم وجود مصلحة أميركية في توسعة الحرب، كما يُردّد الأميركيون أنفسهم؛ إلا أن الملاحظ، في الوقت نفسه، أن الإدارة الأميركية لا تبذل جهدًا كافيًا لوقف الحرب، والانتقال إلى مرحلة التفاوض السياسي، طالما أنّ حركة حماس لم تخسر الحرب، وطالما أنّ إسرائيل لم تربحها؛ وبالتالي، فإنّ حالة من الارباك والتخبط وعدم اليقين واللاتوازن هي التي تتحكّم اليوم بالموقف الأميركي من الحرب، وعدم القدرة على ترتيب الأولويات، إضافة إلى افتقاد إدارة بايدن الإجابة عن سؤال اليوم التالي للحرب، وعن ماهية ما سيكون عليه قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار، إلا إذا كان الأميركيون يعتقدون أنهم يستطيعون تحصيل مكاسب سياسية من الفلسطينيين لصالح إسرائيل، تعويضًا عن الإخفاق الذي يرافق الحرب الأطول في تاريخ إسرائيل منذ إنشائها حتى الآن.. وأنّ الفلسطينيين سيعطونهم في المفاوضات، ما لم يقدروا على انتزاعه عبر أكبر حرب تدميرية لمنطقة صغيرة بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالي العودة إلى المربعات الأولى من الصراع، ودفن كل ما يقوله الأميركيون عن حل الدولتين، وبالتالي انتظار سابع من أكتوبر جديد.