تبدو شخصية مثل اليكسي نافالني مثالية بالنسبة إلى الغربيين في معركة تقويض شرعية الرئيس فلاديمير بوتين، الذي لا يمكن لأي عارف بالوضع الداخلي في روسيا إلا أن يقر بشعبيته الواسعة، وإن كان تصنيفه قد تراجع نسبياً في استطلاعات الرأي، نتيجة لعوامل اقتصادية صرفة – وإلى حد ما قد تكون مؤقتة – يعود بعض منها إلى تراجع النمو الاقتصادي في البلاد، وانعكاسات ذلك على المعيشة في روسيا، بسبب تداعيات جائحة “كورونا”.
على هذا الأساس، يمكن للغربيين، ولا سيما الأميركيين، ممن ترعرع الناشط والمدوّن المثير للجدل في أروقة مراكزهم لنشر “الديموقراطية”، أن يراهنوا على حالة نافالني، بغية إستنساخ “ثورة ملوّنة” جديدة إلى ميادين روسيا، على غرار نموذج “الميدان الأوكراني”، وأن يسخروا لذلك الماكينات الاعلامية، ولا سيما في الفضاء الإلكتروني، إن لاختلاق الأساطير التي يعاد تدويرها بأشكال مختلفة، أو لجذب فئات من جيل الـ”تيك توك” و”انستاغرام” لتقويض أسس الدولة الروسية، التي أثبتت خلال السنوات العشرين الماضية أنها عصية على التفكك.
ضمن هذا السياق، جاءت الأساطير التي مهّدت لخروج أنصار نافالني إلى الشوارع في جولتي 23 و31 كانون الثاني/يناير، واللتين جاءتا مخيّبتين لطموحات المخططين لها، أقله لجهة العامل العددي، حيث بدت المشاركة في أول يوم احتجاج (23 كانون الثاني/يناير) أقل بكثير من مثيلاتها خلال الأعوام السابقة، في حين تراجعت بشكل ملفت للانتباه في يوم الاحتجاج الثاني (31 كانون الثاني/يناير).
شكّل ذلك فشلاً للماكينة التي حاولت تكريس الأساطير الهادفة إلى تحفيز فكرة “الميدان الروسي” في المخيلة الجمعية، سواء في روسيا أو خارجها، وعلى رأسها “مضبطة الاتهام” الموجهة ضد بوتين، على خلفية “القصر” المزعوم – الذي تبيّن لاحقاً أنه مجرّد بناء قيد الانشاء لفندق على البحر الأسود، وأن كل محتوياته الباذخة لم تكن سوى مؤثرات بصرية (“غرافيكس”) مشغوله بحرفية عالية، وبتمويل يتجاوز قدرات المدوّن الروسي.
في الظاهر، يبدو ذلك سبباً منطقياً لأن تعمد السلطات الروسية إلى انهاء ظاهرة نافالني، إن من خلال حكم قضائي مرتقب اليوم، قد يعيده إلى السجن لمخالفته شروط وقف تنفيذ العقوبة على قضية الاختلاس التي حوكم لأجلها قبل سنوات؛ أو عبر عملية أكثر صرامة لتفكيك البنية التحتية للحركة التي يقودها، والتي فاحت منذ فترة رائحة ارتباطاتها الخارجية.
بناء على ما سبق، ثمة من يحاول وضع هذه الإجراءات الصارمة ضمن سردية “اختراق نافالني الخطوط الحمراء” عبر تصويبه على فلاديمير بوتين نفسه، بدلاً من “الحاشية”، كما درجت العادة.
غير أن الأمر لا يمكن مقاربته، في واقع الحال، بمثل هذا التسطيح الذي تقف خلفه إما عقول خبيثة تقود ماكينة اعلامية تسعى لشيطنة النظام الروسي، وتتناقله عقول كسولة تبني تحليلاتها وتقديراتها على ما تنتجه هذه الماكينة المذكورة.
السبب الفعلي يكمن في أن ثمة محاولة لتكريس اسطورة أكثر خطورة، وهي أسطورة نافالني “السياسي”، والتي حاول البعض التأسيس لها منذ سنوات، على مستوى النخبة الفكرية الليبرالية، على النحو الذي تمّ من خلاله الايحاء بأنّ الحياة السياسية في روسيا محصورة بين حزب حاكم (روسيا الموحدة) وبين معارضات تقليدية تمثل “الوجه الآخر للنظام” ضمن لعبة “توزيع أدوار”.
ثمة محاولة لتكريس أسطورة نافالني “السياسي”، والتي حاول البعض التأسيس لها منذ سنوات
كمثال على ذلك، كتب ميخائيل زيغار، في مؤلفه “كل جيش الكرملين” (2016) أن نافالني هو “على الأغلب السياسي الوحيد في بلد عدد سكانه 143 مليون نسمة”، معتبراً أنه “لو كانت في روسيا سياسة عامة علنية متاحة للجميع، لما كان نافالني وحيداً، ولكن، بما أنه لا وجود لها، فإنه لا وجود في الغالب لمجانين آخرين يتخلون عن الحياة لممارسة السياسة”.
وأكمل زيغار مطالعته عن نافالني كاتباً “لماذا لا يزال نافالني ثابتاً، واقفاً على قدميه، ويتابع حياته، كما وأن ثمة حياة سياسية عامة في البلاد، وهو يعلم علم اليقين بأن ساعته ستحل، وربما سيحل هو نفسه مكان بوتين في منصب الرئيس؟ ثمة تفسير واحد لذلك – إنه من كوكب آخر”!.
هذه التنظيرات، راحت تنقل من النخبة إلى العامة. ثمة من راح يقارن نافالني، في رحلة عودته من برلين إلى موسكو بعد تعافيه من عملية التسميم المزعومة، بنيلسون مانديلا والمهاتما غاندي، أو حتى فلاديمير لينين!
يتناقض ذلك مع حقيقة أن “مريض برلين”، كما أسماه فلاديمير بوتين، بعيد عن السياسة، وإن حاول ومناصريه الإيحاء بعكس ذلك، بغرض تقويض ليس النظام الروسي فحسب، بل أيضاً أحزاب المعارضة، التي نأت بنفسها عن تحركاته، برغم أنه يمكنها، من الناحية النظرية، أن تشكل رافعة لشعبيتها في مواجهة حزب “روسيا الموحدة” الحاكم.
لكل من احزاب المعارضة الروسية نظرة خاصة إلى نافالني: الشيوعيون ينبذونه لكونه أداةً في يد “الامبريالية”، وهو الوصف الذي خرج به غينادي زيوغانوف في المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية؛ المعارضون الجدد أمثال “من أجل الحقيقة” فضّلوا الابتعاد عنه، من منطلق توجهاته “الميدانية” التي يمكن أن تفقدهم “الناخبون الجيدون”، على حد تعبير أحد قادتهم مؤخراً.
انطلاقاً من خصوصية الحياة السياسية في روسيا، لا يبدو الكرملين نفسه مستعداً للقبول بتهشيم صورة المعارضة، على النحو الذي يحاول أنصار نافالني فعله، عبر تقديم أنفسهم على أنهم “معارضون حقيقيون” في مواجهة “معارضين مدجّنين”، ولذلك، فإنّ الخط الاحمر الفعلي يتمثل في محاولة منح مجرّد “مُنتَج إعلامي تسويقي”، على شاكلة نافالني، مكانة خاصة في الحياة السياسية الروسية، خصوصاً في ظل انكشاف جهود “تسخينه” من قبل الخصوم الجيوسياسين لروسيا.
هنا يبرز في الذهن سؤال منطقي: هل يمكن لـ”منتج إعلامي تسويقي” أن يشكل خطراً على منظومة حاكمة في دولة بحجم روسيا؟
بالطبع، ليس الخوف من الشخص بذاته، فقوة نافالني ليست في الشعارات والبرنامج، لا بل أن ثمة اجماعاً بين المحللين الروس على أن الحماسة الشعبوية لمناصريه – المنضوين ضمن مروحة ضيقة تشمل بعض المثقفين في العاصمتين الأولى (موسكو) والثانية (سانت بطرسبورغ) وجزء من جمهور اليافعين من جيل “تيك توك” و”انستاغرام” – لا يمكنها أن تصمد أمام الاختبار الأول في حال دخولهم منظومة الحكم في روسيا.
علاوة على ذلك، ثمة قناعة تامة لدى الرأي العام في روسيا بأن نافالني لا يعبر عن مصالح الناس، وإنما عن مصالح فئوية وأجندات خارجية مشبوهة، والدليل على ذلك التناقض الحاد في عدد الروس المستعدين للاحتجاج على الأوضاع الراهنة (تقدرهم استطلاعات الرأي بما بين 25 و30 في المئة أو حتى 50 في المئة في بعض الأقاليم)، وبين عدد المستجيبين لدعوات النافالنيين إلى التظاهر، والتي لا تتعدى في أفضل الأحوال بضعة أعشار الواحد في المئة في بعض المناطق، أي بما يقل كثيراً حتى عن التقييم الانتخابي الضئيل لنافالني والمقدّر بحسب استطلاعات الرأي بأقل من 2 في المئة.
مع ذلك، فإن قوة نافالني تكمن في تقنيات الدعاية الإعلامية وتكتيكات “الميدان الأوكراني”، التي يمكن تلخيصها في معادلة “لا تفكر.. انتشر”، والتي يتم اختبارها حالياً على نطاق واسع في روسيا، تماماً كما اختبرت في بيلاروسيا قبل أشهر، حيث أدى تطوير سيناريو مماثل إلى تقويض نظام الدولة، وخصوصاً في ظل الحرب الشرسة التي يخوضها الغرب ضد روسيا منذ خروجها من عشرية يلتسين السيئة الذكر، واستعادتها مكانتها على مسرح السياسة الدولية مع فلاديمير بوتين.
قوة نافالني تكمن في تقنيات الدعاية الإعلامية وتكتيكات “الميدان الأوكراني”، التي يمكن تلخيصها في معادلة “لا تفكر.. انتشر”، والتي يتم اختبارها حالياً على نطاق واسع في روسيا
غير أن ذلك ليس سوى رأس جبل الجليد، فالمشكلة الحقيقة في روسيا تكمن في أن “المنتج الاعلامي التسويقي” يحتل مكاناً خالياً من البديل السياسي، ليس وفق توصيف ميخائيل زيغار الآنف الذكر، وإنما بسبب تراجع قدرة أحزاب المعارضة الروسية التقليدية على تجديد خطابها وبرامجها وتطوير آليات عملها بين الجماهير، ما يفقدها القدرة على اعتماد الآليات السياسية التي تستجيب للمصالح الشعبية، ولا سيما تحسين الأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية ومكافحة الفساد، وهما العنوانان الأساسيان لشكوى المواطنين الروس.
ما سبق ينطبق أيضاً على “المعارضة الجديدة” من قبيل حركات “من أجل الحقيقة” و”الشعب الجديد” و”روسيا العادلة”، التي بات دورها مقتصراً على تشتيت الناخبين المعارضين، وهو ما يصب في مصلحة نافالني ورعاته الغربيين.
اليوم، ثمة من بدأ يطرح بدائل وطنية لاصلاح المنظومة السياسية في روسيا، كلها تدور حول فكرة كسر احتكار النخب المتركزة في حزب “روسيا الموحدة”، بما يجعل الحياة السياسية قائمة على تنافس حقيقي بين حزبين أو ثلاثة، بما يعيدها إلى الآليات السياسية الطبيعية، بدلاً من أن تكون أبوابها مشرعة على الحروب الإعلامية، ويجعلها محصورة بالقوى الداخلية، ما يحصّنها من أية محاولات خارجية لاستنساخ “الثورات الملونة” على الأرض الروسية.